أعتقد أن البيئة الزراعية القديمة والمستقرة على ضفاف الأنهار تفرض على المنتفعين بها من الفلاحين أن تكون الأرض جزءًا من التجربة الإنسانية اليومية للفلاح، والبيئة الزراعية المصرية من الأقدم في التاريخ إن لم تكن الأقدم، كانت تلك التجربة اليومية من التفاعل مع الأرض بالنسبة للفلاح المصري هي باكورة إنتاج حضارة استمرت آلاف السنين لكن فيما تلى حركة التحديث القصرى التي شملت المجتمع المصري مع بدايات دولة محمد على الحديثة والتي انتبهت على حد تقديري للريف بعد ذلك بما يقرب من قرن ونصف في الخمسينات والستينات فيما سمى تيمنا بحركة التصنيع الناصرية بـ «ميكنة الريف».

كانت تلك الميكنة –في نظري– تعبيرا سلطويا آخر عن الحداثة التي تتكفل بها الدولة بكل نواحيها، فبداية من تنظيم الزراعة وتوحيد المحاصيل والتوسع في إنشاء الجمعيات التعاونية الزراعية، وبناء التجمعات الحضرية على أطراف الريف.



تعبر الهجرة المتزايدة إلى المدينة بشكل صريح عن غياب التنمية على الريف. أو بشكل أدق غياب الحداثة عن الريف.

كانت كل الصور السابقة للتحديث تهمل بشكل كلي المكون الأساسي للبيئة الزراعية المصرية وهو الفلاح، فاستمرت نسبة الأمية مرتفعة في الريف. وفيما تلى من عقود السبعينات وحتى بدايات الألفية استمر نفس النمط التحديثي بإغفال أكبر للعنصر البشرى، ما استدعى حركات الهجرة المتزايدة من الريف للمدينة وخاصة للعاصمة التي شهدت في تلك الفترة نموا مطردا لحركه بناء –أطلق عليها من قبل الدولة– عشوائية، وهي تعبير صريح عن غياب التنمية على الريف. أو بشكل أدق غياب الحداثة عن الريف.

كان الحل المتمثل في التوسع في بناء المدن الصناعية التي يمكن أن تكون بديلا استيعابيا لحركه الهجرة من الريف نحو العاصمة وتوجيهها نحو الهجرة للمدن الصناعية وهو ما أتى ثماره في البداية خاصة في سنوات النصف الأول من عقد التسعينات. لكن ما لبث أن توقفت تلك الهجرات العمالية بشكل كبير نحو المدن الصناعية لأسباب عدة على رأسها حركات المضاربة في أسعار الأراضي والشقق السكنية التي ارتفعت بأسعار تلك المناطق السكنية بعيدا عن متناول الفلاح الذى أصبح عاملا بأجر ثابت، وأيضا معدلات التضخم التي جعلت تكلفة الحياه في تلك المدن قاصرة على أفراد الطبقة الوسطى الريفية من المهاجرين نحو المدينة وليس العمال. ويمكن أيضا أن يكون السبب هو عضوي في المجتمع الحضري الذي، رغم حداثته النسبية في المدن الصناعية، يرفض أن يكون مسكنا للفلاحين.

كل تلك الأسباب وغيرها دفعت الفلاحين الذى بدأت الأرض تضيق ذرعا بهم بفعل الزيادة السكانية الكبيرة التي يشهدها الريف حيث ارتفاع معدلات المواليد بضعفي الرقم في المدينة، دفع بالفلاحين مع انتهاء عقد التسعينات للبناء على الأراضي الزراعية.

كان عقد بداية الألفية الثالثة هو العقد الذهبي للبناء على الأراضي الزراعية، كان فعل البناء خارج سلطة الدولة يستدعى الكثير من الانتباه من الدولة نفسها، فليست المشكلة في البناء في نظري وإنما في تحدي سلطة وقوانين الدولة التي تحرم البناء على الأراضي الزراعية.

وهنا تجدر الإشارة لما يسمى بمفهوم الملكية الفردية والتي من المفترض أن الدولة تحميها، لكن من المعتاد أن تتدخل السلطة في مصر في أدق التفاصيل الفردية للأفراد وليس فقط حقهم في التملك وفعل ما يريدون فعلة في ملكيتهم الخاصة، ويتم في ذلك استدعاء لسرديات عمومية حول مصلحة الوطن، والأمن القومي المصري وغيرها.

