كان يومًا عاديًا في حياته التي رسم خططها بنفسه وسارت وفق إرادته، بغير عائق أو كدر يدفعه أن يحيد عن ذلك الرسم أو أقلّه التفكير فيه. غير أن الحادث البسيط في ذلك اليوم، حين سقط أثناء محاولات تركيب الستائر في المنزل الجديد الذي اعتنى بتفاصيله عناية فائقة، كان بداية رحلة جديدة في تلك الحياة المرسومة بدقة، رحلة من المرض والألم والقلق والعذاب الجسدي، والأقسى من كل ذلك العذاب الروحي في مواجهة ذلك المجهول المرعب الذي يخفي وراءه أسرار الحياة كلها وما بعدها: الموت.

استقبلت روسيا عام 1881م خبر موت القاضي «إيفان إيليتش ميتشنيكوف» بلا مبالاة تليق بأخبار الموت اليومية التي يتلقاها العالم كل يوم عن أناس عاديين قضوا حياتهم كما شاء لها أن تكون، ورحلوا حين جاء أجلهم. لكن بالنسبة للأديب الروسي «ليو تولستوي» لم يكن خبرًا عاديًا، بل نواة لقصة من أعظم قصصه عن الأيام الأخيرة في حياة قاضٍ، قصة «موت إيفان إيليتش»، والتي قبل أن تكون تعبيرًا عن فلسفة تولستوي ورؤيته للموت، كانت تعبيرًا عن الحياة بوصفها خيارًا إراديًا ما بين حياة ميّتة بلا معنى أو رحلة شاقة وقاسية في ملاحقة ذلك المعنى.

قضى تولستوي جل حياته محاطًا بالموت ومعذبًا بمحاولات الوصول إلى حقيقته أو حقيقة الحياة التي مهما بلغت ستنتهي على كل حال بموت. في البداية لم يعبأ به، شارك في الحرب فقتل كثيرين، بارز آخرين وأنهى حياتهم، إلى أن اعترض الحياة اللاهية تلك حادث موت أخيه الأكبر «ديمتري» الذي مات في مقتبل عمره بعد معاناة طويلة مع آلام المرض، مات دون أن يعلم فيم عاش ولماذا مات، دون أن يدري معنى الحياة وحقيقة الموت. مات وترك دونه حملًا ثقيلًا من الأسئلة والعذاب الروحي عاش بهما تولستوي بقية حياته.

عاش تولستوي حياته مدفوعًا بسؤال الموت، ومن ثمّ السؤال عن مغزى الحياة، لاحق الإجابات في العلوم والفلسفة، في الكتابة والفن، في الحب، في الحياة الأسرية وبين البسطاء والفلاحين، في الأديان والحياة الروحية. رحلة شاقة وعلى عظمتها، وعظمة شخص تولستوي، كان أبرز ما فيها هو حضور الذات والبحث عن الجوهر لا الصورة، بغير ادعاء أو تكلّف أو زيف أو خداع للذات، لكن كما يملي عليه عقله، وقبل ذلك، قلبه.


لا شيء مؤكد سوى أن ما يمكن فهمه ليس له قيمة.. وأن ما أعجز عن فهمه، وهو الأهم، له قيمة عظيمة وشأن كبير.





ليو تولستوي على لسان الأمير أندريه – الحرب والسلم

في مقابل هذه الرحلة الشاقة، عاش القاضي «إيفان إيليتش» الحياة كما ينبغي لها أن تكون، أو هكذا ظن. وصل إلى ما كان يطمح إليه أبناء الطبقة البرجوازية في ذلك الزمان، منصب يكفل له مكانة رفيعة في المجتمع وبين الأصدقاء، ويمنحه شعورًا خفيًا بالزهو لما فيه من سلطة تتحكم في البشر ومصائرهم. تزوج من امرأة «لطيفة» بدافع من سؤال «لماذا لا أتزوج؟»، وأنجب الأبناء، ترقى في المناصب حتى صار بإمكانه تجهيز بيت جديد في المدينة لأسرته، آملًا أن يخفف ذلك من حدّة بعض المشكلات التي بدأت تظهر بينه وبين زوجته في السنين الأخيرة وتعكر صفو حياته، ومن ثمّ يستطيع التركيز فقط على العمل والترقي في المناصب. فما الذي يعيب هذه الحياة؟

