يقول «هشام نزيه» مؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم «إبراهيم الأبيض»، وأحد أهم فنانين جيله في

لقاء على اليوتيوب

:

ما كنتش بشوف في المناطق اللي فيها عنف وعشوائيات أي شيء فني أو جمالي، لغاية ما قريت سيناريو «إبراهيم الأبيض»، وشفت صورته بعد كده وأثبتولي إن أنا غلطان… إزاي أشوف حاجة أنا عقلي عارف إنها منظر مش حلو بس أشوفه جميل في الآخر.

يصور الفيلم في البداية سلسلة مشاهد مطاردات ومعارك شعبية شديدة الدموية يشترك فيها عشرات الأفراد بالأسلحة البيضاء في إحدى عشوائيات القاهرة، ثم قصة حب أبطالها مشتعلون بذكريات عنيفة تجعل مستقبلهم على المحك.

نلاحظ أن تجربة مشاهدة فيلم
«إبراهيم الأبيض» تجمع تناقضات عديدة مثيرة للانتباه، فيشتهر بأنه أحد أعنف الأفلام
في تاريخ السينما المصرية، ومن أوائل الأفلام التي تناولت المناطق العشوائية
والبلطجة في إطار الأكشن قبل أن ينتشر هذا النوع بعد ذلك. ورغم كل ما سبق من تصوير
أعلى درجات الفقر والجريمة وقبح العشوائيات على الشاشة، لماذا قد نجد أنفسنا نصف
الفيلم بالجمال؟ ولماذا قد نشعر باللذة بعد تلك الرحلة العنيفة؟

«الإنسان ضعيف»

يُقارِن الفيلسوف الإيرلندي
«إدموند بيرك» في كتابه «

تحقيق
فلسفي في أصل أفكارنا عن الجمال والسمو

» بين شعور الإنسان باللذة والجمال (Beauty) وبين ما سماه
بيرك بالسمو (Sublime)، والشيء
المتسامي هو كل ما هو مهيب ومخيف ويشكل تهديد أو خطر للإنسان أو يُنتِج شعور الألم،
بعكس الجمال الذي يُنتِج شعور اللذة.

وعلى الرغم من تأكيد بيرك على أن المتسامي هو ما يُنتِج التهديد والخطر، يقول بعد ذلك:

عندما يظهر خطر أو شعور الألم بالقرب منّا، لا يمكن أبدًا الإحساس بالسرور أو البهجة، سنشعر فقط بالرعب، ولكن إذا ظهر الخطر على مسافة كبيرة ومع القيام ببعض التعديلات عليه، ربما نشعر باللذة.

ومن هنا يقول بيرك إن المتسامي المخيف قد يُنتِج اللذة إذا كان على مسافة آمنة منّا، بحيث نتأمله ونحن نعلم بأننا آمنون، وأن هذا الخطر مجرد خيال، مثل النظر إلى لوحة فنية مُصوَّر فيها رياح ورعد على جبل ضخم أو سفينة تحاول النجاة في بحر هائج، أو تصوير حرب دموية عنيفة كالتي في فيلم «إبراهيم الأبيض».

السينما دائمًا ما كانت وسيط آمن للمشاهد، فالجمهور فقط يتابع الأحداث من بعيد حتى لو كانت مرعبة ومخيفة، فكانت مهمة المخرج «مروان حامد» أن يوفر مصادر الرهبة والخطر والضخامة الكافيين لكي يجعل فيلمه مُتساميًا، بدايةً من الموسيقى التصويرية التي تتكون من قرع طبول كالتي يبدأ بها المعارك القديمة، وحتى أكثر مشاهد العنف تعقيدًا.

«غير المغضوب عليهم»

في مشهد تقديم «عبد الملك زرزور» نجد ارتباطًا كبيرًا بين الشخصية وتفاصيل بيته، ولأن زرزور له سطوة كبيرة على محيطه فسنجد منزله على مكان مرتفع من الحارة على جبل مهيب، وتتوقف العركة التي بدأها إبراهيم في الأباجية بمجرد سماع طلقات الآلي من أعلى بيت زرزور، لكي يصيح بعد سكون تام «حد ليه شوق لحاجة؟»، مُعلنًا تفرد هيمنته على المكان.

تدخُل المعلم زرزور أعطى بُعدًا ملحميًا لتلك «العركة»، وكأن أحد آلهة الإغريق نزل من جبل أوليمبوس لكي يحل نزاعات البشر.

