قد يسألُ سائل: ما علاقة الحرية بأصول الفقه؟ وما تلك الحريةُ التي تنطوي عليها منظومة أصول الفقه التي تشمل: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وما يلحق بذلك من مصادر أصولية أخرى مختلف فيها بين أئمتنا بشأن حجيتها ومناهج الاستدلال بها؟

لسنا بصدد البحث في «أصول الفقه» -فما هو بموضوعنا الآن-
ولا بمعرض تفصيل التأصيل والتنقيب والتفتيش عن الحرية في كوامن هذه الأصول، وإنما
نحن هنا بصدد «قراءة» معرفية عامة لهذه الأصول، نمهِّد بها للدخول في معترك تفاصيل
الحرية الثاوية في كوامنها، والمنضبطة بمقاصدها؛ كي نتبين: ما الذي تعنيه أصول الفقه
لجهة الحرية ونقيضها الاستبداد أو الاستعباد، أو الاستبعاد، أو القهر، أو ذلك كله؟

سنكتفي هذه المرة بمثال «السبب» بمفهومه الأصولي، لكي
نلقي من خلاله أول ضوء على صلة الأصول بالحرية، ثم نخصص مقالات أخرى نستطرد فيها
ما بدأناه بإذن الله، ونمد أشعة هذا الضوء على ما عداه.

تعني منظومةُ أصول الفقه -ضمن ما تعنيه- تشييدَ صرح
المرجعية المعرفية العليا التي في نورِها يتبينُ الصوابُ من الخطأ، والحقُ من
الباطل، والحلالُ من الحرام، والممنوعُ من الجائز، والثابتُ من المتغير. ولأصول
الفقه في ذلك كله -وفيما يندرج فيه أو يتفرع عنه- سلطةٌ مطلقة من كل وجه وبكل
اعتبار.

وتعني هذه المنظومة أيضًا: بيان ترتيب تلك الأصول، وتدرجها في الحجية وقوة الاستدلال. ولهذه المرجعية في الأحوال كلها «السيادة» التشريعية التي تحمي الذين يعيشون في ظل اجتماعها السياسي من عسف أي سيادة أخرى تدعي أنها مرجع السلطة ومأوى المعرفة الحقة؛ وبخاصة «سيادة الدولة» التي اخترعوها في عصر التنوير الأوروبي لتكون مطية الرؤساء والأمراء لتحقيق مآربهم وإحكام قبضة استبدادهم، ولتقي أشخاصهم من المحاسبة والمراقبة والمحاكمة، بحجة أنهم ينطقون باسم «الدولة». وأوضح دليل على ذلك أن أعرق الديمقراطيات تنص تشريعاتها على أن ما يسمى: «أعمال السيادة» التي يقومون بها مستثناة من الخضوع للقضاء بينما جميع المحكومين يجب أن يخضعوا له.

وثمة مفارقة هائلة -في هذا السياق- يستحسنُ التنبيه إليها قبل الانتقال إلى تفاصيل معاني الحرية في أصول الفقه. هذه المفارقة هي: أن الفكر السياسي الحداثي في نسخته الأوروبية الأصلية، ومنذ معاهدة وستفاليا في سنة 1648م تقريبًا، يؤكد وبإلحاح على أن سيادةَ الدولةِ القومية -التي كرستها تلك المعاهدة- يجب أن تكون جامعة لخمس خصائص لا تنفك إحداها عن الأخرى، وهي أن تكون سيادة الدولة:

واحدة، ودائمة، ومطلقة، ولا تتجزأ، ولا يمكن التنازل عنها، أو عن جزء منها.

وبأيسر نظرٍ في تلك الخصائص الخمس، يتبينُ أنها هي ذاتها التي كانت سلطات الكنيسة تستخدمها لتبرير هيمنتها وممارسة استبدادها باسم الدين. وتلك الخصائص تكاد تكون استنساخًا حرفيًا لخمسة أسماء من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. وكل ما في الأمر هو أن «سيادة الدولة» وما تتطلبه من تفويض شعبي، جاءت لتحل محل «سيادة الكهنوت» وما كان يدعيه من تفويض إلهي.

وتحت ستار «سيادة الدولة»، مارس الرؤساء والأمراء سلطات الاستبداد الديني نفسها التي جرى التخلص منها تدريجيًا وعلى مراحل. ولم تكن تلك الحيلة سوى محاولة ملتوية لنقل ادعاء التفويض الإلهي للسلطات الدينية إلى «الدولة المتألهة»، التي يسخرها الحكام لمصالحهم، ويمارسون باسمها استبدادهم ويصادرون الحريات متى شاؤوا، وهو ما تسمح به «سيادة الشريعة» عندما تكون مطبقة ومحترمة، إذ لهذه السيادة الحكام قبل المحكومين ومعهم، دون أن يكون لهؤلاء الحكام حصانة من المحاسبة، أو استثناء من العقوبة. وقصة تهريب السلطات الدينية الكهنوتية التي هيمنت على أوروبا في عصورها المظلمة، إلى «سيادة الدولة القومية الحديثة» في عصر التنوير والحداثة، واستمرارها إلى اليوم، هي قصة طويلة، وتحتاج لحديث آخر ليس هنا مجاله.

ما يهمنا هنا هو: بيان أوجه ارتباط الحرية -بمعناها الذي
أسسناه في مقالاتنا السابقة- بمنظومة أصول الفقه. ومن أهم أوجه ارتباطها: أن هذه
المنظومة لا تترك فرصةً لأحد -مهما ارتفع كعبه في العلم أو في المنصب أو في الجاه-
أن يستبد برأيه، أو أن يفرضه على غيره تحت أي دعوى من الدعاوى، فالكل يجتهد في نطاق
القرآن والسنة والإجماع والقياس، والكل يعبر بحرية عما يؤديه إليه اجتهاده وفق هذه
الأصول، ويعلم أنه قد يصيب وقد يخطئ، وهو يعلم أن «الله أعلم».

تأتي علاقة الحرية بأصول الفقه أيضًا من كون هذه الأصول
تربي العقل الاستدلالي وتشيد دعائمَه، وتشيع ثقافته في المجتمع بمختلف مستوياته
وفئاته، وتصونه من نقائص الاستبداد وأدوات الطغيان. وتحميه من سيطرة الخرافات
والأساطير، ومن سطوة الأوهام والأهواء، وتبعده عن ضلال الجهل والزيف.

وليس أضيع للحرية من شيوع الخرافات والأساطير، ومن
استحكام الأوهام والأهواء، ومن استبداد الجهل والزيف. وليس أنسبَ لتمهيد طريق
الطغاة والمستبدين وتمكين السلطات الكهنوتية -من أي نوع كانت- من ثقافة الكتمان والأساطير
والخرافات والأهواء والأوهام. والتاريخ في وقائعه الاجتماعية والسياسية حافل
بالأدلة والبراهين على ذلك، والواقع المعاش لا ينقصه شيء من ذلك.

يظهر أثر تلك المرجعية المشيدة على نسق أصول الفقه، أول
ما يظهر في حرية الجهر بالرأي والاعتقاد، وفي حرية التعبير عمّا يؤمن به الفرد،
ذلك لأن آيات الكتاب العزيز حثَّت على ذلك، قال تعالى: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون» (آل عمران: 104).

وفي الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه). فإن غابت تلك الحريات فهذا دليل على أن أصول الفقه في قيد التعطيل، لا في موضع التفعيل.

تظهر آثار مرجعية أصول الفقه أيضًا في شيوع حريةِ
التفكير والبحث والتعلم والتعليم والتأليف، وتعدد الاجتهادات، أو ما نسميه بلغة
اليوم «الحريات الأكاديمية». وتجلّت هذه الحريات في تاريخ مجتمعات الأمة في ازدهار
حركة التأليف والاجتهاد والإفتاء، وفي تعدد المذاهب الفقهية، وتنوع المدارس
الأدبية، وفي نهضة العلوم الطبيعية، وفي الترجمة من مواقع القوة الحضارية، لا من
مواقع الضعف والانبهار والانكسار للغالب.

