شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 65 بعد عام وخمسة أشهر من تولي عباس باشا الأول عرش مصر، وفي آخر يوم من شهر جمادى الأولى سنة 1267هـ/ الأول من أبريل/نيسان سنة 1851م، قام بإنشاء وقف للإنفاق من ريعه على ضريح أحد شيوخ الطرق الصوفية وعلى أفراد أسر ذلك الشيخ. وقد جاء في مستهل حجة هذا الوقف أنه قد أشهد على نفسه: «وكيل حضرة مولانا الوزير المعظم الحاج عباس باشا كافل الديار المصرية، هو حضرة إسماعيل بيك وكيل ديوان كتخدا، وهو الوكيل الشرعي عن حضرة حسن باشا كتخدا باشا، وهو الوكيل عن سعادة مولانا الوزير المشار إليه… أنه وقف جميع أطيان كفر ششتا بولاية الغربية وقدرها 10 أسهم، و21 قيراطاً و616 فداناً، وذلك من الأبعادية والبور الصالح والمعمور بما فيه مسموح المشايخ على ما يبين فيه». ثم سردت الحجة مصارف الوقف على شيخ الطريقة المذكورة وأسرته. ولد عباس باشا الأول في 2 رجب 1228هـ/ 1 يوليو/تموز 1813م، وتُوفي في 17 شوال 1270هـ/ 13 يوليو/تموز 1854م. اسمه الكامل: عباس بن طوسون بن محمد علي. هو أول حفيد من أحفاد محمد علي باشا يتولى حكم مصر بعد وفاة عمه إبراهيم باشا، وظل والياً على مصر في الفترة من أول محرم سنة 1266هـ/ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1848م إلى 17 شوال 1270هـ/ 13 يوليو/تموز 1854م. قيل عنه إنه «كان غريب الأطوار، كثير التطير، فيه ميلٌ إلى القسوة، سيئ الظن بالناس». ووصفته الوثائق الرسمية التي ترجع إلى عصره، ومنها حجة وقفه المشار إليها، أنه «الحاج عباس باشا، كافل الديار المصرية». أما المؤلفات والتراجم التي تناولت سيرته فلم تذكر شيئاً عن أوقافه الخيرية أو الأهلية، ولا عن دوافعه لوقفها، ولا عن مصائرها ومآلاتها التي آلت إليها بمرور الزمن. و«ملف التولية رقم 2422» بمحفوظات وزارة الأوقاف -وهو الملف الخاص بأوقاف عباس الأول- يكتظ بالوثائق التي هي المصدر الأصلي لكل ما يتصل بتلك الأوقاف من معلومات وبيانات وتصرفات. وتشمل هذه الوثائق: نصوص حجج الوقف، وقرارات النظر، وأحكام المحاكم بإجراء عمليات بدل وإبدال في أعيان وقف «الحاج عباس». وله حجة وقف -غير التي اعتمدنا عليها هنا- وهي مسجلة بتاريخ 4 محرم 1269هـ/ 17 أكتوبر/تشرين الأول 1852م (سجل 31/قديم). ولكن نصها مفقود، ومدون في خانة تسجيل بياناتها أنها «ناقصة». وتفيد البيانات الواردة في حجة تأسيس وقفيات «الحاج عباس» الصادرة من محكمة مصر الشرعية والمؤرخة في غاية جمادى الأولى 1267هـ أن علاقة عباس الأول كانت وثيقة بأحد مشايخ الطرق الصوفية المغمورين اسمه/ السيد «محمد أسعد البغدادي». وقد بحثتُ فلم أجد ترجمة لحياة هذا الشيخ، كما لم أجد أي معلومات عن طريقته الصوفية التي كان يقودها أو كان ينتمي إليها. ومن ثم لم أهتدِ إلى السبب الذي جعل الخديو عباس يتعلق به إلى الحد الذي جعله يقيم إحدى زوجات الشيخ «ناظرةً على الوقف»، وإلى الحد الذي جعله يخصص لمقامه وضريحه ولأسرته ريع هذا الوقف الذي تصل مساحته إلى 616 فداناً من الأراضي الزراعية؛ هي إجمالي زمام كفر ششتا، الذي صار «قرية» من قرى مركز زفتى، بمحافظة الغربية. وضريح هذا الشيخ كائن بتلك القرية إلى اليوم. نقرأ في حجة تأسيس وقف عباس باشا المشار إليها أنه: «أنشأ وقفه من تاريخه… على أن يصرف ريعه على ما يبين فيه: فما يُصرف على مقام وضريح سيدي السيد محمد أسعد البغدادلي بناحية كفر ششتا، في كل سنة من سنين الأهلة، في إقامة شعائر بضريح حضرة الأستاذ المشار إليه أعلاه؛ من فرش، وزيت وقود، وأجرة خدمة بالضريح، وفي عمل مَوْلِدَينِ شريفين (مُثَنَّىَ مولد، ويعني: إقامة احتفال في ذكرى مولد أحد الأولياء) للأستاذ المشار إليه، وفي قراءة كل ليلة جمعة من كل أسبوع ختمة شريفة، وفي أجرة قراء قرآن يقرؤون القرآن العظيم على ضريح الأستاذ، وفي تسبيل ماء عذب، ورمي خوص وريحان، وتفرقة خبز قرصة على الضريح المشار إليه، وفي عمل ست ختمات شريفة: إحداها، ليلة العاشر من شهر محرم، والثانية، ليلة مولده، صلى الله عليه وسلم، وهي ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، والثالثة، ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، وهي ليلة المعراج الشريف، والرابعة، ليلة النصف من شهر شعبان، والخامسة والسادسة، ليلتا العيدين الفطر والأضحى. ويختمون قراءتهم بأسماء الله الحسنى، وذكره الأسنى، والتهليل والتكبير، والصلاة على البشير النذير، ويهدون ثواب ذلك إلى حضرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وإخوانه النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والأربعة الأئمة المجتهدين ومقلديهم، ثم إلى روح الأستاذ المشار إليه أعلاه، وأموات المسلمين على العادة في ذلك. ويُصرف أيضاً في ثمن أطعمة وزيت وقود وبن قهوة وغير ذلك، بحسب ما يراه الناظر على ذلك ويؤديه إليه اجتهاده مبلغ 8200 قرش بحساب كل قرش من ذلك 40 نصف فضة». هذه الشروط التي خصصت ريع الوقف للصرف على الاحتفاء بذكرى مولد أحد أولياء الله الصالحين، وعلى قرَّاء القرآن، وتسبيل الماء، ورمي الخوص والريحان على المقابر، وعلى ختم القرآن، في أوقات معينة من أيام السنة الهجرية، وقراءة أسماء الله الحسنى والصلاة والسلام على رسول الله، وإهداء ثواب هذا كله لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه ولإخوانه النبيين، والصديقين والشهداء إلى آخر من ورد ذكرهم في حجة الوقف؛ هذا وما ماثله من الشروط نجده شائعاً في حجج أوقاف كبار رجال دولة محمد علي باشا وأعضاء أسرته وحاشيتهم، كما نجدها شائعة أيضاً في أوقاف بعض كبار الملاك وكثير من عامة المصريين خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة (التاسع عشر ومطالع القرن العشرين للميلاد). وهي شروط تصب في مجملها في تعزيز الجوانب المعنوية للتدين ومظاهره، أكثر ممن تصب في جوانب المعاملات المادية والروابط الاجتماعية التي ينشئها هذا التدين. ويظهر من نصوص حجة الوقف أن «كافل الديار المصرية الحاج عباس الأول» قد تكفل بأسرة الشيخ البغدادلي، وجعل لها القسم الأكبر من ريع هذا الوقف، إذ اشترط أن يُصرف أغلب ريع الوقف على كل من بنتِ السيد البغدادلي، وهي الشريفة حافظة، وزوجاته الثلاث، وأولاد أخيه السيد عبد الحميد، وأولاد أخيه السيد عبد الوهاب «بالسوية بينهم، ثم من بعد كل منهم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، ثم على أولاد أولاد أولادهم، وعلى ذريتهم ونسلهم وعقبهم طبقة بعد طبقة… فإذا انقرضوا، صُرف ريع الضريح المذكور في وجوه الخيرات، فإن تعذر، صُرف للفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا». وتأكيداً لضمان حصول أسرة الشيخ البغدادلي على استحقاقهم في الوقف وبخاصة النساء من تلك الأسرة، اشترط الحاج عباس كافل الديار المصرية أن تكون إحدى زوجات الشيخ «ناظرة على الوقف ما دامت عزباء، فإن تزوجت دون إذن حضرة مولانا عباس باشا، يكون لا حق لها في النظر على الوقف المذكور، ثم يكون من بعدها للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم من كل طبقة مستحقة، وعند أيلولته للضريح والخيرات يكون لمن يكون ناظراً على مسجد وضريح سيدي أحمد البدوي (طنطا)، ثم لمن يلي وظيفته. أما