هذا هو السؤال الذي طفق يطرحه «إيفان إيليتش» على نفسه وهو على فراش الموت، حين توقف العالم عن جريانه المعتاد، وتلاشى كل ما ظنه يومًا ما «حياة»، ولم يبقَ إلا المعاناة والألم الروحي والفزع من الموت الذي يقترب. بدا كل ما حوله زائفًا، يهوي في أعماق من الكذب والخداع. ولأسرته، كان كضيف ثقيل يعكّر صفو حياتهم، ويحجب عنهم السعادة والحياة التي يريدون لها أن تسير كما كانت ووفق إرادتهم.

عاش إيفان إيليش حياة أبرز ما فيها غياب أي صورة من صور المعاناة والحب والصدق والمعنى والحياة الروحية، كان مغشيًا بالصورة عن الجوهر، كان هو ذاته «كذبة هائلة تخفي الحياة والموت»، ولم يدرِ ذلك إلا في أيامه الأخيرة.

كنت كأني أهبط سفحًا وأنا أظن أنني أصعد.. كنت أصعد بالفعل في نظر الرأي العام، لكني في الحقيقة كنت أنزلق إلى الأسفل، وكانت الحياة تهرب مني.. وها أنا ذا.. انتهى كل شيء..فمت الآن!





إيفان إيليتش – موت إيفان إيليتش


في رحلة بحثه عن المعنى، لم يحتقر تولستوي الحياة «العادية» بل «الزائفة»، فهذه الروح المعذبة مرت بتقلبات وانعطافات حادة أهمها الأزمة النفسية التي مر بها بعد أن صار من أعظم كتّاب عصره، وحظي بكل ما تمناه في الحياة من شهرة وزوجة وأبناء، والتي على إثرها نبذ أفكاره السابقة، ورأى حقيقة الحياة في العيش بين البسطاء والفلاحين. ولا يمكن القول إن هذه النظرة للحياة البسيطة كانت وليدة أفكاره الأخيرة، فقد كانت جلية في أعماله الأولى كـ «الحرب والسلم» و«آنا كارنينا»، وفي «موت إيفان إيليتش» ظهرت في علاقة إيفان بـ «جيراسيم» الفلاح البسيط الذي خفف عنه معاناة المرض بالزيارة والصدق الذي رآه فيه دون غيره، والذي بدا وكأنه وحده يرى حقيقة الأمر ويفهم الحياة، فقط لأنه يرى الموت ويتصالح مع وجوده، بلا هرب منه أو فزع.

حاول تولستوي الوصول إلى المطلق، أدرك وجوده، وآمن بالله في تجربة إيمان ذاتية فريدة لم تتبع ما أملي عليها من تعليمات الكنيسة أو رجال الدين. لم يهرب من الحياة أو المعاناة أو نداءات القلب، لم يتنكر منها أو من ذاته، جابهها حتى النهاية، وحين أدرك وجود المطلق، أدرك معه أن في هذه الحياة ثمة ما لا يُدرك، هو ذاته المعنى والجوهر، وبغيره لا تستقيم الحياة. كانت رحلة شاقة من العذاب والألم الروحي، سكن تولستوي ولم تسكن روحه، كان دائم التفكير في الله، ذا نفس مضطربة متقلبة، أراد الاتحاد بالمطلق وأدرك أن ذلك لا يكون إلا بالموت.

وفي آخر هذه الرحلة، رحل تولستوي تاركًا زوجته وأبناءه والحياة نفسها، ليصاب بالالتهاب الرئوي في الطريق، وتنتهي رحلته الأخيرة وحيدًا في محطة قطار، ويرحل بعدها للأبد.

لم يعد يخاف من الموت لأن الموت قد مات أيضًا..

بدلًا من الموت رأى النور..

وقال فجأة بصوت عالٍ: «ها هو إذن.. يا للفرح!»





ليو تولستوي – موت إيفان إيليتش



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.