كان زرزور مُهتمًا بتذوق
البن الموجود على الطاولة أمامه أكثر من سماع شكوى إبراهيم أثناء حديثهم الأول،
نظراته قليلة مُتعالية وغير مُبالية، ولكن نظرته تلك هي التي كشفت كذب «سيد شيبة»،
ونظرة أخرى أودت بحياة الأخير، فبالتأكيد نحن أمام شخصية لها قدرات مميزة ومخيفة.

إن شخصية المعلم عبد الملك زرزور مُتسامية من جوانب عديدة، فيُلقِّبها «عشري» وهو يروي الأحداث بـ «عزرائيل»، كما يمزج المعلم كلامه بأقوال يبدو عليها الحكمة ويتحدث بأحكام دينية وكأنه يوصف نفسه بأوصاف ألوهية متسامية، وما يستطيع أن يفعله بالمغضوب عليهم.

«الناس دي فكرانا خرفان!»

يتعامل «الزرازير» (آل زرزور) مع تجار مخدرات من البدو الأعراب، والذين لا نعلم عنهم إلا القليل من سياق الأحداث، ومع ذلك وصل إلى المشاهد إحساس الرهبة والخطر خلال مشهد تسليم المخدرات، الذي اعتبره مشهدًا فريدًا للغاية وسط مشاهد تسليم المخدرات في السينما المصرية، نحن لا نعلم أي شيء عن الشخصية البدوية التي ظهرت إلا شكلها وهيئتها لا أكثر، حتى وقت ظهورهم على الشاشة كان محدود.

المُشاهِد تعرّف على «غنّام» فقط، وهو أحد رجال عبد الملك زرزور، كما أن الشخصيات منذ بداية الفيلم لم يذكروا كلمة مخدرات أو شيء من هذا القبيل، كان يُشار إليها بـ«الكيس» أو «البضاعة» فقط، ويُترَك المشاهد ليتوقع من السياق بأنها ممنوعات، رغم ذلك ساد شعور القلق على المشهد، حتى يرتفع التوتر مع هلاوس عشري، ويبدأ إطلاق نار عشوائي، وينكشف غدر غنّام والبدو بإبراهيم.

ما يُصدِّر الشعور بالخطر في هذا المشهد هو المجهول، ليس فقط غرابة الشخصيات البدوية عنّا وتصرفات غنّام، بل من المكان المجهول الذي يتم فيه التسليم، مكان أشبه ما يكون بأطلال قلعة حجرية مهجورة وسط الصحراء، لا يبدو المبنى مألوفًا للمُشاهد ولا أظن أنه خطر على بال أحد حتى المؤلف «عباس أبو الحسن» أثناء كتابة المشهد، فمكان المشهد المكتوب في السيناريو في وسط الصحراء والكثبان الرملية بعيدًا عن المدنية فقط ولا ذكر لأي مبان مهجورة.

من الواضح أن هذا المكان تم
اختياره بعد عملية الكتابة، وهذا المبنى ما هو إلا قصر مهجور للخديوي عباس حلمي
الأول حفيد محمد علي باشا ومكانه في الكيلو 56 من طريق القاهرة السويس، ويبدو أن
اختياره للتصوير تم بعناية وقصد ليُناسب المشهد، وظهر هذا القصر سابقًا في فيلم «أمير
الانتقام» عام 1950.

«الست حورية هتستناك في القرافة»

في مقدمة سيناريو الفيلم
يشرح المؤلف «عباس أبو الحسن» كيف تكوّنت الأحياء العشوائية حول القاهرة التي يدور
فيها الأحداث، من خلال هجرات طبقات اجتماعية فقيرة من الريف والصعيد إلى العاصمة
بحثًا عن فرص أفضل، لتسكن تلك الطبقات وسط المقابر ومناطق معدومة الخدمات في بيوت
بدائية، لتتكون مناطق شديدة الفقر، بها معدلات جريمة ضخمة، وتحكمها قوانين خاصة
نتيجة صعوبة السيطرة عليها.

تُعد مدافن الأباجية، التي تقع أسفل جبل المقطم، امتدادًا لقرافة مدينة الفسطاط القديمة، دُفن بها متصوفة وأولياء منْ الذين اختلوا بأنفسهم وانعزلوا بجبل المقطم وتركوا آثاراً مُبهِرة جعلت منها قرافة فريدة، منها مسجد وضريح «العارف بالله شاهين الخلوتي» المبني على تلة أعلى المقطم، والذي يظهر في مشاهد عديدة في الفيلم، وبجانبه قبة ضريح الشاعر المتصوف الشهير «عمر بن الفارض»، كما يوجد بقايا لآثار من العصر الفاطمي كمسجد «اللؤلؤة» ومشهد وقبة «إخوة يوسف»، وجميعهم ظهروا في الفيلم.

