يحدث خلط شديد -سواء عن عمد أم عن جهل- بين حاجة أي مجتمع إلى حكومة وبين ما يسمى بالحكومة الإسلامية، فلا شك أن أي مجتمع يحتاج إلى حكومة، بل أن أي جماعة ولو كانت من ثلاثة أفراد في حاجة إلى رئيس أو أمير أو قائد. وقد أفاض الفلاسفة والمفكرون في بيان الأسس الفلسفية والاجتماعية لذلك، كما دلّل علماء علم الأحياء على ضرورة وجود القيادة حتى فيما بين الحيوانات والطيور.[1]

هل يكتسب الحُكّام عصمة وقداسة أم هم مجرد مجموعة من
البشر غير معصومين ولا مقدسين ولا مميزين؟ هل تكون الحكومة مسئولة أمام الشعب أم
مسئوليتها لا تكون إلا أمام الله في الحياة الآخرة؟

لقد اختلفت الآراء حول ما إذا كانت السياسة لها أصل في الدين أم أنهما مجالان منفصلان تمامًا، حيث إن الدين هو شيء روحاني فقط ليس له علاقة بالأعمال الدنيئة المتعلقة بالسياسة، وهناك من يرى أن السياسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدين، وهذا الفريق يريد أن يُرجِع كل أصول الحكم إلى الدين وإلى إثبات فكرة الخلافة والأمر بطاعة الحاكم كونه ممثلاً عن الدين أو لكونه يطبق الشريعة، وبالتالي لا تجوز معصيته، وهنا تبرز فكرة الحاكمية وتديين العنف.

يرى «توماس جيفرسون»، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، أنه في حالة اتحاد الدين والسياسة تسقط الحكومات المدنية، وفي حالة انفصالهما تنتعش. وفي هذه الملاحظة كان جيفرسون يقدم بإيجاز تقليدي فكرة اعُتبرت أساسًا فكرة أمريكية: فصل الكنيسة عن الدولة، هذه الفكرة لم تكن جديدة تمامًا، إذ كان لها بعض أسبقية في كتابات اسبينوزا ولوك وفلاسفة عصر التنوير الأوروبي، ولكن كانت الولايات المتحدة أول من أعطى هذه الفكرة قوة القانون، وتدريجيًا خلال قرنين من الزمان أصبح هذا المبدأ حقيقة واقعة.[2]

ويذهب طه حسين في الفتنة الكبرى إلى إثبات أن نظام الحكم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن إلهيًا مُنزلاً من السماء، ويؤكد على أن فكرة الانتخاب المُمثلة في «البيعة» قد سنّها الرسول للمسلمين في أيامه هو، والناس جميعًا يعلمون أنه استنفر أصحابه لموقعة «بدر» ولم يأمرهم بها أمرًا، وإنما دعاهم إليها ورغّبهم فيها ووعدهم بأمر الله إحدى الحسنيين، وكان العهد بينه وبين الأنصار ألا يُخرِجهم لقتال وأن يدافعوا عنه إذا تعرّض للأذى، فلما كانت غزوة بدر شاور أصحابه وانتظر أن يُدلوا بآرائهم ولم يمض بهم إلي القتال حتى قال له زعماء الأنصار: لو سلكت بنا هذا البحر لاتبعناك، فعرف أنهم يرضون أن يخرجوا معه للقتال. والناس جميعًا يعلمون أنه لم يأمر أصحابه بقتال قريش حين بلغه أنها مكرت بـ عثمان يوم الحديبية وإنما ندبهم لذلك، فبايعوه على الموت، ولو قد شاء أحدهم ألا يبايع لكان له مخرج، ولكنهم بايعوه جميعًا لأنهم كانوا يؤمنون به وبالله الذي أرسله، ويستجيبون إذا دعاهم.[3]

وعلى الطرف الآخر هناك من يدعم ارتباط السياسة بالدين بحجج من القرآن والسنة، فمثلاً يقول يوسف القرضاوي إن الحياة لا تعرف شيئًا اسمه الاقتصاد منفصلاً عن شيء اسمه الاجتماع، وشيء آخر اسمه السياسة، فالحياة شيء متكامل متصل ولكن عقلنا العاجز المُغرَم بالتحليل والدرس لن يتمكن من القيام بهذا التحليل والدرس إذا واجه الحياة ككل قائم بذاته، فهو مضطر إلى أن يقسم الحياة إلى أوجه وإلى ألوان وإلى أنواع من العلاقات، فيُسمي بعضها اقتصادًا ويسمي بعضها الآخر سياسة وبعضها اجتماعًا وأخلاقًا ودينًا.[4]

ويرى القرضاوي أن السياسة حين ترتبط بالدين تعني العدل في الرعية، والقسمة بالسوية، والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوي، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان. وهو ما لم يحدث في عهد الأمويين باستثناء عمر بن عبد العزيز، ولا العباسيين ولا العثمانيين.

