عرفنا في
المقالة السابقة (

إضاءات
29 أكتوبر 2020م

) شيئاً من سيرة الأسطى محمد الحلاق وأعماله الخيرية. وها هنا
نتعرف على ما بلغه «علو همته» واستيلاء مشاعر الشفقة عليه وهو يقوم بعمل الخير
وبذل المعروف، ومن ذلك أنه اشترط: أن يصرف من ريع وقفيته ما يكفي لشراء «مائة
قنديل عوادي خليلي (صنع خان الخليلي) منها خمسون قنديلاً تُعلَّق على المدافن،
والخمسون الباقية توضع إحداها تجاه ضريح الشيخ حمودة بقرب مطبخ الشوربة، والثانية
بين الثلاث مفارق، والثالثة تجاه درب الخلفاء على بعدٍ، والرابعة تجاه الطاحون،
والخامسة خارج الدرب تجاه حارة الدرَّاسة، والسادسة تجاه قبة الشيخ مصطفى مقرئ
سيدي محمد العنبري، والسابعة تجاه ضريح سيدي العنبري، والثامة علو ضريح سيدي
العنبري، والتاسعة تجاه باب زاوية سيدي القزاز، والعاشرة علو ضريح سيدي القزاز،
والحادية عشرة بباب حارة الدراسة، والثانية عشرة بباب درب سيدي معاذ، والثالثة
عشرة بين الثلاث مفارق تجاه الدراسة، والرابعة عشرة بعيدة عنها، والخامسة عشرة
قريباً من وسعة الزاوية، والسادسة عشرة تجاه قبة سيدي صالح».

واتسعت همته
حتى إنه اشترط أن يُعلق بوَسَعَةِ (ساحة فضاء) زاوية سيدي معاذ حبلان: أولهما في
البيتين المطليْن على وَسَعَةِ الزاوية، وآخرهما بحائط الزاوية، ويعلق بهما أربعون
قنديلاً بمداخنها، بكل منها عشرون قنديلاً، ويكون الحبلان على يمين الداخل للزاوية
ويساره، من أول الوسعة إلى باب الزاوية. والتسعة ثريات بقناديلها باقي الخمسة
والعشرين المذكورة والعشرة قناديل بمداخنهم باقي المائة المذكورة تُعلق بين الثلاث
مفارق تجاه حوض المصلى، والثانية تجاه قبة السادة الأربعين التي على يمين السالك
من حوض المصلى طالباً زاوية سعد الله وغيرها، والثرية الثالثة تعلق تجاه ضريح سيدي
محمد الشلبي، والثرية الرابعة على باب زاوية سعد الله، والثرية الخامسة داخل الدرب
المجاور، والسادسة تجاه قبو جامع قجماس بين الثلاث مفارق، والسابعة تجاه درب
اليانسية بين الثلاث مفارق، والثامنة بباب الدرب قريباً من درب شعلان، والتاسعة
تجاه ضريح سيدي محمد زرع النوى، والعشرة قناديل بمدافن المذكورين.

هذا إضافة إلى ما خصصه لشراء زيت إضاءة وفتايل لإضاءة القناديل والثريات. وذلك كله كي يضيء دروب السائرين ليلاً إشفاقاً عليهم من وحشة الظلام. وكأن الأسطى محمد الحلاق قد اعتبر مسئولاً عن إضاءة جميع أحياء مصر القديمة تقريباً بمفرده وعلى نفقة وقفياته الخيرية! أو إنه نظر إلى نفسه على أنه بديل كامل عن «البلدية»، أو «مجلس المدينة» في أداء تلك المهمة الكبيرة على نفقته الخاصة ومن ريع أوقافه الخيرية.

ثم إن الأسطى
محمد اشترط كذلك أن تؤول حصة من ريع وقفيته بعد انقراض ذريته، لتصرف «على مؤذني
مصر المحروسة من قبة العزب إلى دير الطين، ومن بحر بولاق إلى الجبل (المقطم) على
الدوام والاستمرار». وكأنه أحلّ نفسه محل «وزارة الأوقاف»، أو نقابة المؤذنين في
أيامه.

