بعد تعويم الجنيه الأخير ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، حتى بات المصريون يترحمون على أيام الأسعار الرخيصة. وقد تصدمك الحقيقة إذا ما عرفت أن ذلك الترحم والحنين لا يعود إلى عشرات السنين، بل إلى سنوات قليلة جدًا، أربع أو خمس بالكثير.من المؤكد أن الأحداث السياسية هي الفاعل الأقوى في تغيير نمط الحياة في مصر، وإعادة تشكيل طبقات المجتمع بناءً على النتائج الجديدة. هناك دراسات سياسية واجتماعية تناولت ذلك التغير بكثير من التحليل والتفصيل من عدة جوانب، إضافة إلى المقالات التي تشرح تلك الحالة يوميًا، لكنها في الأغلب ما تكون موجهة للباحثين والمتخصصين، ولا يفهمها كثير من القراء العاديين. وبالطبع لم يكن ليقف الأدباء بعيدًا عن تدوين التغير الذي يلاحظونه بأعينهم، وتسجيل اللحظات المهمة في حيوات الأجيال اللاحقة، في محاولة منهم للإجابة بطريقتهم التي يتقنونها عن سؤال: كيف تغيرت مصر والمصريون؟


1. «قشتمر»: كل الأشياء مرت من هنا

بالتأكيد لا يمكن الحديث عن التغير الذي أصاب حياة المصريين دون الالتفات لما سجله نجيب محفوظ عن ذلك.في رواية «قشتمر» يحكي نجيب حكاية بلد بأكملها على لسان الراوي، أحد أعضاء شلة من الصحاب اعتادوا الجلوس على مقهى صغير في حي العباسية اسمه قشتمر. تبدأ الحكاية بوصف حي العباسية، ذلك الحي الجديد الناتئ في قلب صحراء العاصمة، ثم يلج الراوي بسرعة إلى بداية تعرف الأصحاب على بعضهم في فناء مدرسة البراموني: صادق صفوان النادي، إسماعيل قدري سليمان، حماده يسري الحلواني، طاهر عبيد الأرملاوي، وخامسهم هو راوي الحكاية الذي لا نعرف اسمه، ولكن لا يعجزنا التخمين أنه نجيب بذاته.

علّمنا الوفد ماذا نحب وماذا نكره، واجتاحتنا القضية الوطنية وملكت قلوبنا، غطت على الأسرة والمستقبل والأمل الشخصي.

يسكن صادق وإسماعيل بيتين بسيطين من بيوت الطبقة المتوسطة، أما حماده وطاهر فهما من أبناء السرايات والفلل، وبهذا تتقابل طبقتا المجتمع على المقهى؛ لتبدأ أحاديث السمر والحكايات، تشرق وتغرب بين الأصحاب الخمسة على كل شيء، بداية من حكايات الجن والجنس وعذاب الدنيا والآخرة، وحتى أخبار السياسة ومشكلاتها العويصة.رواية «قشتمر» يمكن اعتبارها أشبه بسيرة ذاتية عن حياة نجيب محفوظ، يتمشى فيها بسرد هادئ وخط خفيف غير مندفع، ولا تحتوي على فكرة أو حدث عظيمين عكس رواياته الكبيرة، ليخبرنا عن حكاية مصر وتغيراتها منذ عام 1915 وحتى وقت كتابة الرواية، من خلال حكاية الشلة وتقلباتهم في مراحلهم العمرية المختلفة. تظهر بين السطور آراء محفوظ السياسية بشكل موارب: آراؤه في الثورة وناصر والانفتاح ومعاهدة السلام وغيرها من الأحداث التي عايشها، إلا أن حزنه وانكساره بسبب النكسة هو الشيء الأكثر وضوحًا في «قشتمر».نُشرت هذه الرواية عام 1988، وهي آخر رواية نشرها محفوظ، ولم ينشر بعدها سوى بضع مجموعات قصصية.

لا تخلو ثورة من انتهازيين.. ولكن بحسبها أن زعيمها رمز للكمال..

إنه ديكتاتور يا عمي..

بل إنه المستبد العادل.