فكرة الحاكمية وتديين العنف

يبقى مفهوم الحاكمية الشائك والمراوغ من أهم المفاهيم المؤججة للعنف عند الجماعات الإسلاموية، ويعني مفهوم الحاكمية، حسب سيد قطب، إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان، إفراده بها اعتقادًا في الضمير وعبادةً في الشعائر وشريعةً في واقع الحياة، أي أن الحاكمية تعني السلطة والتحكم في الناس وتسييرهم وفق المنهج الإلهي في جميع شئونهم وإرغامهم على ذلك، واستمداد التشريعات والمناهج والنظم والموازين والعادات والتقاليد من الله وحده، وتطبيق شريعته على كافة مناحي الحياة.

وقد تم استلهام هذا المفهوم لدى سائر الجماعات الإسلامية وكأنها وجدت فيه ضالتها المنشودة، وحاجتها التي تلبي نزعات العنف لديها، وهذا ما نلمحه عند جماعة التكفير والهجرة التي استلهمت عن طريق زعيمها «شكري مصطفى» أفكار سيد قطب لبناء أيديولوجيتها الفكرية.

تاريخ فكرة حاكمية الله

إن مقولة أن الحكم ليس إلا لله، أو أن الحاكمية لله وحده، بالصورة السياسية التي تُرفع بها وبالمنطق الأعوج الذي تُقال به وبالفهم الأعرج الذي تُشاع على أساسه مقولة غير إسلامية، لا يعرفها القرآن الكريم ولا السنة النبوية، وهي فكرة نشأت أصلاً في مصر القديمة، ثم انتشرت في مجتمعات مسيحية في القرون الوسطى، ففي مصر القديمة كان الفرعون (الحاكم) في اعتقادهم صورة لله على الأرض، وكانت المحاكم عندما تصدر حكمًا بالإعدام ترفعه إلى الفرعون الذي كان وحده صاحب الحق في سلب الحياة من أي فرد من رعاياه.[5]

وفي العصور الوسطى، عصور استبداد ملوك أوروبا وأمرائها برر، لهم بعض رجال الدين والفلاسفة استبدادهم ذلك بنظريات ثلاثة تعود كلها إلى الفكرة المصرية القديمة، فقد قال رجال الدين والفلاسفة في تبرير استبداد الحكام إن الحاكم إنما هو ظل الله على الأرض، أو أن له حقًا مُقدسًاً في الحكم، أو أنه جاء إلى الحكم وتصدر عنه الأحكام والقرارات تبعًا للعناية الإلهية التي رتبت ولايته وترتب له أعماله، وفي كل الأحوال وتبعًا لأي نظرية من هذه النظريات الثلاث: فإن حكم الحاكم يكون حكم الله، وتكون الحاكمية حاكمية الله بالمعنى الحرفي أو بالمعنى المجازي سواءً بسواء.

أثر فكرة حاكمية الله

أول ما دخلت فكرة حاكمية الله إلى الفكر السياسي الإسلامي وإلى الفكر الديني الإسلامي، كانت من خلال آراء الخوارج ثم تلقفها الخلفاء الأمويون والعباسيون ورددوها لتصبح جزءًا من الفهم الإسلامي، فتخدمهم في أغراضهم وتوطد لهم سلطانهم وتبرر لهم مظالمهم وتحقق لهم استعباد الناس من دون الله. فقد قال معاوية خصم علي بن أبي طالب ومعاصر الرعيل الأول من الخوارج: الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت فلي وما تركته للناس فبفضل مني.[6]

وقد بدأت الحضارة الإسلامية في الانحدار منذ القرن الرابع الهجري، وفي القرن السادس عشر الميلادي ساد العثمانيون واحتلوا أغلب بلاد الشرق الأوسط بما في ذلك مصر، وفرض العثمانيون على رعايا البلاد المُحتلة ومنهم المصريون ظلامًا شديد الوطأة وجاهلية عنيفة الضغط، حتى أصبحوا في ظلام دامس وفي جهل بالغ، نسوا فيه المناهج العلمية التي قدمها المسلمون الأوائل وأعرضوا عن الإبداعات العقلية التي فاض بها إسلام القرون الأولى.[7]

وتجدر الإشارة إلى أنه في الإسلام وعند جمهور أهل السنة: السلطة السياسية ليست دينية على الإطلاق ولم تكن دينية أبدًا، بمعنى أنها لا تستند إلى حق إلهي، ولكنها تقوم على إرادة المؤمنين، هذا فضلاً عن أن الحكام بشر بلا عصمة أو قداسة.

