شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 57 شاب في العشرينيات، وسامته بارزة، لا ينفك يزيح خصلة من شعره الذهبي تتدلى فوق جبينه بين فينة وأخرى، لا أدري هل كانت تلك اللازمة عفوية تمامًا أم كان وراء ذلك شعور مفرط بتلك الجمة الحريرية وما تضفيه على صاحبها من جاذبية. على كل حال، صعد المنصة في تلك القاعة من كليتنا التي ارتادها كثير من الساسة والمثقفين إبان سنوات الثورة. بدأ يتحدث. ربما بدا في البداية عاديًا، لكن كلما مر الوقت تبدى أكثر فأكثر كفتى ملهم. تشعر أنه ينتمي إليك، يشعر تمامًا بما تشعر به ويعاني ما تعانيه، قبل أن يباغتك بحل جريء. «نعم، عليك أن تستقل عن أسرتك، عليك أن تبحث عن عمل حتى وإن كنت غير محتاج لذلك، سيجعلك ذلك قادرًا على خوض تجربة الحب التي تريد بشجاعة وجدية أكبر». يبدو ذلك كلامًا ممجوجًا اليوم، أو عندما يقال في عمل من أعمال هوليود، لكنه في ذلك الوقت وذلك المكان الذي قيل فيه، وبين هؤلاء الذين شكلوا الجمهور الذي يتوجه إليه هذا الكلام، كان ذلك اقتحامًا جريئًا لبيئة محافظة، وفوق محافظتها انطبع غلاف سميك من تدين صارم يكبت وراءه تلالًا من الأسئلة والهموم. كان ذلك أول لقاء بيني وبين أحمد أبو خليل الذي سيصبح لاحقًا صديقًا له مكانه الذي لا يمكن أن يملأه غيره. من البداية، يرفض أحمد تناول «كانزاية الكوكاكولا» التي قدمها إليه مضيفوه في الجامعة نظرًا لرمزياتها الثقافية الاستهلاكية التي يرفضها، تزعجه الألقاب والاحترام المفتعل، يتشبث بالعربية الفصحى في حديثه كأنه شيخ أزهري متقعر كالذي تظهره بعض الأفلام المصرية القديمة. كثير ممن لم يعرفوا أحمد سوى من بعيد كانوا يرونه في ذلك مسرحيًا يمثل دور البطل المثالي في رواية كلاسيكية تطفح بالفضيلة المظهرية. ربما كنت أنا نفسي واحدًا من هؤلاء إلى أن اقتربت منه. عندها تأكدت أنه حقًا ليس سوبرمان، لكننى عرفت أيضًا أن البطل ليس ضروريًا أن يكون سوبرمان. لا يبهرك أحمد عندما تقترب منه بثقافة هائلة، ولا يعوض ذلك بهالة العمامة الدينية كأصدقائنا من المشايخ، كما لا تسعفه الوسامة في تجمعات ذكورية كتجمعاتنا. مع ذلك، ثمة هالة من نوع آخر تحيطه. إنها هالة من الصدق. أحمد هو ذلك النوع من الناس الذي يرى أن إيمانه بفكرة ما يعني أن يبذل لها حياته. ربما كان هذا منبع ذلك الحس الرومانتيكي الذي لديه، فهو يرى الحب كما وصفه ابن الفارض: «لا خير في حب أبقى على المهج». من هنا، يثق أحمد بنفسه تمامًا، فلا يحاول أن يثبت لأحد أنه مميز، وهكذا وقاه الله شر المنافسة، فهو مستعد لأن يلقي إليك ما تريد. قال لي مرة، إن تلك الصور الجيدة التي له لم تلتقط أثناء ثباته للكاميرا كما يبدو منها، بل هي صور التقطت غالبًا لمجموعات وكان هو يقتص صورته منها. تلخص تلك القصة أحد التناقضات الزائفة التي يراها الآخرون في أحمد، فهو يبدو أمام الناس متمركزًا حول نفسه، بينما هو فحسب أشبه بنجم قادر أن يلمع وإنْ في سماء مرصعة بالنجوم. هل بالغت إلى حد ما في وصف ذلك الرجل؟ ربما، لكنني لا أعتقد ذلك، بل ربما أعتقد أن قلمي ليس سيالًا بما فيه الكفاية لوصفه. على كل حال لم أكتب هنا لأصفه، بل لأشكو غيابه. ليس أحمد أقرب أصدقائي إليّ؛ بل لقد كنت أشعر أحيانًا بجفاء شديد بيننا أثار حنقي تجاهه ساعات بحيث صرت أظن أنه لا مكان له لدي أو أن عملنا معًا قد أفسد ما بيننا سواه كما تفعل المصالح عادة بالبشر. هذا كلام لا يليق بهذا المقام، لكن ما أود أن أقوله على كل حال هو أنني اليوم أفتقده بشدة. اكتشفت في غيابه، كعادة الإنسان الذي لا يعرف الوجود إلا بالعدم، أن هناك كلامًا كثيرًا لا يمكن أن أقوله سوى إليه. إنني أعترف بأنه واحد من قلائل يمكنني أن أبوح إليهم بسر نفسي كمن يتعرى، وأنا امرؤ شديد الحذر من انكشاف ذاته أمام الآخرين، فيحيطها بغلالة من زرد (ما كان يلبسه الفارس قديمًا في الحرب، وهي سترة من حلقات حديدية تقيه الطعنات، ويمكنك إذا زرت متحفًا إسلاميًا أن ترى هذا الزرد لتعجب كيف كان يمكن لهؤلاء البشر أن يحملوا كل هذا فوق أجسادهم، ليس وهم جالسون، بل وهم في ساحة معركة!). يجيد أحمد الإصغاء، يمكنه التفهم. هذه الصفة الأخيرة تجمعنا، تختصر مسافة كبيرة بيننا أجدها في شرح أمور بسيطة لغيره. ذلك تناقض زائف جديد، فهو لشدة إيمانه بأفكاره يبدو غير قادر على قبول الآخرين، لكنه في الواقع، وربما لرهافته، يستطيع أن يشعر بانفعالات الآخرين. السجن يشبه المقبرة، لكن الموت ضروري للحياة. ربما كان هذا القسط من الراحة ضروريًا لكي يستعيد صديقي نفسه، ربما كانت إقالة مؤقتة للجسد، إيقاف عن العمل، فرصة ضرورية لحياة الروح. يمكن لصديقي اليوم أن يعود إلى معشوقته الثانية (الأولى بالطبع هي أسماء التي أعتقد أنها أهم ما يفتقده هناك)، الفصحى. فشيئان يحبهما صديقي، الفصحى وأسماء. ربما هناك يمكنه أن يضع البذور الأولى لمشاريع كبرى لم يجد وقتًا لها في الخارج، ربما يكون السجن خريطتنا للعثور على كنوز مدفونة في صدر أديب استثنائي كانت الحياة خارج السجن لتقضي عليه. هذه عزاءات نتعلق بها، لكنها كذلك أحلام قد تتحقق. رمضان آت، وأنا مشتاق إليك يا صديقي، كل شيء هاهنا مشتاق إليك، ولنا غدٌ، لا ريب في ذلك، سنلتقي ونعيد ترتيب العالم كما نراه ونرسمه حكايات وقصائد ومقالات وكتب، سنلتقي لنتحدث معًا، لنقول ما نود أن نقوله لبعضنا وللآخرين ولكل من نحب أن نقول لهم ما نقول. قد يعجبك أيضاً التضخم الاقتصادي: داء لم تنجُ منه الدول العظمى رواية «جاتسبي العظيم»: حول «وهم» الحلم الأمريكي هل نحن في عهد المملكة العربية السعودية؟ محمود عبد العزيز: الغول والساحر والجاسوس والمزاجانجي شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram محمود هدهود Follow Author المقالة السابقة طارق البشري: معالم إيمانية المقالة التالية يا لثارات الحسين: «المختار الثقفي» ظالمًا ومظلومًا قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك «الكتابة الجديدة» عند طارق البشري 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لماذا لا تترشح الأفلام المصرية لجائزة الأوسكار؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك تجربة المارشميلو: أو الفتى الذي قال لا 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لماذا فشل المشروع الجديد لنادي «هيرتا برلين» في البوندسليجا؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ماذا حدث للنظام الدولي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الخيال أهم من المعرفة: ماذا يريد الشعراء 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك دفاعًا عن القرآن وقراءاته وتفاسيره ولغته 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك دليل الكتابة (7-8): كيف تُكتب القصة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ماركس والماركسية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رحلة القراءة: كيف يمكنك الاستمتاع بالكتب؟ 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.