كثيرة هي صراعات الإنسان على هذه الأرض؛ فهناك صراعه من أجل البقاء، وصراعه مع الآخر، وأقساها على الإطلاق صراعه مع نفسه. تلك الحالة من الحرب الداخلية الوئيدة التي قد تؤدي بصاحبها إلى الجنون أو اليأس والانتحار. إلا أن الحوار مع الذات في أصله فضيلة من فضائل النفس البشرية، وبه ترتقي النفس وترتفع إلى درجة الفضيلة.

في رواية «واحة الغروب» ركز الكاتب الكبير بهاء طاهر بشكل كبير على الحوارات الداخلية والصراعات النفسية لشخصيات روايته. تنوعت أنواع الحوار الذاتي في الرواية واختلفت من شخصية لأخرى. الرواية بطبيعة الحال مقسمة لأقسام متعددة، كل قسم يحمل اسم بطل الحوار الرئيسي في هذا القسم؛ وهذا بدوره ساعد على ظهور تفاصيل وملامح كل شخصية بشكل جلي.


الشخصيات الرئيسية

محمود

هو البطل الرئيسي للرواية، والعجيب أن غالبية حواراته أجراها مع نفسه، والأعجب أن أيًّا من تلك الحوارات كان هادئًا حياديًّا؛ فدومًا ما كان يقف من نفسه موقف القاضي مع المذنب. كان محمود دائم التأنيب لنفسه والتحامل عليها؛ ولذلك لم يفلح في الوصول بها لبر أمان.

كأن توبيخه كان يزيد الأمر سوءًا. لم يغفر لنفسه تفريطه في جاريته نعمة وكذلك لم ينسها، ولم يغفر لنفسه خيانته لثورة عرابي وبرغم ذلك لم يستطع أن يجني ثمرة خيانته، ولم يذق طعمها حلوًا أبدًا. الكثير من تأنيب الضمير وتقريع الذات داخل نفس محمود عبد الظاهر.

المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن. نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن ونصف عاشق. دائمًا في منتصف كل شيء. لم أقتل مليكة بيدي، لكني تركتها للقتل. أردت أن أنقذ محمود الصغير لكن في منتصف المحاولة تركت إبراهيم تُكسر ساقه.

تحمست فترة للوطن وللثوار، وعندما جاءت لحظة الامتحان أنكرتهم ثم توقفت في مكاني.لم أكن أبدًا شخصًا واحدًا كاملًا في داخله. طلعت كان أوضح مع نفسه. ما دام قد خان فليكمل الطريق إلى نهايته. باع نفسه وقبض الثمن الذي يريده. أما أنا فبعت بلا ثمن وبقيت قانعًا بالسخط على نفسي وعلى الإنجليز وعلى الدنيا كلها دون أن أعرف ماذا أريد. حتى الحب اكتفيت منه دائمًا بالمتعة، ثم وقفت لا أكمل الطريق. تركت نعمة التي أحببتها لتضيع مني.

تتفاقم أزمة محمود مع نفسه على طول الرواية، في حوارات ممتدة وطويلة لا تثمر عن شيء سوى المزيد من التعاسة وبغض الذات. حتى أصبح يعشق الموت، ويدعي أنه لا يخافه، بل ينتظره حتى تأتي لحظة حاسمة يكون على مقربة من الموت فيهابه ويفر في آخر لحظة. هذا الفرار زاد من أزمته مع نفسه ومن سخطه عليها. هكذا هو مع كل شيء يفعله ويندم عليه فيما بعد ولا يستطيع الهرب من الشعور بالذنب.

تلك المحاكمة التي لا تنقطع للماضي، وللحاضر. أقول لنفسي هأنذا قد واجهت الموت الذي تفلسفت في الصحراء عن إغوائه، وعن الهاتف الذي يناديني. لكني عندما رأيته ينقض حجرًا من السماء ارتعبت. حتى عندما كان واجبًا يتحتم عليَّ أن ألبيه، جبنت وتركت غيري يقوم به. هل هذه إذن حقيقتي؟

كاثرين

شخصية كاثرين على النقيض تمامًا من شخصية محمود. دومًا ما تتهرب من صوت ضميرها، وربما تخمده وتجد لنفسها ألف مبرر لأي شيء مهما كان سيئًا. لا تشعر بالندم أبدًا، وقلما تشعر بالذنب عن أي ألم تسببت به لغيرها، حتى موت مليكة والفضيحة التي سببتها لها في البلدة، لم تشغل تفكيرها طويلًا، ووجدت لنفسها مهربًا كعادتها لتكمل حياتها وكأن شيئًا لم يكن.