عندما يؤول الوقف للفقراء والمساكين، فيكون النظر لحاكم المسلمين الحنفي حين ذاك». ونلاحظ هنا أن عباس باشا قد اشترط أن تكون إحدى زوجات الشيخ ناظرة على الوقف بشرط «أن تظل عزباء»، ولكنه أتاح لها الزواج بشرط أن تستأذنه، فإن وافق على زواجها فإنها تستمر في النظارة وفي الحصول على استحقاقها من الوقف؛ أما إن تزوجت دون إذنه فإنها تفقد حقها في النظارة وحدها، ولا تفقد استحقاها. ومثل هذا الشرط أقل تشدداً من الناحية الاجتماعية إذا قارناه بشرط «حرمان الزوجة» من الاستحقاق في الوقف ومن النظارة عليه إن هي تزوجت بعد وفاة زوجها، وهو من الشروط التي تعبر عن إساءة استخدام الوقف لتحقيق أغراض شخصية لبعض الواقفين. وقد كان بعض الواقفين يضعون مثل هذا الشرط المتشدد في حجج أوقافهم في تلك الفترة وما تلاها من فترات، حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري تقريباً. وليست لدينا معلومات كافية عن مآلات التطبيق العملي لتلك الشروط التي اشترطها الحاج عباس في وقفيته. والمؤكد هو أن أعيان وقفيات عباس الأول قد جرى إلحاقها بديوان الأوقاف الخديوية (الملكية فيما بعد)، وكان هذا الديوان قد نشأ موازياً لديوان عموم الأوقاف المصرية في مطلع القرن الرابع عشر الهجري -أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. واستمر «ديوان الأوقاف الملكية» إلى أن ألغته ثورة 1952م، واستولت على جميع أعيان الأوقاف التي كان يديرها، بما في ذلك وقفيات عباس باشا الأول، ووقفيات غيره من حكام مصر من أسرة محمد علي باشا، وقامت بتوزيعها على صغار الفلاحين ضمن إجراءات الإصلاح الزراعي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ومما تضمنته وثائق «ملف التولية» الخاص بأوقاف عباس الأول السابق ذكره؛ أن هذه الأوقاف قد خضعت لكثير من عمليات «الإبدال» و«الاستبدال» (البيع والشراء)، وفي كل مرة كان المبرر للإبدال، أو الاستبدال هو أن فيه «الحظ والمصلحة» لجهة الوقف. ولكن ثمة بعض الشكوك التي حامت حول صحة هذا المبرر. ومن ذلك مثلاً: ما تضمنته حجة التبادل المحررة من محكمة الباب العالي بمصر لجهة وقف عباس باشا والي مصر بتاريخين ثانيهما 27 شوال 1310هـ، وكان موضوع التبادل عبارة عن قطعة أرض خراجية مساحتها 12 قيراطاً، بأخرى عشورية مساحتها 12 قيراطاً. والأرض المتروكة في هذا التبادل هي الأرض العشورية. والأرض العشورية هي التي أسلم أهلها عليها، وعليها ضريبة «العُشر»، أما الخراجية فهي التي فُتحت عنوة أو صلحاً وعليها ضريبة «الخراج»، وكانت تصل إلى ربع المحصول أو ثلثه، وهي نسبة كبيرة مقارنة بضريبة «العشر»، وقد يكشف هذا الفرق عن الغرض الحقيقي من عملية الإبدال والاستبدال المشار إليها. ونجد أيضاً، في وثائق ملف التولية المذكور، مثالاً آخر تحوم حوله الشكوك وهو قيام مصلحة المساحة المصرية بتسديد مبلغ 2488.072 جنيهاً لوزارة الأوقاف على ذمة وقف عباس باشا الأول «ليشتري له به ما فيه الحظ والمصلحة، وصارت الأطيان المبدلة ملكاً للحكومة ومساحتها 23 قيراطاً، و18 فداناً»؛ أي بواقع 130 جنيهاً فقط للفدان، وقد تم ذلك بموجب حكم محكمة مصر الشرعية في 28 رمضان 1357هـ/ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1938م. ومن وثائق أوقاف الحاج عباس الأول أيضاً: إعلام شرعي صادر من محكمة طنطا الشرعية يفيد «إقامة أحمد شفيق باشا مدير عموم الأوقاف المصرية ناظراً شرعياً بصفة مؤقتة عوضاً عن مصطفى باشا ماهر المدير السالف على وقف المغفور له عباسا باشا، الصادر من محكمة مصر الشرعية غاية جمادى الآخرة 1267هـ. وإعلام شرعي آخر