وكما ذُكِر في مقدمة
السيناريو، ظهرت تجمعات سكانية فقيرة بجانب قرافة الأباجية وأصبح حي الأباجية يجمع
بين المساكن المعاصرة البسيطة وبقايا الآثار الاسلامية الأنيقة، فبدا ذلك الحي
الذي يحتضنه جبل المقطم مكان مناسب لما يريده مروان حامد وعباس أبو الحسن، وهو
تصوير الفقر والعنف ولكن بشكل به عناصر جمالية تجعله أقرب للأسطورة.

على سبيل المثال، أصبح مشهد مقابلة عشري وحورية في قرافة الأباجية مشهدًا أيقونيًا، بسبب العناصر المعمارية الفريدة لقبة إخوة يوسف القريب من جبل المقطم، كما كان لمسجد شاهين الخلوتي المبني على تلة قريبة تأثير شاعري مهيب في بعض اللقطات.

«سيد شيبة معاه حكاية»

نستطيع أن نلاحظ اختلافًا كبيرًا بين تصوير العشوائيات في الأفلام الأخرى وصورتها في «إبراهيم الأبيض»، عند المقارنة مع العشوائيات في فيلم «حين ميسرة» الذي تم عرضه قبل «إبراهيم الأبيض» بعدة سنوات سنلاحظ أن المخرج «خالد يوسف» صوّرها على أنها تجمع سكني هائل غير متناسق من البيوت المبنية من الخشب وأدوات بسيطة، تفتقر للجمال وتقترب أكثر للواقعية، لم يكن هذا يلائم أهداف «مروان حامد».

أراد «مروان حامد» الابتعاد عن الواقع قليلًا، كما أنه احتاج إلى بعض الحرية لكي يُصوِّر معركة شعبية ضخمة في بداية الفيلم، فكان من المستحيل أن يتمكن من تصويرها في منطقة الأباجية.

وبمساعدة مهندس الديكور الكبير «أنسي أبو سيف» تم بناء مدينة صغيرة من بيوت إسمنتية متناسقة بجانب جبل صغير لتحاكي حي الأباجية، وبني أيضًا بيت فوق الجبل ليكون منزل «عبد الملك زرزور»، وتم تصوير المعركة الكبيرة الأولى (سيد شيبة معاه حكاية) في هذا اللوكيشن الصغير، ونلاحظ الاختلاف بين الأباجية الحقيقية والأباجية التي بناها «أنسي أبو سيف» في لقطات المطاردة الأولى بين إبراهيم وعشري والشرطة، والتي صُوِّرت في الأباجية الأصلية.

«أسد يحكم مملكة»

استخدم «مروان حامد» لقطات
التصوير البطيء في أجزاء متفرقة من الفيلم، اختيرت تلك اللقطات لكي تُبرِز لحظات
وتُبالغ في تأثيرها على المُشاهِد في مواقف عنيفة داخل المعارك أو في لحظات
رومانسية بين إبراهيم وحورية.

ولكن استخدام التصوير البطيء أيضًا دعا إلى تأمل البيئة التي تقع بها الأحداث، وأعطاها ملمحًا جماليًا أو على الأحرى مُتسام، مثل مشهد مسابقات «التوكتوك»، أو لقطات الجزارين وسحب العجول في العيد، أو مشهد تقديم «الحاج فارس» وفزورة «الأسد الذي يحكم مملكة» والذي استخدم فيه التصوير البطيء مع لقطات مونتاجية عنيفة متفرقة قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالقصة لكنها كانت مثل كابوس ملحمي ينتزع الرهبة من المشاهد.

وكانت النزعة الصوفية في الموسيقى التصويرية وإنشاد وصياح الشيخ «زين محمود» على قرع الطبول، بمثابة تكملة للحالة المزاجية المثيرة، التي تملأ مشاهد الفيلم منذ البداية، وكأنها قصة شعبية قديمة لا نعلم منها الحقيقي من الهلاوس.

كل العناصر السابق ذكرها اجتمعت لكي تجعل الفيلم مُتساميًا، وعندما نتأمل السمو بتمعن كما ذكره «إدموند بيرك»، يُتاح لنا الفرصة بأن نختبر ونستكشف الضعف الإنساني أمام كل التهديدات، الخيالي منها والواقعي، كما هو الحال في الملاحم والأساطير القديمة. ربما كان ذلك سبب تأثير الفيلم الذي جعله من كلاسيكيات السينما المصرية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.