لم يخصص
الأسطى محمد الحلاق ريع وقفياته لرواق المغاربة وطلابه وحدهم، وإنما خصص من ذلك
الريع -كما سلفت الإشارة- حصصاً للصرف على الأروقة الأخرى بالجامع الأزهر، ومنها
رواق الأكراد، ورواق الحنابلة، وللصرف أيضاً على عدد من المساجد، وعلى الفقراء
والمساكين وقراءة القرآن الكريم. وبلغت همته العالية ذروتها فيما وضعه من شروط
بحجة وقفيته الخامسة التي حررها أمام محكمة الباب العالي بمصر في 18 محرم 1202هــ/
30 أكتوبر 1787م (مسجلة برقم 37/1/قديم – سجلات وزارة الأوقاف)، وقد وقف بموجبها:

جميع مرتب خمس جرايات قمح حنطة بالأنبار الشريف بدفتر المشايخ برأي خيرات سايرة، وجميع مرتب العثامنة الذي عبرتها مائة واثنان وثلاثون عثماني علوفة جامكية بدفتر متقاعد خزانة مرتب برأي خيرات سايرة.

وتجلت تلك
الهمة العالية فيما خصصه من ريع تلك الوقفية وهو أنه اشترط أنَّ: خمسة آلاف ومائة
وثلاثين نصف فضة، من مرتب العثمانية الذي وقفه، تُصرف «للسادة المؤذنين بمصر
جميعاً؛ من قبةِ العزب إلى أثر النبي، ومن بحر بولاق إلى الجبل»، وخصص حصة لمؤذني
بيت المقدس، وحصة لأهل رواق السادة الأكراد بالأزهر، ولأهل رواق السادة الحنابلة
بالسوية بينهم ألف وخمسمائة نصف فضة. ومن تلك الخيرات أيضاً: جرايات خبز ومبالغ
نقدية لمن يعتني بغرس النخيل الذي وقفه للفقراء والمساكين، ولمن يقوم بتقليمه
وتدكيره وسقيه بـ «ماء النيل المبارك»، وحراسته من عبث الأطفال ومن اللصوص. وبلغ
الإشفاق مبلغه بما خصصه الأسطى محمد من الريع للصرف على لحوض الصغير الذي أنشأه ووقفه
لـ «سقي الكلاب» بحي الأشرفية، إلى جانب «حوض شرب الدواب والغنم داخل وكالة
الأشرفية بالقاهرة».

ويظهر من مجمل الشروط التي تضمنتها حجج وقفياته أن الأسطى محمد كان بارعاً في إدارة شئونه ومتقناً في تنظيم أعماله الخاصة والعامة. وقد ضربنا أكثر من مثال على ذلك، ونضيف هنا: أنه خصص سبعة أكياس جلد لحفظ إيرادات وقفياته من الدراهم، وكل كيس منها «مكتوب عليه أمارته، وقدر الدراهم الموضوعة فيه، ومن أين أتت، وفي أين تصرف». وكأننا أمام «قسم المحاسبة» في أرقى مؤسسة عصرية.

وفي غاية شهر رجب 1202هــ/6 مايو 1788م، سجل الأسطى محمد الحلاق وقفيته السادسة أمام محكمة الباب العالي بمصر (مسجلة برقم 44/1 قديم – سجلات وزارة الأوقاف)، وأضاف إلى ما سبق أو وقفه: «منفعة الخلو والسكنى والانتفاع والتواجر والأجرة المعجلة والإذن بالعمارة لكامل الحانوت بمصر بخط العقادين البلدي»، و«جميع مرتب الأربع جرايات بالأنبار الشريف بدفتر المشايخ مرتب لخيرات سايرة، وجميع مرتب العثامنة الذي عِدتُه مائة وواحد عثماني ونصف عثماني علوفة جامكية، وجعل الريع مصروفاً على أولاده وبعض أقاربه، فإذا انقرضوا جميعاً آل إلى السادة المؤذنين بمصر المحروسة جميعاً بالسوية بينهم…».

وزاد اهتمام الأسطى محمد بالمؤذنين عما
سبق بيانه؛ فخصص حصة من الريع لـ «تجهيز وتكفين ودفن موتاهم»، وأن يُشْترى «حِرامان
صوف» (حِرامان: مثنى حِرام، وهو غطاء يصنع من الصوف ليتدفأ به من برد الشتاء) وجعلهما
لمؤذني مسجد سيدي معاذ الحسني، لكل واحد منهما حِرامٌ صوف في كل سنة. ووقف مصحفاً،
وزيتاً وقطن فتايل «للسهارة برواق المغاربة لمطالعة العلم ليلاً»، وتوفير نفقات ما
تحتاجه هذه السهارة من إصلاح ومرمة أي خلل يحدث فيها. وأضاف حصة من الريع للصرف
على حوض شرب الدواب والأغنام، وحوض مسقاة الكلاب السابق ذكرهما.