يريدني أن أشعر بالخجل من نفسي لأني ضربتها وطردتها! ذكرته مرة أخرى أنه هو الذي فضحها ورماها في الطريق، فما ذنبي أنا؟ لا يقتنع. بل يريد أيضًا أن أقدس هذا الشيخ وأعترف بفضله ليل نهار؛ لأنه رغم ما فعلناه ببنت أخته يرسل الأدوية والأعشاب لفيونا ليساعدها.

الفجوة بين شخصية كاثرين ومحمود كانت جلية، الأمور التي تتجاوزها كاثرين وتشرب نخب انتصارها على صوت ضميرها في سكون كان محمود يقضي الأيام والليالي يجلد نفسه عليها. كانت كاثرين تنظر لما يفعله محمود بنفسه على أنه ضرب من الجنون، ولم يجعلها ذلك تتوقف لحظة مع ذاتها كما يفعل هو.

ساءت حالته كثيرًا منذ حادثة إبراهيم. لازمه منذ إصابته وحتى وقف على قدميه. يتصرف كما لو كان مسئولًا عما جرى للجندي المسكين. الأغرب أنه يتحدث بنوع من التأنيب عن زيارتي للمعبد كما لو كانت هي السبب في كسر ساق إبراهيم! يجب أن يفهم أنها مجرد حادثة، ولا أحد مسئول عن القدر. ثم إنها لم تكن حادثة خطيرة جدًّا ما دام أمكن علاجها بطب بدائي. لكن محمود يتلهف على الأسباب التي تجعله تعيسًا.

حتى في المرات القليلة التي كانت تعايش كاثرين فيها شعورًا بالندم كانت فورًا ما تجد لنفسها مهربًا وملاذًا من هذا كله، بأن تلقي اللوم على أي شيء آخر.

كاثرين، كم مرة قلتِ هذه العبارة أخيرًا؟ قلتها عندما حاولت أن أستحضر روح الإسكندر. وعندما سعدت بابتعاد محمود عني. والآن عندما خضعت لإغواء مليكة. وإذن فمن أكون؟ يوجد شيء هنا يغير الإنسان، في هذه الواحة المعزولة في جوف الصحراء السحيق، شيء يغيرنا.

الشيخ يحيى

أكسبه طعونه في السن الكثير من الحكمة؛ رغم أن له نفسًا لوامة كمحمود إلا أنه أكثر اتزانًا وتصالحًا مع ذاته ومع الآخرين منه. قوة التسامح هي السر. الشيخ يحيى يغفر لنفسه وللدنيا كل ما كان منهم؛ لكن لا ينساه أبدًا. هو فقط يحاول أن يتجاوزه. يتجاوز أحزانه، وصراعاته مع نفسه ويغفر لنفسه ولمحمود ولأهل واحته كل شيء، ويكتفي بأن يعتزلهم، ففي العزلة السلامة.

رغم حب الشيخ يحيى الكبير لابنة أخته مليكة، ورغم كون محمود سببًا غير مباشرٍ في موتها؛ نجد الشيخ يحيى تجاوز كل هذا واستطاع أن يمضي في حياته رغم كل شيء.

لكن يا شيخ كان هذا سببًا أقوى لأن تتركهم يقتلونني بالأمس! رفع رأسه وقال بصوت مجهد: لولا أني تعلمت منذ زمن طويل أن أكره الدماء والقتل. غير أني بشر أيها المأمور. لم أتعلم منذ صغري أن أسيطر على غضبي؛ لكني أحاول أن أقهره. تعلمت إن غضبت أن أندم وأن أتوب. وها أنا أطلب منك ومن زوجتك أن تصفحا عني. مليكة أحبتكما ومن أجلها. سكت وفي صوته غصة، فقلت: نحن يا شيخ نصفح أم أنت؟ لو تعرف كم أندم أنا أيضًا بسبب ما حدث لابنتك!

-لكن الندم وحده لا يكفي. الأهم التوبة.

-وكيف تكون التوبة الآن وما حدث قد حدث؟ هي ماتت وانتهى الأمر.

ظل مثبتًا نظره على وجهي لفترة وقال: إن لم يسامح الإنسان نفسه فكيف يطلب من الناس أن تسامحه؟

ربما يعلم الشيخ يحيى بأزمة محمود مع ذاته، وربما مر بنفس حالته قبل أن يصل إلى تلك الحالة من السلم مع نفسه؛ فكلماته لمحمود توحي بذلك:

انتبهت إلى أن الشيخ يخاطبني: ادعُ أن يكتب الله لها الشفاء، وأنا سأدعو لك كثيرًا أن تصالح نفسك.