واتسع المجال لكل ذي رأي، وتباينت نتائج الأقوال، ولم يكن ذلك محلًا لإنكارٍ، ولا مبعثًا لازورارٍ، ولم تكن ثمة ثلمة يمكن أن ينفذ منها نافذ ليدَّعي أنه وحده صاحب الرأي الصواب، أو أنه يمتلك مطلق الحقيقة. بل وجدنا من قال من كبار فقهائنا: «قولنا هذا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب».

وفيما رواه ابن عبد البر من طريق الحارث بن أبي أسامة،
عن محمد بن سعد عن الواقدي: أنه عندما أخبر أبو جعفر المنصور الإمامَ مالكًا أنه
عزم على كتابة الموطأ وإرساله إلى الأمصار وإصدار أمرٍ بأن يعمل الناس بما فيه،
قال له الإمام: «لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا
أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله، وغيرهم، وإنَّ ردَّهم
عن ذلك شديد، فدع الناس وما هم عليه».

هذا بشأن عموم ما تنتجه منظومة أصول الفقه من آثار تترتب
على فتح أبواب حرية التفكير والتعبير والاجتهاد، وغلق أبواب الاستبداد وادعاء
العصمة واحتكار الحقيقة.

أمّا بشأن إسهام «فروع» أصول الفقه، في تغذية «الحرية»
وترسيخها في الوعي الفردي والجماعي، فاستقصاؤه والإلمام بأطرافه سنحاول الوفاء به
في مقالاتنا اللاحقة. وهنا ما وعدنا به في مطلع هذا المقال وهو: تعريف «السبب»
أصوليًا، وصلته بمسألة الحرية.

لا يتهاون الأصوليون وهم يعرفون السببَ الشرعي في
التشديد على أنه يجب أن يكون: «وصفًا ظاهرًا منضبطًا». والسبب يندرج ضمن أقسام
الحكم الوضعي عند الأصوليين (السبب، الشرط، المانع). وظهور السبب عندهم يعني أن
يكون واضحًا تدركه الحواس وتفهمه العقول، أو هما معًا. فإذا وقع «السبب» في مرمى
إدراك الحواس والعقول صحَّ أن يكون سببًا وضعيًا لحكم شرعي. ومعلوم أن الحكم
الشرعي يستوجب الطاعة والامتثال. أمّا ما خفي وتعذر الاطلاع عليه، فلا يصح أن يكون
سببًا وضعيًا لحكم شرعي يتعلق بتصرفات الأفراد وتعاملاتهم.

والحكمةُ في ذلك: أن السبب الوضعي «علامة» على الحكم
الشرعي، ومن خصائص العلامة أن تكون واضحةً بينةً ليراها الناس وليهتدوا بها، أما
إذا أُخفيت هذه العلامة -بفعل فاعل- أو لم تكن بادية ظاهرة، فلا يصح أن تكون سببًا
لحكم شرعي، ولا يجوز أن تكون علامة على تكليفٍ أو إلزام.

ويضيف الآمدي إضافة ذات مغزى في تعريف السبب، وهي: أن
يدلَّ الدليل السمعي «على كونه سببًا لحكم شرعي» (الآمدي، الإحكام في أصول
الأحكام، ج1/ص181)؛ أي أنْ يكون مؤيدًا بدليل من الكتاب والسنة، وهما مصدر الأدلة
السمعية، وصلب المرجعية الأصولية العليا.

أمّا الإمام القرافي فقد عالج شرط «الظهور» علاجًا مبهرًا تحت عنوان «الشك في السبب»؛ وعنده أن الشك في السبب يمنع تأثيره في الحكم، فيصيرُ لا اعتبار له. ولا يزول الشك إلا بتحقيق منهجي صارم يعتمد طرق الإثبات والاستدلال وكيفيات استخراج الأحكام من النصوص الثابتة لتطبيقها على الوقائع المتغيرة، ولا يقوى على ذلك إلا الراسخون في الفقه وأصوله، وفي الاجتماع المعيش ومتغيراته.