صادر في سنة 1319هـ/1901م من محكمة الغربية الشرعية بتمكين السيد مرسي درويش، والست مريم (يغلب على الظن أنهما من أسرة الشيخ البغدادلي) في كامل وظيفة النظر والتحدث مؤقتاً على جميع الأطيان الموقوفة من قبل عباس باشا الأول». لم تزدهر أوقاف الحاج عباس باشا الأول، مثلما لم تزدهر أوقاف عمه الحاج إبراهيم باشا. وقد يكون السبب في عدم ازدهارها -مقارنة بأوقاف محمد علي باشا، أو الخديو إسماعيل مثلاً- هو أنها خضعت لكثير من عمليات البدل غير المنصفة، وأنها كانت في أغلبها أوقافاً أهلية محدودة الدور الاجتماعي، واهية الصلة بالمقاصد العامة للشريعة، وأن ما كان مخصصاً منها للخيرات كان مرتبطاً ببعض «مظاهر التدين وشكلياته الفردية»، ولم تكن في خدمة جوهر التدين أو المعاملات الجماعية، أو المصالح العامة. وقد سجلت الوثائق التاريخية للحاج عباس الأول أنه صاحب الفضل في إلغاء حظر الوقف الذي كان جده محمد علي باشا قد أصدره في سنة 1846م؛ إذ ما كاد عباس يجلس في دست الحكم في سنة 1849م حتى ألغى حظر الوقف، وأصدر إرادة مؤرخة في 25 رمضان 1256هـ/1849م ونصها هو: «كان قد صدرت إرادة مخصوصة من جانب الحكومة بمنع الأهالي من وقف أملاكهم، ولكن ظهر أن هذا الأمر جائر، وتعدٍ على حقوق الناس؛ لذلك أمرنا بصرف النظر عن اتباع حكم هذه الإرادة ليكون كل شخص حراً في وقف أملاكه حسب حكم الشرع الشريف المحمدي، ولا يتعرض له أحد ولا يمنعه». ثم ما لبث عباس حتى أصدر «إرادة» أخرى بتاريخ 11 رجب 1267هـ (1851م) نصت على إعادة «ديوان عموم الأوقاف» ليستأنف المحاولة التي قام بها محمد علي باشا قبل ذلك في الفترة من 1835م إلى 1838م. وبموجب تلك الإرادة قام «المجلس الخصوصي» بوضع لائحة لتنظيم عمل الديوان، اشتملت على عشرة بنود وخاتمة، كان محورها هو تأسيس الإشراف الحكومي على الأوقاف الخيرية، وتحويل هذا الإشراف إلى عمل منظم يتسم بالمركزية، وتتوافر له مقومات الدوام والاستمرار. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً الحب من منظور «علم النفس الإدراكي» هل السلطان ظل الله في الأرض؟ رحلة الدم: هكذا سالت دماء المسلمين ولم تجف بعد (2-2) سيمفونية المقصلة – الحلقة الرابعة شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram إبراهيم البيومي غانم Follow Author المقالة السابقة جوزيه ساراماجو: تحطيم الأساليب التقليدية للكتابة المقالة التالية دماء على أيدينا: عن الشر ومسئوليتنا عنه قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك سارّة — قصة قصيرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «التُّهمة» وفقه الحرية عند المذاهب الفقهية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الإدارة بالأهداف في وقفيات الأميرة فاطمة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أوقاف «الشرايبي» على رواق المغاربة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عن السبع العجاف.. وأميرتي! (شعر) 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك هل انتهى الإسلاميون؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عبد الوهاب المسيري: انتفاضة فلسطين كنموذج معرفي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك المسلمون في كيبيك: 3 سنوات على مجزرة مسجد كيبيك الكبير 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الضيف — قصة قصيرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك خالد حماية يكتب: إمامنا الطيب وأزهرنا الشريف 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.