-وما معنى أن أصالح نفسي؟

كأنه لم يسمعني فأكمل: وأن تصالح الناس أيضًا أيها المأمور. أعرف أن هذا لا يحدث بين يوم وليلة. أعرف أنه قد يستغرق عمرًا بأكمله.

الشخصيات الثانوية

فيونا (القديسة)

تسميها كاثرين «القديسة»، وتتمنى لو تملك قلبًا مثل قلبها، قلبًا ينسى ويغفر ويصفح وكأن شيئًا لم يكن. نسيت لكاثرين كيف تزوجت بالرجل الذي أحبته ونسيت لحبيبها السابق ما كان من زواجه بأختها. لم تمتلك فيونا أصواتًا داخلية صاخبة تؤرق عليها نومها أو تؤرق صفو يومها. تعيش فيونا الحياة ببراءة وبساطة، وهذا تحديدًا هو سبب حب الجميع لها.

لكن قولي يا فيونا لماذا تخليتِ أنت عن مايكل؟ ندمت بمجرد نطقي بالكلمات لكن الوقت كان قد فات. بوغتت هي فظلت تتطلع نحوي لفترة قبل أن تقول:

* ولماذا لا تتركين مايكل يرقد في سلام؟ هو في عالم لا يشغله فيه ما يشغلنا.





معذرة لم أقصد.

سكتت من جديد تفكر ثم قالت: تقلقك هذه الحكاية كثيرًا يا كاثرين. ناقشتني فيها قبل زواجك ورددت عليك فهل سيساعدك الآن في أن أقول لك: نعم أنا كنت أحب مايكل؟ وما فائدة هذا الكلام الآن. ألم نكن أمامه واختارك ووافقت أنا بكل رضا؟ لماذا لا تقنعين بذلك؟

لم أرد فأكملت هي: لكني سأعترف لك بأني دهشت عندما وافقت أنت على الزواج من مايكل. لماذا وافقت وأنت لم تكوني تحبينه؟

-لست أدري، ولكني دفعت الثمن.

الشيخ صابر

رغم كل ما يضمر لأهل الواحة ولجميع من حوله من سوء فإنه يبدو متصالحًا مع نفسه. هو يعلم أن نفسه نفس شريرة، لكنه يرى أنهم جميعًا يستحقون.

اليوزباشي وصفي، والشاويش إبراهيم

لن أغفر لأحد. لا للغربيين ولا للمصريين ولا حتى للشرقيين. لن أنسى ما أصابني منهم جميعًا. قد جاءت اللحظة التي انتظرتها طويلًا وسيكون جمعكم كله أداة طيعة في يدي.

لم ترد لهاتين الشخصيتين أي أصوات داخلية. اليوزباشي وصفي ذو الوجهين مع الجميع لا أحد يعرف ولاءه الحقيقي. هل ينتمي للنظارة في القاهرة؟ هل يريد مهادنة الأجواد؟ هل فعلًا يحب مصر رغم جذوره الشركسية ورغم ولائه وانتمائه للاحتلال الإنجليزي؟ هذا النوع من الشخصيات مؤكد لا يمتلك صوتًا داخليًّا ولا ضميرًا يؤنبه. ولاؤه الأول والأخير لمصلحته أينما كانت ومهما كانت الوسيلة.

الشاويش إبراهيم لا يعرف شيئًا عن الأحقاد والضغائن، لا يؤذي أحدًا ولا يتذكر أن أحدًا آذاه. يتعامل مع كل الأشياء بسطحية وهكذا يستطيع أن يجلس مع نفسه في هدوء دون أن يدور بينهما أي حوار بخير أو بشر.

رواية «واحة الغروب» هي آخر الأعمال الروائية للكاتب الكبير بهاء طاهر، صدرت عام 2008، وحصلت على الجائزة العالمية للرواية العربية بوكر في أول دورة لها. الرواية تعكس بشكل كبير خبرة بهاء طاهر التي صاغتها السنين، ومكنته من نسج أبعاد شخصيات أبطاله بدقة وبراعة؛ حتى يستطيع كل منا أن يرى نفسه في شخصية أحد الأبطال.

الرواية تستند إلى حدث واقعي كما في معظم روايات بهاء طاهر، مثل «الحب في المنفى» التي وثق فيها لأحداث مخيم عين الحلو جنوبي لبنان. إلا أن بقية أحداث الرواية من نسج الخيال. دمج الكاتب بين شخصية الضابط الحقيقي محمود عزمي الذي أسقط أحداث الرواية على قصة حياته وبين قصة الباحثة اليونانية لينا سوفالتزي التي أجرت العديد من الأبحاث عن استكشاف مقبرة الإسكندر الأكبر في واحة سيوة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.