مرَّت علينا الذكرى السنوية الثالثة لمجزرة كيبيك الكبير التي كان ضحيتها
ستة شهداء وست أرامل وسبعة عشر يتيمًا، وشهيد حي هو أيمن دربالي الذي تركه العدوان
معاقًا مدى الحياة، والعشرات من الجرحى، وجالية مكلومة ووطنًا لا يزال يعاني من تداعيات
هذه الجريمة الشنعاء.

لقد نظم العديد من المؤسسات الدينية والمنظمات المدنية والفعاليات السياسية
أنشطة ووقفات تضامنية لإحياء الذكرى، كما أن الاعلام المرئي والمسموع والمقروء أظهر
اهتمامًا كبيرًا بالمناسبة، حيث رأينا العديد من التقارير والمقالات والمقابلات مع
العديد من الخبراء والناشطين.

ولكن كل هذه الأنشطة والوقفات التضامنية والتقارير الإخبارية
والمقابلات لن تعيد لأرملة زوجها، ولن تعيد ليتيم أباه، ولن تعيد للشهيد الحي أيمن
دربالي صحته. ليس بإمكان أحد منا أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولن تعود الأمور
لما كانت عليه قبل يوم التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 2017.

لن نستطيع أن نعيد شهداءنا إلى الحياة، ولن نستطيع أن نعيد للشهيد
الحي صحته، ولكن لحماية
أنفسنا ومجتمعنا من العنف والكراهية وحتى لا يسقط ضحايا آخرون لا بد من استخلاص
الدروس والعبر، وهذه بعضها:

1. ضحايا
العدوان الإرهابي جاءوا من بلدان متعددة. لم يفرق رصاص الغدر بين أبيض وأسود، ولا
بين عربي وغير عربي. هذا ما
يؤكد أن الإسلام ليس حكرا على قومية دون أخرى أو بلد دون آخر، فمحمد صلى الله عليه
وسلم لم يبعث إلى قوم دون غيرهم، وإنما بعث رحمة للعالمين.

2. مرتكب
هذه الجريمة النكراء كيبيكي من أصول فرنسية كاثوليكية. وهذا ما
يثبت أن الاٍرهاب لا دين له ولا وطن له ولا قومية له. الاٍرهاب عدو لكل الأديان
وكل الأوطان وكل القوميات. كان كثير من الناس يحاولون إلصاق تهمة الاٍرهاب
بالمسلمين لمجرد أن بعض المسلمين أو من يدعون الإسلام من المغرر بهم كانوا يرتكبون
جرائمهم باسم الإسلام. يجب أن يعرف الجميع أن هؤلاء المغرر بهم لا يمثلون الإسلام
ولا المسلمين، كما أن مرتكب مجزرة كيبيك لا يمثل الكيبيكيين ولا الكنديين ولا
الفرنسيين ولا الكاثوليك. إنه لا يمثل إلا نفسه كما أن أولئك المغرر بهم لا يمثلون
إلا أنفسهم. كندا بريئة من قاتل الأبرياء في مسجد كيبيك والإسلام بريء من قتلة
الأبرياء باسم الإسلام.

3. شجعت مذبحة
مدينة كيبيك البعض على محاولة تشويه سمعة كيبيك من خلال محاولة اتهام كيبيك والكيبكيين
بكراهية الأجانب أو كراهية الإسلام. في هذا الصدد،
تجدر الإشارة إلى أنه قبل مذبحة المسجد في كيبيك عام 2017، كان هناك قتل المصلين في
الكنيسة في تشارلستون عام 2015، وبعد مذبحة كيبيك وقعت مذبحة
الكنيس اليهودي في بيتسبرغ عام 2018، والمذبحة التي أودت بحياة 51 شخصًا في مسجدين في نيوزيلندا عام 2019 والعديد من
المذابح الأخرى في جميع أنحاء العالم. بما أنه لا
ينبغي تحميل جميع المسلمين مسئولية الجرائم التي يرتكبها بعض المسلمين، يجب ألا نحمِّل
جميع الكيبيكيين مسئولية مجزرة مسجد كيبيك.