لكن: ما معنى هذا لجهة مفهوم الحرية على وجه العموم لا
على وجه الخصوص؟

معناه أن استنباط الأحكام الشرعية يجب أن تشير إليه أسبابٌ وعلامات واضحة تقع في مرمى الإدراك، وأن يمتد هذا الإدراك من دائرة المختصين من العلماء إلى الدائرة الاجتماعية الأوسع التي هي مناط موضوع هذا الحكم أو ذاك، كي يتشاركها كلُّ قادرٍ من المجتهدين على استنباط الحكم، ويعرفها في الوقت عينه كلُّ ذي مصلحة في المسألة أيضًا.

إذا تم هذا نكون قد دخلنا في معترك الواقع الاجتماعي حيث تعتلج المصالح، وتتباين الرؤى بحسب اختلاف الأحوال والأفعال. وفي اللحظة التي يأخذ «السبب» فيها حقه من الذيوع والشيوع و«الظهور» الاجتماعي، لا تبقى ثمة ثلمة يمكن أن ينفذَ منها مدعٍ -مسئولًا وصاحب سلطة، أو غير مسئول وصاحب وجاهة اجتماعية- ليدعي أنه وحده يمتلك المعرفة، أو يعرف ما لا يعرفه غيره، أو يحتكر معرفة اختصته الأقدار بها وحده.

ومعلوم أن تلك الدعاوى التي أومأنا إليها –كلها- هي مما
يمهد طريق الاستبداد والطغيان ووأد الحرية في مهادها الاجتماعي، وبالتالي يسهل
طرحها أرضًا في مستوياتها السياسية والثقافية والتعبيرية؛ وهذا ما تؤكده تجارب
الشعوب والأمم والجماعات على مر الزمن وفي مختلف المجتمعات.

إن طريق الاستبداد يبدأ عادة بحجب المعرفة، وإخفاء المعلومات، وتجهيل العلامات، وطمس قواعد النظام العام. ومن الأدلة الواقعية التي تتجلى في وقائع الحياة الاجتماعية: أن موظفي البيروقراطيات الحكومية في الدول الشمولية وفي الأنظمة الاستبدادية، يكرهون التعريف بحدود سلطاتهم واختصاصاتهم، ولا يُحبون إطلاع المواطنين وأصحاب المصالح على ما لديهم من تعليمات وإرشادات رسمية وملزمة، ولا على النصوص القانونية أو اللائحية الخاصة بكيفيات إنهاء معاملاتهم أو قضاء مصالحهم لدى جهات الإدارة؛ بل إنهم يتلذذون بإخفائها؛ لإن الإخفاء يشعرهم بلذة المعرفة التي يحجبونها، وبلذة التحكم في الغير، ويمتعهم برؤية مرارة الجهل الذي يتبدى على وجوه أصحاب تلك المصالح وهم وقوف في حضرتهم، أو وهم يترددون على مكاتبهم.

كأن هذا الإخفاء يُوسِّع سلطات أولئك الموظفين
البيروقراطيين تجاه المواطن ذي الحاجة أو طالب المصلحة، وهذا كله بخلاف ما هو
معروف ومشاهد لدى موظفي الحكومات الديمقراطية والأنظمة الحرة؛ حيث إنهم يبادرون بإظهار
كل أسباب تصرفاتهم، ويعلنون عن الإجراءات والقواعد المنظمة لأداء الخدمات التي
يختصون بها وتقع ضمن صلاحياتهم، ويضعونها مكتوبة في أماكن ظاهرة، ويصوغونها بأشكال
وعلامات وألوان ورسومات متنوعة لكي لا يتعذر على أحد فهمها أو معرفة المراد منها،
ولكي لا تكون ثمةَ ثلمة يمكن أن ينفذ منها «الموظف» ليمارس استبداده أو فساده، وحتى
لا ينفتح باب غير مشروع يشبع منه شهوته في التسلط على حساب المواطن صاحب المصلحة،
وهذه الإجراءات كلها تندرج بيسر وسهولة في «ثقافة السبب» بمعناه الأصولي؛ حيث لا
التزام بحكمٍ، أو بأمرٍ، دون وصفه وصفًا ظاهرًا ومنضبطًا ومناسبًا.

