يتابع مئات الآلاف من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي حلقات برامج اجتماعية كثيرة؛ من بينها واحد يجريه شاب ثلاثيني مع المارة في الشارع المصري. تأتي موضوعات حلقاته كسؤال أو أكثر يسألها لأناس لا تجمعه بهم غير صدفة وقدر.

«وزنك كام كيلو؟»، «نفسك تكون أول مصري يعمل إيه؟»، «إيه اسم الشهرة بتاعك؟»، «لو روحت مونديال روسيا هتعمل إيه؟»، «في المصيف إيه الأكلة اللي والدتك بتاخدها معاها ع البحر؟»، «إيه أغرب موقف حصلك؟»، «مسمي باباك ع التليفون إيه؟»، «تقولي إيه للكراش بتاعك؟»، «وجه رسالة للإكس بتاعتك؟».

ربما يصف البعض ما يقدمه الشاب من أسئلة وموضوعات نقاش واستفسار بـ «التافهة» التي لا تنفع أو تفيد، وربما يعتقده البعض الآخر كشافًا للمواهب وبريدًا للشهرة، وربما يتابعه آخرون بفضول كمادة للتسلية والفكاهة.

لكن المتابع المتأمل لما يقدمه الشاب – بعيدًا عن أهداف برنامجه أيًا كانت – يرى واقع الشارع المصري على خطورته وما آلت إليه أفكار الناس واهتماماتهم وبخاصة أجيال النشء والشباب؛ فعندما يكون سؤال عن الاهتمامات موجه إلى صبية لم يجاوز أكبرهم منتصف عقده الثاني، وتجد إجماعًا على إجابة نموذجية منهم هي البحث عن فتاة لمعاكستها أو تدخين سيجارة مع صديق مع إلمام عميق بأحدث المهرجانات وحفظ كلماته عن ظهر قلب؛ فإن الأمر غدا كارثيًا بامتياز؛ ليس في الانتشار الملحوظ لأمور لا أخلاقية في مجتمع شرقي فحسب، ولكن الكارثة الأكبر في جهر الأولاد بتلك الأمور بذاك التبجح وتلك الفجاجة.

لم يعد بعد لخلق الحياء مكان بين جمهرة من أبناء الجيل الصاعد؛ فكثير من الفتيات حتى غدون يتلفظن بجرأة بكلمات كنا نعدها من بضع سنوات «خادشة» لحياء الرجل! وبالطبع فإن ذلك المظهر القمئ ما هو إلا غيض من فيض الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه عموم المجتمع.



علام الشماتة والسعادة بانحطاط أخلاقي تزعمون أنه ترتب على غيابكم؛ إن كنتم بالفعل صادقين في شعاركم «نحمل الخير لمصر»؟!

يبرز البرنامج للمتأمل حالًا ثقافيًا أخلاقيًا متدنيًا غدت تحياه شريحة كبيرة من شرائح المجتمع المصري، كما يطرح على المتابعين والمهتمين بالشأن المجتمعي أسئلة شتى تتعلق بالأمر؛ فعلى من تقع مسئولية ذلك الانحطاط؟ ومن المنوط به توعية المجتمع وتربية نشئه المسكين؟ وكيف تكون التربية وسط معاناة اقتصادية يتكبدها الأهل، ووسط تفكك اجتماعي ملحوظ؟ من المنوط به كبح جماح قطار الانحطاط الذي انطلق بسرعة جنونية صوب الهاوية؟

يلقي البعض بالمسئولية على نظام الحكم وعلى الغياب الحكومي لأولوية الاهتمام بالتعليم؛ وربما يكون هؤلاء محقين، ولكن التربية والتعليم والثقافة لطالما كانت أمورًا مجتمعية تتحمل فيها الأسرة والمدرسة والهيئات التربوية والدعوية ومنظمات المجتمع المدني العبء الأكبر عن بيروقراطية الدولة ووزاراتها، أو بمعنى آخر فإن الدولة تتحمل ما يمكننا أن نسميه الجانب «الإداري» في عمليات التربية والثقافة، فيما يتحمل المجتمع بمختلف أطيافه الشق «الفني» لتلك العملية.

هنا يبرز سؤال آخر؛ وهل في لحظاتنا الراهنة، وفي ظل هذا السقف المتدني للحريات سيكون ثمة مجال يسمح فيه بأي أنشطة مجتمعية؟ سؤال وجيه ومعتبر؛ فالدولة التي حشدت كل طاقاتها ومؤسساتها لمواجهة «الإرهاب» لن تسمح بالأمر.

كثير من مؤيدي النظام القائم سيبررون حال تدني الحرية بعفوية؛ ففي أوقات الحروب وتهديدات الوجود لا تسل أبدًا عن أي أمور إصلاحية مجتمعية – كان ذلك أحد مضامين إعلام النظام في فترة قريبة – بينما معظم معارضي النظام سيواصلون لوم الأطراف الأخرى على ما آل إليه الوضع، كما سيواصلون إبراز الشماتة في شعب لم يشاركهم بكائياتهم و«كربلائياتهم» التي لا تزال تصدر خطاب المظلومية وملحمة الصمود، وبين الفريقين سيواصل النشء مسيرة السقوط في دوامة تيه الانحطاط.