4. من بعض الإيجابيات
التي نتجت عن مجزرة مسجد كيبيك، رغم بشاعتها، وبسبب العمل الدءوب الذي قام به بعض الناشطين
من أبناء الجالية في حقل التعامل مع الإعلام، أن وسائل الإعلام الرئيسية من صحف وراديو
وتلفزيون بدأت تتوخى الحذر والحيادية عند معالجتها لأمور تهم المسلمين.

في الماضي كانت هذه الوسائل تتعامل مع الشأن الإسلامي بطريقة متحيزة
وإلى حد ما معادية للإسلام والمسلمين. كانت
أصابع الاتهام توجه الى المسلمين قاطبة في كل مرة يقع فيها اعتداء من طرف مسلم ما
في مكان ما من العالم، وكأن المسلمين في كل أنحاء العالم مسئولون عن تصرفات أي
مسلم في أي مكان من العالم. وكان
الإسلام، من وجهة نظر وسائل الإعلام هذه، دائمًا متهمًا بالإرهاب لأن شرذمة من
المسلمين، أو ممن يدعون الإسلام، تقوم بأعمال إرهابية.

كان المواطن المسلم متهمًا ومدانًا دون أن يفسح له المجال لشرح وجهة
نظره أو إبراز الحقيقة، فقلما كان يطلب رأيه في هذه الأمور. وإذا ما دعي أحد ما
للإدلاء برأيه، غالبًا ما كان يدعى أشخاص معادون للإسلام، وإن كانوا في بعض
الأحيان يحملون أسماء إسلامية، ويطلق على هؤلاء الأشخاص ألقاب «خبير بالشئون
الإسلامية» أو «خبير بشئون الاٍرهاب» أو «خبير بشئون الأمن القومي» وما شابه ذلك
من ألقاب. أما الآن فإننا نلاحظ بعض الحرفية والحيادية في التعامل مع الشأن
الإسلامي. وبدأنا نرى ظهوًرا إعلاميًّا لكثيرين من المطلعين فعلًا على الشئن
الإسلامية والمدافعين عن حقوق المسلمين.

ولقد كان لكاتب هذه السطور كما يعرف الكثير من القرَّاء حظ وافر من
الظهور الإعلامي للدفاع عن صورة الإسلام وحقوق المسلمين في هذا البلد. بكلمة مختصرة، بعد أن تعوَّد الإعلام في الماضي على الكلام عن
المسلمين، أصبح الآن يتكلم مع المسلمين، وهذا تغيير جذري على طريق إظهار الحقيقة
وإحقاق الحق.

5. لقد
أصبحت القيادات السياسية، أو على الأقل مجملها، تشعر أنه من غير الممكن الاستمرار
بتهميش المسلمين كما كان يحصل في الماضي. المسلمون جزء لا يتجزأ من المجتمع، ويجب
أن يتمتعوا بحقوقهم، وأن يقوموا بواجباتهم كأي مواطن آخر. لقد أصبح
السياسيون كالإعلاميين، ولو بدرجات تختلف من شخص لآخر ومن تيار سياسي لآخر، يشعرون
أن الكلمة مسئولية وأن هنالك مخاطر للاستمرار على ما اعتادوا عليه من الاستخفاف
بمشاعر شريحة معينة من المواطنين الذين هم المسلمون.

6. أصبح للمسلمين
حلفاء لا يمكن الاستهانة بوجودهم فمنظمات المجتمع المدني لم تعد تسمح بالاستفراد بمكونات
المجتمع كل واحدة على حدة.

قام العديد من الكنائس والمعابد اليهودية والمساجد ومنظمات المجتمع المدني
بالمبادرة في عام ٢٠١٩ بتكريس الأسبوع الأخير من شهر يناير من كل عام كأسبوع توعية
بالواقع الإسلامي في المجتمع الكيبيكي. الهدف من أسبوع التوعية الإسلامية، الذي شهدت
كيبيك هذا العام نسخته الثانية، ليس دينيًّا وليس المقصود منه شرح الإسلام لغير المسلمين،
وإنما هدفه مد الجسور بين مكونات المجتمع والتأكيد
على أن المسلمين في كيبيك مواطنون كغيرهم من المواطنين لهم ما لغيرهم من حقوق وعليهم
ما على غيرهم من واجبات.