2. «موت عباءة»: البكاء على أطلال العائلة

يبدأ خيري شلبي حكايته هنا بالمشكلة، حيث يخبرنا في أول سطر عن المشكلة العائلية التافهة التي فرقت بين الإخوة بسبب عباءة!يحكي شلبي قصة عائلة حشلة، في قرية من قرى الدلتا. وبالرغم من أنه عراب الواقعية السحرية العربية، إلا أنه يقدم حكاية واقعية تمامًا بدون فانتازيا القرية المشهور بها.تبدأ القصة من موت الأب، حيث يترك خلفه عباءة فخمة، هي دليل الفخر والوجاهة ولا يرتديها سوى كبير العائلة والمنوط به تمثيلها وتدبير أمورها. لكن الخلاف يدب بين الإخوة، الكبار منهم على وجه التحديد، وهو وإن كان خلافًا غير معلن، إلا أن تبعاته ظهرت جلية على تصدعات الأسرة، وانفراط عقد الأخُوة بفعل الزمن بعد موت الأب.نتتبع مع العم خيري قصة العباءة، منذ قدومها من الحجاز وانتقالها من كتف إلى كتف، ومعها نتتبع عباءات القرية كلها وتاريخ عائلاتها، لنستشف من تلك الرحلة حياة الفلاحين في القرى قبل دخول الكهرباء وقبل سفرهم للخليج، حيث كانت العادات عادات والتقاليد تقاليد. تنتقل العباءة من كتف أخ إلى آخر، ويسافر العيال إلى القاهرة للتعلم والعمل، ثم يسافرون إلى الخليج ويعودون محملين بأغلى الأجهزة والثياب، وتدخل الكهرباء إلى الأرياف، يموت عبد الناصر فيهتز الناس، ويحكم السادات فلا يرتاح البشر، الدنيا تغيرت كلها في لمحة بصر، وجرى الزمن بسرعة ولم يشعر أحد، ولم يجتمع الإخوة من جديد، بل تفرقوا أكثر وأكثر، ولم يحلوا مشكلة العباءة أبدًا، لينتهي بها المطاف معلقة كشبح هزيل فوق مسمار صدئ في إحدى الغرف كأنما تجاوزها الزمن للأبد.يحكي خيري شلبي حكايته تلك بسلاسته المعهودة، وبلغته المميزة الخارجة من صدور الفلاحين مباشرة إلى الورق، مع التعليق المباشر أحيانًا على الأحداث وإضفاء رأي شخصي هارب هنا أو هناك. وقد نشرت «موت عباءة» لأول مرة عام 1993.


3. «بيت الديب»: الهروب خارج الزمان

فجأة وعلى غير انتظار أعطتنا الدنيا ظهرها في لفة سريعة خاطفة، ما درينا صبح ذات يوم إلا والكرة الأرضية قد دارت ونحن ثابتون، فإذا نحن في الجزء البعيد عن أشعة الشمس وضوء القمر. طلع علينا رئيس جديد قديم، متقاعس، كاره للشعب، بذيء اللسان، يتذرع بالضباب، ويهدد بالفرم كل من يعترض طريقه.

مع قرية أخرى، ولكن هذه المرة في قرية العش، إحدى قرى محافظة الشرقية.يقدم لنا عزت القمحاوي قصة مباركة الفولي، لنكتشف في النهاية أن حياة مباركة ما هي إلا بانوراما طويلة لحياتنا كمصريين.تبدأ القصة من اللحظة التي يذهب فيها مجاهد الديب ليخطب مباركة لابن أخيه منتصر الديب، لكن مجاهد يلمح مباركة فتأسره، ليخطبها لنفسه وتنقلب الحكاية تمامًا، يهرب منتصر من البلد، وتتزوج مباركة بالعجوز مجاهد الديب رغمًا عنها لتنتقل معه للعيش في بيت عائلة الديب، الذي سيغدو فيما بعد سرايا العمدة وكبير القرية.يحكي لنا عزت القمحاوي حكاية مباركة في بيت مجاهد الديب وتمنّعها عنه، ويتتبع مع ذلك حكاية قرية العش، منذ كانت مصرفًا وحلًا، حتى صارت أكبر قرى مديرية الشرقية. تكبر العش شيئًا فشيئًا، تصير ثلاثة بيوت، ثم عزبة، ثم قرية كبيرة، يأتي عليها محمد علي وجباة ضرائبه، ثم أبناء الباشا وإقطاعييهم، ثم وباء الكوليرا وحرب فلسطين، ثم ثورة الضباط، ونكستهم أمام المحتل، ثم انتصار أكتوبر، وما تلاه من انفتاح اقتصادي، ومع كل تلك الأحداث تكبر مباركة شيئًا فشيئًا، تتحول من البنت التي تزوجت قسرًا إلى سيدة البيت، ثم كبيرة العائلة ومدبرتها، ثم الجدة الهرمة التي تنتظر الموت في ركن البيت، وتتحسر على ضياع الزمن من بين يديها، وتتفقد الراحلين بقلبها ولا تجدهم.

بدأت تعتقد أن تعليق الصور شؤم، لأنه تمهيد للاختفاء، وبداية السير على طريق تحول الشخص إلى ذكرى. وصارت كل أمنيتها أن يبقى أولادها في العش، ولا يسافرون حتى لو كان من أجل التعليم، لأنها لا تضمن حياتهم في جهات يسكنها ملك موت أقل حكمة، فيأخذ شبابًا في عمر الورد، حادث قطار، أو سيارة، أو في حرب لم يؤخذ رأي الولد فيها.

يحكي عزت القمحاوي بسلاسة لا متناهية، ويتقلب بين الحدث الخاص والحدث العام بخفة شديدة، حتى يضفر جميع الأحداث في بعضها لتنتج رواية مثالية. قد لا يعيب هذه الرواية سوى كثرة الأسماء وتداخلها أحيانًا بشكل يفقد تركيز القارئ في أكثر من موضع.نشرت «بيت الديب» عام 2010 عن دار الآداب اللبنانية، وفازت بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية لنفس العام.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.