صدر عن الدار المصرية اللبنانية كتاب «العمران فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية» من تأليف الدكتور خالد عزب الذي ذهب إلى أن ابن خلدون سبق أن كتب في علم العمران «المقدمة»، هذا الكتاب الشهير الذي شغل الكثيرين، لكن المؤلف يرى أن ابن خلدون كتب في علم العمران جانبًا منه، لكنه لم يكتب هذا العلم مُفرِدًا له ومعرِّفًا به باستفاضة؛ إذ إن ابن خلدون حار في أمره الكثيرون وأمر مقدمته، فمنهم من قال إنها فلسفة التاريخ، وذهب آخرون إلى أنها مؤسِّسة لعلم الاجتماع، وآخرون رأوا أن بها بذور الاقتصاد السياسي، لنرى البعض يقول إن بها لمحة عن الأديان، بل نرى من يذكر أن ما جاء به في اللسانيات يتطابق مع الجديد في هذا العلم، فما هي إذن مقدمة ابن خلدون؟

إن ابن خلدون كان متجاوزًا لعصره؛ إذ إنه مؤسس الدراسات البينية الإنسانية، وبالتالي جاء كل ما سبق داخل المقدمة، وفي ذلك تعرُّضه لعلم العمران من منظور محدود، هو الاجتماع الإنساني، ومن عبقرية إدراكه مع نضج العلوم في عصره أن هناك شيئًا ما يجمع هذه العلوم، وحين يجتمع أكثر من علم فيتلاقوا، ينتج لنا نتائج جديدة تقود إلى تقدم علمي.

يعيد خالد عزب بناء وتأسيس علم العمران، فعرَّفه بأنه علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية، فالله سبحانه وتعالى سخَّر للإنسان الأرض وما عليها لعمارة الأرض، وهيأ الله سبحانه وتعالى الأرض بكل متطلبات هذه الحياة: «وبارك فيها وقدر فيها أقواتها» سورة فصلت آية 10، «وجعلنا لكم فيها معايش» سورة الأعراف آية 10. ويرى خالد عزب أن غايته سعادة الإنسان على الأرض، وأدواته العلم والعمل، وأطره فقه العمران والسياسة الشرعية، ومجالاته الزراعة والصناعة والتجارة، ومورس هذا العلم في الفضاء العام.

إن علم العمران هنا مفارق لنماذج الدراسات الإسلامية التقليدية، نشأ في هذه الحضارة منذ القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، نشأ بالممارسة وسطرته أقلام في بطون الكتب التراثية، فاستخرج المؤلف ما في بطون هذه الكتب ليكون عونًا لبناء هذا العلم، فأساسات هذا العلم راسخة، لكنها مغطاة فلم ترَها البصائر، ثم قام برفع الجدران على هذه الأساسات.

يخالف خالد عزب ابن خلدون في رأيه عن البدو، فنجد عنده المقابلة بين البادية والحضر عند العرب أساسها الحركة والسكون، أو التجول والثبات (الاستقرار)، أو الارتحال والإقامة الدائمة، ثم ما قد ينتج عن هذا الأمر من اختلاف في وجوه المكاسب والمعايش، ومستوى المعيشة على عائد الحرفة، ونمط المسكن (من حيث كونه دائمًا أو مؤقتًا، وكذلك شكله الخارجي وحجمه).

وفي رأيه أن البدو الرحل ليسوا رُحَّلًا مع الزمن؛ إذ الارتحال في هذا المفهوم يعني الانتقال من وإلى بصورة مستمرة، كما أن درجة من درجات الاستقرار طبعت هذه القبائل، فصارت مستقرة في حدود جغرافية محدودة، بل صار لها مراكز حضورية مستقرة كالقصور أو الواحات أو المضارب، قامت حياتها على الرعي أو الزراعة أو حراسة القوافل، وقد تجمع بين أكثر من مهنة.

المستقر الحضري، أيًّا كان، هو مكان الإنسان الذي تبدأ منه الحياة بتفاعلاتها، فالإنسان وسعادته وعيشه مطمئنًا من الغايات التي بُحثت بعمق في حضارة قامت على العمران، لذا نرى الراغب الأصفهاني يؤلِّف كتابًا يسميه «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين»، تحصيل السعادة في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فكان البحث عن السعادة في الحياة الدنيا واجبًا وجوب البحث عن السعادة في الحياة الآخرة، جعل الراغب الأصفهاني الإنسان غاية الوجود، فيقول: في كون الإنسان هو المقصود من العالم وإيجاد شيء بعد شيء هو أن يوجد الإنسان، فالغرض من الأركان أن يحصل منها النبات، ومن النبات أن تحصل الحيوانات، ومن الحيوانات أن تحصل الأجسام البشرية، ومن الأجسام البشرية أن يحصل منها الأرواح الناطقة، ومن الأرواح الناطقة أن يحصل منها خلافة الله تعالى في أرضه، فيتوصل بإعطاء حقها إلى النعيم الأبدي، كما دل الله تعالى بقوله: «إني جاعل في الأرض خليفة». وجعل الله تعالى الإنسان من سلالة العالم وزبدته، وهو المخصوص بالكرامة كما قال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا». وجعل ما سواه كالمعونة له كما قال تعالى في معرض الامتنان: «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا».