7. بدأت كلمة
إسلاموفوبيا تشق طريقها ولو ببطء نحو القبول، وبدأت القيادات الفكرية والسياسية، ولو
بدرجات تختلف من شخص لآخر ومن تيار سياسي لآخر، تعترف بوجود هذه الآفة في المجتمع. ولكن الناس يختلفون على تحديد المسار الذي يجب اتباعه للقضاء عليها.

لقد حاول العديدون في الماضي الاختباء وراء منفذ الاعتداء الإرهابي
على مسجد كيبيك الكبير، مدعين أن العمل فردي، وأنه يجب عدم استعمال هذا الاعتداء
كدليل على وجود الإسلاموفوبيا في البلد. لكن
الأحداث التي توالت قبل الاعتداء وبعده أثبتت أن مرض الإسلاموفوبيا موجود ولا يمكن
التغاضي عنه ولا يجوز الاختباء وراء شخص واحد للتهرب من المسئولية. حملة الدعاية العنصرية وحوادث الاعتداء على المسلمين والمراكز
الاسلامية التي شهدتها كندا قبل وبعد المجزرة لم تكن من فعل هذا الشخص الذي كان
منذ اقتراف جريمته ولا يزال قابعًا خلف جدران السجن.

8. في شهر
كانون الأول/ ديسمبر 2019، أحيت كندا الذكرى السنوية الثلاثين للمجزرة التي ذهب ضحيتها أربع عشرة طالبة في معهد البوليتكنيك الجامعي
على يد قاتل معادٍ للنساء. لقد قامت السلطات البلدية في مونتريال بتغيير الكتابة
على اللوحة التذكارية لتشمل كلمة «معاداة النساء».

لقد كانت هذه البادرة الشجاعة خطوة كبيرة إلى الأمام ليصبح المجتمع
مجتمعًا ناضجًا يحترم نفسه ويحترم جميع مواطنيه. القول بأن النساء الأربع عشرة
اللواتي قُتلن في البوليتكنيك كنَّ ضحايا كراهية النساء أمر بديهي، ولكن الأمر كان
يتطلب شجاعة لم يكن المجتمع يملكها عند وقوع المجزرة قبل ثلاثين عامًا.

لقد احتاج المجتمع ثلاثين عامًا لكي يملك شجاعة تسمية الأشياء
بأسمائها ويعترف بأن سبب الجريمة كراهية النساء والحركة النسائية. القول بأن معاداة الحركة النسائية موجودة في المجتمع ويجب محاربتها لا
يعني أن جميع الرجال معادون للنساء، أو أن كيبيك معادية للحركة النسائية. إنها
تقول بكل بساطة إن هذه الظاهرة للأسف موجودة وتؤدي إلى وقوع ضحايا أبرياء وعلى
المجتمع أن يحمي نفسه منها.

لقد قال رئيس وزراء كيبيك فرانسوا ليغو في مناسبة إحياء ذكرى مجزرة
البوليتكنيك: «١٤ امرأة فقدن حياتهن لمجرد كونهنَّ نساء». في هذا
الصدد، لا بد من لفت انتباهه إلى أن شهداء مسجد كيبيك فقدوا حياتهم أيضًا لمجرد
أنهم مسلمون.