إن «وثائق التصرفات» الخاصة بوقفيات
الأسطى محمد الحلاق تكشف عن أن «شروطه» التي استودعها رب العالمين، وسجلها وأودعها
في النصوص المكتوبة بالحجج -على النحو الذي أوردناه- ليراعيها المسئولون عن إدارة
وقفياته على مر الزمن؛ قد سارت سيراً حسناً حتى بعد انهيار نظام المماليك ووصول
محمد علي باشا إلى السلطة في سنة 1220هــ/1805م.

ومن علامات هذا السير الحسن: عدم وجود نزاعات قضائية كثيرة بين المستحقين في ريع الوقفيات، وحدوث عمليات شراء وضم وإلحاق وإضافة، ومن ثم زيادة في أصل الأعيان الموقوفة وفي عوائدها، ومنها مثلاً: حجة مشترى وضم في أواخر عهد محمد علي، وهي محررة أمام محكمة مصر الشرعية بتاريخ 15 محرم 1270هــ/18 أكتوبر 1853م، وكانت عبارة عن «جميع حاصل (مخزن) داخل وكالة المصبغة بالقرب من تبليطة الغورية، وجميع حاصل كامل الطبقتين بالوكالة المرقومة الجاري أصل ذلك في وقف السلطان الغوري قدره 730 قرشاً». وبموجب حجة محررة أمام الباب العالي بمصر في 15 محرم 1271هــ/8 أكتوبر 1854م، اشترى الشيخ محمد كمُّون، الصفاقسي (التونسي) شيخ رواق المغاربة، بمال وقف الأسطى محمد، من بايعه محمود الفخاخ التاجر بسوق الفحامين، ومن محمد العداد الوكيل عن الحاج محمد بن محمد المالكي الغائب بالإسكندرية (آنذاك)، الوكيل عن الغائب بمدينة صفاقس التونسية جميع الحانوت الكائن بسوق الفحامين، وضمه لأوقاف رواق المغاربة.

وتوجد حجة مشترى بمال جهة وقف الأسطى
محمد الحلاق، وضم وإلحاق بمعرفة الشيخ شمس الدين محمد كمُّون، وهي محررة من محكمة
الباب العالي بمصر في 15 صفر 1242هــ/18 سبتمبر 1826م. وكانت عبارة عن جميع منفعة
خلو حانوت كائن بخط الكعكيين وتوابعها.

وبموجب حجة أخرى محررة في غرة شوال 1277هــ/12 أبريل 1861م (مسجلة برقم 162/1 أهلي قديم – سجلات وزارة الأوقاف) قام الشيخ أحمد المصمودي الفاسي (المغربي) شيخ الرواق آنذاك بشراء حانوت بعشرة آلاف قرش ديوانية وضمه لأوقاف الأسطى محمد الحلاق. وبموجب حجة محررة في بدايات عهد الخديوي إسماعيل أمام محكمة مصر الشرعية في غاية رمضان 1284هــ/ 25 يناير 1868م، اشترى وضمَّ ووقف وألحق ما هو عبارة عن «جميع الحصة التي قدرها 18 قيراطاً من أصل 24 قيراطاً على الشيوع في كامل بناء الحانوت المعدةِ للحلاقة الكائنة بخط الجمالية».

ولكن لحظة انقطاع مسار وقفيات الأسطى محمد الحلاق آنت بعد سنة 1371هـــ/1952م، وذلك في سياق التحولات الجذرية التي تعرضت لها الأوقاف المصرية بأكملها نتيجة الإجراءات المتشددة التي اتخذتها حركة يوليو 1952م تجاه جميع الأوقاف، ما عدا أوقاف الأقباط، وكانت وقفيات الأسطى محمد على رواق المغاربة ضحية من ضحايا تلك الإجراءات. وانطمست منذ ذلك الحين وقفيات الأسطى محمد الحلاق في غياهب البيروقراطية ومفاسدها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.