بين هؤلاء وأولئك ستلمع حالات نجاح فردية ومؤسسية لأناس كابدوا عناء العمل في واقع مرير؛ ففي ظل استقطاب حاد مقيت بدت نماذج لمخلصين صنعوا آلاف الفرص التي يقدمون فيها ما يخدم «الإنسان» ويرفع شأنه ويعزز أخلاقياته ويقوم سلوكه وينأى به عن مستنقع الانحطاط.

سؤال تأسيسي توجب على المصلحين – أيا كانت أيديولوجياتهم – طرحه على أنفسهم وتداوله في منتدياتهم؛ أيهما يستحق أولوية البذل والجهد: المجتمع أم الدولة؟ سؤال أجاب عنه الدكتور نصر محمد عارف أستاذ العلوم السياسية في ورقته البحثية «في الأسس المعرفية للنظم السياسية الإسلامية» المنشورة ضمن كتاب «مأزق الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين»، والتي خلص فيها الكاتب إلى أن المجتمعات هي الأولى دائمًا بالإصلاح وأن للدولة أدوارًا محدودة، وأن أنظمة حكم تقوى وتضعف، وتذهب وتجيء فيما تبقى المجتمعات بثقافاتها وأخلاقها.



النظام المصري لن يقوم بإنهاء الصراع إلا بعد أن يفتت تمامًا غريمه السياسي «الإخوان» ويقضي تمامًا على أذرعه المسلحة.

اليوم وبعد أربع سنوات من صراع سياسي مقيت، أصبح ما وصل إليه حال أخلاق المجتمع واضحًا جليًا وموجبًا لحركة المخلصين من أبناء الوطن.

طال صراع اليوم بين النظام ومعارضيه أو قصر؛ فإنه يومًا ما إلى نهاية، وأحداث السياسة لا تعرف الثبات؛ فأعداء اليوم قد يكونون أصدقاء الغد، وتقارب النظام مع حركة لطالما وصفها بممارسة الإرهاب ودعمه خير شاهد ودليل على طبيعة الصراعات السياسية؛ فمتى وجدت المصالح ورجحت كفة مكاسب التقارب فإن الحال قطعًا سيتغير.

في رأيي أن النظام المصري لن يقوم بإنهاء الصراع – الذي يتمنى إنهاءه – إلا بعد أن يفتت تمامًا غريمه السياسي «الإخوان» ويقضي تمامًا على أذرعه المسلحة؛ ليهبط سقف طموح الجماعة ويستتب له الأمر أكثر، وسيستنفد في ذلك الأمر أربعة أعوام أخرى وربما أكثر؛ ليسمح بعدها للجماعة بتنفس الصعداء كمؤسسة دعوية إصلاحية متخصصة مقننة؛ في ضوء استحالة إفنائها، وأيضًا في إطار إرادة من تبقى من هيكلها التنظيمي ورغبتهم في ذلك التقارب ما فطنوا إلى اختلال موازين القوى وما أدركوا قواعد الممارسة السياسية.

لكن الأمر الذي يستحق من عموم الإخوان والمتأثرين بنهجهم وقفة فكرية جادة ومراجعة صادقة: إلى متى ستظل فكرة ممارسة أمور الدعوة والتربية والبر وغيرها من نشاطات المجتمع وسائل تُستخدم فقط كواجهات للاستقطاب والحضور السياسي بين الناس وحشدهم؟ لماذا تزداد النشاطات المجتمعية للجماعة قبيل مواسم الانتخابات بينما تنحسر بعدها؟ متى سيكون الغرض التنظيمي لأعمال المجتمع هو محض الرقي بالإنسان؟ لماذا لا يكون المجتمع وخدمته غاية بدلًا من كونها عندكم وسيلة؟

علام الشماتة والسعادة بانحطاط أخلاقي تزعمون أنه ترتب على غيابكم؛ إن كنتم بالفعل صادقين في شعاركم «نحمل الخير لمصر»؟! هل دعوة الإخوان تهدف للسيطرة على المجتمع والتمكن منه وإحكام الوصاية عليه أم أنها دعوة لتمكينه؟

إنها دعوة لمراجعة الأفكار التي تحجب عن الوطن الانتفاع بمقدرات أبنائه، كما أنها دعوة للدولة بمؤسساتها المعنية لتفيق لخطورة الأمر، وألا يغتر مسئول بمنصبه السياسي مهملًا أفقًا من الحرية يملك فتحه؛ ليتنفس من خلاله المجتمع.

لقد بات المجتمع المصري يكابد الحياة بين مطرقة الصراع السياسي وسندان الانحطاط الأخلاقي، وفي رحاهما حار المخلصون وتجرعوا العلقم، وقبل قرابة القرن قالها «غاندي»:

كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.