لقد احتاجت القيادة السياسية للشجاعة لتسمي الأشياء بأسمائها عند
الحديث عن مجزرة البوليتكنيك، ونأمل أن تتحلى هذه القيادة بالشجاعة ذاتها عند
الحديث عن مجزرة المسجد، وأن تعترف بأن سبب هذه المجزرة هو الإسلاموفوبيا كما أن
سبب مجزرة البوليتكنيك هو كراهية الحركة النسائية. إن هذا لا يعني اتهام كل
الكيبيكيين بكراهية المسلمين أو معاداة الحركة النسائية، إنما يعني أنه لسوء الحظ،
يوجد في المجتمع معاداة للحركة النسائية وتوجد إسلاموفوبيا، وهما يشكلان خطرًا على
حياة الأبرياء وعلى المجتمع محاربتهما حفاظًا على أمنه وسلامة أبنائه.

9. لا يمكن
تجاهل التأثير
السلبي لقانون علمانية الدولة (القانون 21) على النسيج الاجتماعي في كيبيك. إضافة
لما يسببه نص هذا القانون من ظلم لبعض المواطنات الكبيكيات المسلمات بحرمانهن من
إمكانية العمل لكسب لقمة العيش والمساهمة في بناء المجتمع، فإن الجو الذي ولَّده
هذا القانون يسبب
ضررًا أكبر من الضرر الناتج عن نص القانون نفسه. لسوء الحظ يتصور البعض أن القانون
يقول أكثر بكثير مما يقول القانون نفسه، ومن هنا المضايقات التي يتعرض لها العديد
من المسلمين، وخاصة النساء المسلمات في حياتهم اليومية.

لقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي ميدانًا خصبًا لنشر خطاب الحقد
والكراهية للمسلمين. خطاب الكراهية لم يقتصر على حسابات الأشخاص والمجموعات
المعروفة بعنصريتها ولكن مئات الرسائل العنصرية والمعادية للمسلمين نشرت على صفحة
الفيسبوك الخاصة برئيس وزراء كيبيك فرانسوا ليغو، الذي لا يزال حتى الآن يرفض
الاعتراف بوجود الإسلاموفوبيا في كيبيك.

إن دعاية الكراهية في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي
والمضايقات المباشرة التي يتعرض لها المواطنون تجعلنا نخشى من العودة إلى الأجواء التي كانت سائدة في كيبيك قبل وقوع مجزرة كيبيك،
والتي ساهمت بلا شك في وقوع هذه المجزرة.

10. لا يزال الدور
الذي يجب أن تلعبه وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في مشروع العيش المشترك
أحد أكبر التحديات التي يواجهها مجتمعنا. تقع على عاتقنا
مسئولية جماعية لإيجاد توازن بين حرية التعبير والحاجة إلى مكافحة المعلومات المضللة
وثقافة الكراهية وشيطنة الآخر والعنف.

11. مطالبة الدولة
الكندية بتكريم شهدائنا أو المطالبة بتخصيص يوم وطني لمحاربة الإسلاموفوبيا لا يكفي. نحن المسلمين الكنديين مطالبون قبل غيرنا بتكريم أبطالنا وإحياء ذكرى
شهدائنا لنعطي المثل للآخرين. إذا نحن
لم نحترم أنفسنا فلن يحترمنا الآخرون.

من هذا المنطلق فإننا وبكل تواضع نقترح على إخوتنا القيمين على
المراكز الإسلامية في هذا البلد إطلاق أسماء شهدائنا وأبطالنا على بعض مساجدنا
ومراكزنا الإسلامية. ليكن عندنا على سبيل المثال مركز عز الدين سفيان ومسجد أبو
بكر الثابتي ومدرسة خالد بلقاسمي ومؤسسة عبد الكريم حسان ونادي إبراهيما باري
وفريق مامادو باري الرياضي ومؤسسة أيمن دربالي، وهكذا.

عندها، بإمكاننا أن نطالب البلديات والحكومات بإطلاق أسماء شهدائنا
وأبطالنا على الشوارع والمكتبات والحدائق العامة ليعرف الجميع، خاصة أجيالنا
القادمة، أننا جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، وأن تاريخنا جزء لا يتجزأ من تاريخه،
ونحن وغيرنا من أبنائه أخوة في الإنسانية وشركاء في الوطن الذي لا بد من العمل
المشترك لبنائه وحمايته من العنف والكراهية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.