في المقابل لم يجد الفلاحون مناصًا آخر سوى البناء. وهنا يتعلق الأمر بتخلي الفلاح عن الأرض، والتي تشكل شيئا راسخا وهاما في وعيه الاجتماعي بحياته. فعلى سبيل المثال الأسرة التي كانت 5 افراد، وكان يهاجر اثنان منها نحو القاهرة ويستقرون هناك، ويهاجر آخر للمجتمعات الحضرية الجديدة على أطراف الريف، أصبحت الآن بكاملها في الريف، حتى من يعملون منها في المدن لا يقدرون على تكلفة الحياه فيها.

ومع الوقت أصبحت الزراعة ليست مصدرا جيدا للدخل، أيضا عودة العاملون في دول الخليج جعل أمر التوسع البنائي على الأرض الزراعية حتميا، وهذا التوسع ليس رأسيا كما في المدن حيث يمكن أن تبنى 20 أو 30 دورا بها 100 شقة يسكنها 100 أسرة، لكن التوسع هنا أفقيا بمعنى أن لكل أسرة بيت واحد.

فكانت حركة البناء كما أسلفت حتمية، وفى تحدٍ صريح لسلطة الدولة، وهو ما استدعى إجراءات أشد قسوة من قبل الدولة للمنع. وتجدر هنا الاشارة لشيء هام في اعتقادي يمثل وجهة نظر الدولة في البناء على الأراضي الزراعية، وهى تجربة شخصية بالمناسبة، في المنوفية وفى مركز الباجور تحديدا، كان يمكن بسهولة أن تبنى قيراطا من الأرض وتأخذ تصريحا من الدولة بالبناء بمجرد أن تذهب لبيت أحد أعضاء مجلس الشعب أو للوسيط صاحب صلة القرابة بعضو مجلس الشعب والرجل الثاني في لجنة السياسات بالحزب الوطني وتدفع 50 أو 60 الف جنيه في مقابل الحصول على التصريح، وبالتأكيد لم يكن هذا العضو فقط هو صاحب الفكرة اللامعة، بل كان غيره كثيرون.



لم يكن سبب التوسع في بناء الأرض الزراعية هو غياب الرقابة الأمنية كما تروج الدولة؛ وإنما عودة العاملين في المصانع التي أغلقت إلى الريف.

تلى الثورة أيضا توسع في البناء على الأرض الزراعية، وليس السبب كما تروج الدولة هو غياب الرقابة الأمنية، بل بالعكس ازدادت الرقابة وكانت تصريحات الهدم للمخالفين أسرع بكثير من تصريحات البناء، لكن السبب ظل مركبا لا تدركه الدولة أو بالأحرى تحاول أن لا تدركه وهو أنه فيما تلى 2005 والتدهور الشديد الذى شهدته زراعة القطن الذى كان محصولا رئيسيا للحفاظ على الأرض الزراعية، وأيضا حركة البطالة التي تلت الثورة وإغلاق 1200 مصنع، كانت القوى العاملة الأساسية فيهم من الريفيين، هو ما جعل البناء أكثر توسعا لعودة هؤلاء وعدم جدوى الزراعة كحرفة تدر دخلا معقولا على الفلاح كما أسلفت.

من الخطأ أن يُحمَّل الضحية ذنب الجلاد، لكن من ناحية أخرى هناك إشكالية يتم الترويج لها من قبل الدولة على أن البناء على الأراضي يقلل حصة مصر من المحاصيل الزراعية ويدفعها للاستيراد والذى لا يمكن أن تتحمله إمكانيات الدولة في الوقت الحالي، لكن أيضا هناك أمور تتعلق بإنتاجية الفدان المنخفضة وتخلى الدولة شبه الكامل عن الفلاحين، وإسقاطها لديون رجال أعمال تتخطى المليارات وتصالحها مع من سرقوا وأفسدوا في ظل رفضها التخلي عن قروض لبنك التسليف الزراعي لا يتخطى الواحد منها 10000 جنية مصري. وأيضا إشكالية أخرى تتعلق بمدى جدوى ما سمى بميكنة الريف، هل نحن في حاجة فعلا لميكنة الريف؟! وكيف تتم تلك الميكنة؟!

وأعتقد أن المصطلح يشرح نفسه. فالميكنة تتم بإدخال أنماط جديدة للزراعة وتطورات تكنولوجية لزيادة إنتاجية الفدان، وليس ممارسة سلطة القمع والهدم على أشخاص يريدون سقفا لحمايتهم.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.