هنا  الإنسان هو محور الكون، الذي عليه أن يقوم بخلافة الله في الأرض بعمارتها «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها»، أي إن الخلافة عند المؤلف هي عمارة الأرض وليست ممارسة سلطة من بعض البشر على الآخرين. من هنا فهذا الإنسان يملك القوة المفكرة التي تجعله يقوم بهذه الوظيفة، هذا ما نراه لدى فلاسفة المسلمين، فكتب سعيد بن داده هرمز «رسالة في فضل الحياة الدنيا»، يفصِّل فيها هذا الأمر : «وللروح قوى كثيرة له بها أفعال عجيبة وأمور عظيمة، وقد يفعل الإنسان بهذا الروح العلمي أفعالًا كريمة؛ لأنه بالتفكُّر يستخرج غوامض العلوم، وبالروية يدبر أمر الملك والسياسة، بالاعتبار يعرف الأمور الماضية مع الزمان، وبالتصور يدرك حقائق الأشياء ويعرف المبادئ والجواهر البسيطة، وبالتركيب والتدبير يستخرج الصناعات، وبالجمع يعرف الأجناس والأنواع، وبالقياس والفراسة يدرك الأمور الغامضة ويعرف ما في الطباع، وبالزجر والفأل ينظر في الحوادث، وبالمنامات وتأويلها يعرف كثيرًا من البشارات والإنذارات، وبقبول الوحي والإلهام يقوى على وضع السنن وإقامة الشرائع العائدة لمصالح الدين والدنيا».

القوة المفكرة هنا – كما أسماها إخوان الصفا – هي أداة الإنسان في الحياة، وهي التي تقوده نحو المستقبل: بالتفكر، الروية، التدبر، الاعتبار، التصور، الإدراك، التركيب، الجمع، القياس، الفراسة، الزجر، التأويل، القبول، الإلهام. انظر كم الألفاظ المستخدمة في نص سعيد بن داده هرمز الآتية من اللغة العربية، والتي تعبر عن حاجة الإنسان لاستخدام كل هذا ليصل للسعادة في الحياة الدنيا، بل تؤكد أن أدوات إعمال الفكر لازمة للإنسان بمستوياتها، أي إنه إذا كان ذا عقل خامل فلن يكون له دور في عمران الأرض.

الإنسان الفرد لن يقوم بعمران الأرض كفرد، بل لا بد له من الاجتماع، هذا ما أدركه الجاحظ أحد كبار المفكرين في الحضارة الإسلامية (ق: 2هـ/ 8م – 3هـ/ 9م) حيث يذكر لنا: «كون الاجتماع ضروريًّا: ثم اعلم، رحمك الله تعالى، أن حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم، مما يعيشهم ويحييهم، ويمسك بأرقامهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون على معرفة ما يضرهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، معاني متضمنة وأسباب متصلة، وحبال منعقدة. وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى معرفة أخبار من قبلهم وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا.. لم يخلق الله تعالى أحدًا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه، دون الاستعانة ببعض من سخر له، فأدناهم مسخر لأقصاهم، وأجلهم ميسر لأدقهم، وعلى ذلك أحوج المملوك إلى السوقة في باب، وأحوج السوقة إلى الملوك في باب، وكذلك الغني والفقير، والعبده وسيده …»

هذا نص الجاحظ الذي به أبعاد اجتماعية نراه كابن خلدون الذي أتى بعده بقرون – كما يذكر خالد عزب – يدخل إلى التاريخ كحاجة إنسانية لمعرفة أخبار السابقين، وفي حقيقة الأمر أن كليهما – الجاحظ وابن خلدون من بعده – أدركا أن المجتمعات في حاجة إلى خبرات الأجيال السابقة لإدارة منظومة الحياة، سواء خبرات سلبية أو إيجابية، من هنا نرى ربط الجاحظ باحتياج المجتمعات لتواريخ الأمم السابقة، ونرى الحاجة إلى الاجتماع البشري عند الجاحظ متعددة الأبعاد، مما يعكس فهمًا معمَّقًا للمجتمعات واحتياجاتها.

إن أكثر تجليات الفكر العمراني هو وضوح تراتيبة العمران طبقًا للاحتياجات، والتي تؤدي إلى نسق عمراني واضح، هذا ما قرأه المؤلف من نص القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد»، حيث تتدفق عباراته لتخبرنا عن هذه التراتيبة: اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكن أن يعيش وحده كسائر الحيوانات، بل يضطر إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعية التي يتوقف عليها المطعم والملبس، فإنهما موقوفان على مقدمات كثيرة لا يمكن لكل واحد القيام بجميعها وحده، فإن الشخص الواحد كيف يتولى الحراثة فإنها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس، وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسخ، وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهية الهيئة الاجتماعية، وألهم كل واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدمات، حتى ينتفع بعضهم ببعض، فترى الخباز يخبز الخبز، والعجان يعجنه، والطحان يطحنه، والحراث يحرثه، والنجار يصلح آلات الحراث، والحداد يصلح آلات النجار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على بعض.