ويرى فرج فودة أن الإسلام السياسي هو اختراع ووسيلة ناعمة من أجل الوصول إلى سدة الحكم باسم الإسلام، وغالبًا ما يكون نوع النظام استبداديًا وتكفيريًا لمعارضيه حتى وإن كانوا مسلمين.

الجهاد والعنف

تم تحريف معنى الجهاد من جانب بعض الفقهاء، وحُرِّف عمدًا من جانب بعض السلطات السياسية في التاريخ الإسلامي، وقد أثّر بعض الفقهاء على العقل الإسلامي فيقولون إن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول أو المجتمعات هي الحرب دائمًا، وأن السلم ليس إلا هدنة مؤقتة ريثما يتهيأ المسلمون للحرب.

ولقد حدث في بواكير العهد الإسلامي أن خرج الخوارج على علي بن أبي طالب، واعتبروا أن الحرب ضده جهاد، بل واعتبروا أن قتله وقتل معاوية وعمرو بن العاص جهاد في سبيل الله، ونفّذوا ما عقدوا العزم عليه، واستقر الرأي بشأنه، فلم يُقتل إلا علي بن أبي طالب باسم الجهاد في سبيل الله. ومنذ ظهور الخوارج أصبح فكرهم الدموي القاتل وتفسيرهم الخاطئ للجهاد أسلوبًا دائم الظهور في التاريخ الإسلامي، فقد ظهر على نسقهم الحشاشون وغيرهم، كما ظهرت في العصر الحديث جماعات كثيرة تأتم بأفكارهم وتهتم بفكرة التقتيل والاغتيال كأسلوب أمثل للجهاد.[8]

وقد برز العنف الديني حينما استحال الفكر الديني دينًا وتحولت الآراء إلى عقائد واستبدلت الأصول بالفروع فقامت مقامها وتحكمت في وعي المؤمنين وسلوكهم، ساد العنف الديني حينما اعتقد الناس أن آراء الرجال عقائد يقاتل المرء من أجلها ويُستشهد في سبيل الدفاع عنها ونشرها، تقاتل المسلمون فيما بينهم لاختلافات في فروع الدين أو كيفية الصلاة أو طريقة فهم النص، فأريقت الدماء وخرب العمران وعلى هذا الأساس سادت في القرون الوسطى حروب مذهبية حاقدة ظهرت اليوم في أشكال جديدة فأبدعت في القتل والتقتيل والإبادة والتدمير.[9]

فقد توهم المؤمنون لقرون من الزمن أنهم يقاتلون من أجل دين الله، ولكنهم كانوا يقتلون بعضهم بعضًا من أجل آراء بشرية اقترحها هذا الطرف أو ذاك، كان عنفهم واهمًا ولكنه مدمر، فهل من الدين أن يتقاتل أتباع الدين ذاته وأن يقتلوا غيرهم من الخلق؟ هل من الدين ترويع الناس وتهديدهم؟ هل من الدين أيضًا حرق الأحياء والتلذذ بذلك؟



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، مكتبة مدبولي الصغير، الطبعة الرابعة، 1996، ص 27.
  2. إدوارد سعيد وبرنارد لويس، الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام الغربية من وجهة نظر أمريكية، بيروت، دار الجيل، 1994، ص 10.
  3. طه حسين، الفتنة الكبرى، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014، ص 25-26.
  4. يوسف القرضاوي، الدين والسياسة، دبلن، المجلس الاوربي للإفتاء والبحوث، 2007، ص 58.
  5. محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، ص 50.
  6. نفس المرجع، ص 53.
  7. نفس المرجع، ص 141.
  8. نفس المرجع، ص 135-141.
  9. علي بن مبارك، العنف الديني: الدلالات والخلفيات، مؤمنون بلا حدود، 7 مارس 2016.