جانب آخر لصلة الحرية بمفهوم «السبب» باعتباره مسألة
أصولية ترد في سياق مبحث القياس من جهة، وباعتباره مسألة كلامية ترد في سياق مبحث
الإرادة الإلهية من جهة أخرى؛ هذا الجانب هو: أنه في كلا هذين السياقين (الأصولي
والكلامي) نجد أن للسبب علاقةً بالحرية لا تخطئها عين مفتوحة. وتتجلى تلك العلاقة
بوضوح في اختلاف نظر أهل السنة والجماعة، عن نظر المعتزلة لماهية السبب؛ من حيث
تأثيره في الحكم الشرعي ومرتبة الاحتجاج به.

فأهل السنة يرون أن السببَ مجرد علامةٍ نصبها الشارع لتعريف الأحكام الشرعية، دون أن يكون لهذه العلامة أي أثر في إنتاج الحكم؛ وأن الأحكام تناطُ بأسبابها؛ التي يمكن ملاحظتها في الواقع الاجتماعي المتغير، لا بعللها؛ التي قد لا يمكن إدراكها أو التوافق بشأنها. وهذا النظر مؤسس كلاميًا على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى يفعل ما يشاء، وكيف شاء، ولمناسبة ولغير مناسبة، وأنه جل في علاه لا يسألُ عما يفعل وهم يسألون، ولا يجب عليه شيء.

ومعنى هذا أن «الواحد» الذي لا يسأل عما يفعل هو الله
تعالى، وكل من هم دونه يُسألون؛ فلا يكون لأي منهم ادعاء العصمة، أو احتكار
الحقيقة، أو يزعم أن ما يقوله هو عين الصواب، وأن ما يقوله غيره عين الخطأ. وفي
مجتمع كهذا يكون إخراس صوت واحد هو الوجه الآخر لادعاء العصمة، وهو دليل الزعم
باحتكار الصواب، وكلاهما مرفوض أصوليًا لتناقضهما مع أصل معنى الحرية.

أمّا المعتزلة فيرون أن «السبب» مؤثرٌ في إنتاج الحكم، كتأثير الأسباب العقلية في مسبباتها. ولكن رأيهم هذا يناقض أصل اعتقادهم في حرية الإرادة. وعندهم أن حرية الإرادة تقتضي إفراد الله سبحانه بالمشيئة المطلقة؛ وهم -أي المعتزلة- ينطلقون في ذلك من عقيدتهم في «التقبيح والتحسين»، وفعل الصلاح والأصلح، وأنه يجب على الله أن يشرع ما يحقق مصلحة عباده؛ وإذا كان ذلك كذلك، فإن النتيجة هي: جواز الوجوب على الله تعالى، وجواز الوجوب عليه يضعه -جل شأنه- في مستوى من يجب عليه الوجوب من البشر، فلا يصبح للحرية -والحالة هذه- مستند مفارق للوجود، ويجوز لكل من هو تحت طائلة الوجوب أن تكون له العصمة، ومن هنا يجوز تعدد مراكز «الحقيقة» ومنها تنبت أغصان الاستبداد باسمها وتتعدد.

وهذا ما لا يوافق عليه أهل السنة والجماعة، ويفسر
اعتصامهم بأنه سبحانه «لا يسألُ عما يفعل وهم يسألون». ومن هذا الأصل الكلامي
تتجلى بعض جوانب الحرية من خلال مفهوم «السبب» بمعناه الأصولي. وحديثنا مستطرد عن
الحرية في الفقه وأصوله وفروع أصوله إن شاء الله.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.