ثم عند حصول الهيئة الاجتماعية لو اجتمعوا في صحراء لتأذوا بالحر والبرد والمطر والريح، ولو تستروا بالخيام والخرقاهات لم يأمنوا مكر اللصوص والعدو، ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها، لم يأمنوا صولة ذي البأس، فألهمهم الله اتخاذ السور والخندق والفصيل.

فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار، ثم إن الملوك الماضية لما أرادوا
بناء المدن، أخذوا آراء الحكماء في ذلك، فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في المكان من
السواحل والجبال ومهب الشمال، لأنها تفيد صحة أبدان أهلها وحسن أمزجتها، واحترزوا
من الآجام والجزائر وأعماق الأرض، فإنها تورث كربًا وهرمًا.

واتخذوا للمدن سورًا حصينًا مانعًا، وللسور أبواب عدة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج، بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه. واتخذوا لها قهندزًا لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه، وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمامات، ومراكض الخيل ومعاطن الإبل، ومرابض الغنم، وتركوا بقية مساكنها لدور السكان، فأكثر ما بناها الملوك على هذه الهيئة، فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيبة، وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة، واعتُبر ذلك بمن مسكنه لا يكون كذلك… وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة، ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات …”

هذا نص كُتب في القرن 7هـ/ 13م يبرز رؤية متكاملة لنشأة المجتمعات، وتقسيم العمل وما يترتب على ذلك من عمران البلاد، ثم الحاجة لسلطة، ثم تأثير كل هذا على الصحة العقلية التي تؤدي إلى الإبداع والابتكار، ونراه يؤكد أثر ذلك على أخلاق المجتمع.

دور الإنسان كان بارزًا في تكوين الهيئة الاجتماعية كما يسميها القزويني، وابن سينا في السياسة يعضد ذلك بتراتبية الاحتياج الذي يؤدي لبناء الأسرة فالمجتمع فالدولة التي تحتاج إلى صناعة الكتابة والفرسان، فيذكر: «يحتاج الإنسان للقوت، ثم لحفظ ذلك فيبني المنزل، ثم تنكشف الحاجة للمرأة كي تحافظ على كل ذلك وترعاه فيتزوج، وتتحول السياسة إلى سياسة الأهل، مع ظهور الأولاد تتعقد الحاجيات والسياسة المنزلية، فننتقل إلى استدعاء الخدم». هنا نرى ابن سينا ينتقل بنا إلى الوجه الآخر الاقتصادي والسلطوي، حيث يذكر: «الصناعات التي تعود إلى خير العقل، وهنا صناعة الوزراء والمدبرين أرباب السياسة والملوك، فهنا صحة الرأي وحسن التدبير، وصناعة من حيز الأدب، وهو الكتابة والبلاغة وعلم النجوم والطب، وصناعة من حيز الأبد والشجاعة وهو صناعة الفرسان والأساورة».

لكن هذا المجتمع إنما له غاية هي سعادة الدارين، الدنيا والآخرة، وليست السعادة في الآخرة فقط كما يذهب البعض، في رأي خالد عزب، فالغاية والقيمة سريا في الحضارة الإسلامية سريان الدم في العروق، فالفارابي (ق: 3/4هـ – 9/10م)، نراه يضع أساس مدينته الفاضلة على أرضية (الغاية) الأم والغايات المتولدة منها، فالسعادة هي غاية الغايات، ومعرفتها وقصدها هو مطلع البدايات، وحفظ مسلتزماتها هو مجمع الفضائل ومنفى الرذائل ورابط لبنات البناء، ومقوم المعوج من الآراء والأفعال.

المؤلف عبر خمسة فصول بنى رؤيته لعلم العمران، فجاء الفصل الأول عن ماهية العمران معرِّفًا العمران في الحضارة الإسلامية كعلم تبلور منذ القرن الثاني الهجري، متتبعًا تطور دلالة لفظة العمران في المعاجم اللغوية، ثم مؤكِّدًا أن العدل هو أساس العمران على الأرض. وفي الفصل الثاني يتحدث عن الفلسفة الناتجة عن ذلك، والتي ارتكزت على: الإتقان، الإبداع، الجمال، لينتقل في الفصل الثالث إلى أدوات العمران في الحضارة الإسلامية التي ارتكزت على العلم والعمل، ثم في الفصل الرابع يتحدث عن أطر العمران، أي وسائل عمله في المجتمعات، أو ما يسميه القواعد التي تنظِّم مجالات العمران وفضاءه، وهي السياسة الشرعية وفقه العمران، لينتقل في الفصل الخامس لتطبيقات العمران كعلم في التجارة والصناعة والزراعة وغيرها.

الكتاب حافل بالتفاصيل التي يصعب اختصارها، لكنه يقدم رؤية تستحق المناقشة والوقوف عندها، إذ إنه مثلًا لا يرى أن هناك خصومة بين التقدم العلمي والإسلام، بل يرى أن الإسلام كان محفِّزًا عبر قواعد العمران على الإنتاج العلمي والابتكار .



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.