هل
سمعت يومًا عن الخَرَف؟

بالتأكيد سمعت، وقرأت، بل وربما عاصرت بنفسك حالات مرت بخَرَف الشيخوخة وهذيان التقدم في العمر، ولكن بالتأكيد لم تحىَ مثل هذا الشعور بنفسك حتى الآن.

حسنًا،
هذه الحالة يُقدِّمها لنا وبامتياز الفيلم المُرشح للأوسكار عن ست فئات مختلفة،

«الأب» The Father

، والمقتبس عن مسرحية من تأليف نفس المخرج
الفرنسي «فلوريان زيلر»، ومن بطولة «أنتوني هوبكنز»، و«أوليڤيا كولمان»، التي
استطاعت من خلال الأداء التلقائي والمُعبر، أن تُجاري عبقرية هوبكينز وحضوره
المؤثر.

يتناول الفيلم قصة «أنتوني»، الأب الذي يعاني من أمراض الشيخوخة، وابنته «آن» التي تتردد عليه من حين لآخر للاطمئنان عليه، والتي تحاول إقناعه بأن الممرضة الجديدة التي ستتولى رعايته ليست بسارقة، إذ يُصمِّم على أن كل واحدة منهن تقوم بسرقة ساعته المفضلة. تتوالى الأحداث بإيقاع متوازن، قد يغلب عليه البطء في بعض الأحيان، إلا أن عناصر العمل ستُقدِّم لك ما يحظى باهتمامك الشديد طوال الفيلم.

تتسم الأحداث بضبابية، ويغلب عليها الطابع الدرامي، مع القليل من اللحظات الكوميدية التي برع فيها هوبكينز إلى أقصى درجة، ثم تتطور حتى نتمكن- على الرغم من حالة التشويش التي نعيشها كمشاهدين- من تكوين صورة تشبه في اهتزازها، وكآبتها، حالة الضياع التي يحياها الأب «أنتوني» كل يوم.

الفلسفة وخَرَف الشيخوخة

تقول
الفيلسوفة والمُنظِّرة السياسية الألمانية «حنا أرندت»:

تتمثل الشيخوخة في أن نرى تقلص بُعد المستقبل فينا، قبل فقدانه النهائي.

الشيخوخة لا تمثل فقط حالة ضعف ووهن الجسد، بل هي حالة ضعف ووهن العقل البشري في مقابل الزمن. فكثيرًا ما يتملكني الإعجاب والانبهار عندما أرى عجوزًا طاعنًا في السن، ولكنه وعلى الرغم من ضعفه جسديًا، ما زال يحاور ويجادل، ويحرص على عدم تفويت فيلم جديد دون مشاهدته، ويستمر في إلقاء الدعابات، وسبّ أنظمة الحكم التي تجعل الحياة أصعب، وتشوه ما كان على أيامه أجمل وأسهل.

عجوز يسترجع ذكريات مغامرات شبابه، والمدن التي زارها، وتفاصيل حبه الأول، وأول تظاهرة شارك فيها، وأول دورة رمضانية فاز بها في حيه المتواضع، وكيف كانت لحفلات الموسيقى الأسبوعية قُدسية خاصة. هذا العجوز الذي أقف أمامه مذهولة، متمنية أن أصبح مثله، نابضة بالحياة والذكريات، عندما أكون في مثل عمره، يُشكِّل انعكاسًا لفرضية صمود العقل، في مقابل الزمن، أو على أقل تقدير، حتى إشعار آخر.

يعتقد

الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط»

أن وجوده وحياته مرتبطان بتفكيره وبعقله وقدرته على النظر إلى الأمور وتحليلها والتفكير فيها، بما يعكس تأثيرها عليه، ومن ثَمَّ تتولد القدرة على صياغة وجهات النظر، والتعبير عنها لفظيًا، بما يُكمِل دائرة الوجود التي تبدأ بكينونته المادية، وتتغذى على قدرته العقلية.

كما
ظهرت العديد من الأطروحات التي تربط ما بين الذاكرة والهوية، وتتعامل مع ذاكرة
الإنسان الفردية على أنها سلسلة متواصلة من الأحداث والتجارب المُصنَّفة زمنيًا،
والتي تُشكِّل تصورات المرء وأفكاره ومعتقداته، بل ونظرته لنفسه وإدراكه لماهيته.

اتفق مع هذه الأطروحة مفكرون وفلاسفة مثل: «جان لوك». ففي القرن الميلادي السابع عشر، جاء الفيلسوف الفرنسي بأفكاره التي تربط ما بين الذات الفردية، والتجارب والخبرات، مُؤكدًا فرضية تَكوُّن النفس، وتَشكُّل الذات والهوية، من خلال التجارب والخبرات الواقعية التي نعيشها.

هذا الأمر يرتبط معي بشكل شخصي، بتجربة السماع للموسيقى؛ فالموسيقى تجربة شعورية واقعية. تستمع إلى مقطوعة ما، تلمس شيئًا في داخلك، ثم تصبح مع مرور الوقت، جزءًا صغيرًا منك، وتصبح أنت، بشكلٍ ما، انعكاسًا لها.

فإذا فقدت ذكرى هذه المقطوعة الموسيقية، ستفقد بالتالي جزءًا من ذاتك، وإن كان صغيرًا، وهو ما يظهر في استخدام الموسيقى الأوبرالية في مشاهد مختلفة من فيلم The Father بالتوازي مع استقرار حالة «أنتوني» واتزانه بشكل أو بآخر، فهي كالوميض الذي يُذكِّره بجزء من حقيقته: التجربة الشعورية للموسيقى التي يحبها.

مطاردة الزمن أم الهروب منه؟

تمثل حالة الخرف كسرًا لسلسلة التجارب والخبرات هذه، حلقات تُفقد منها وتترك فراغًا يُولِّد خللًا، أشبه بممارسة لعبة الغميضة، فتظهر بعض الذكريات ثم تعود لتختفي مرة أخرى، وهو ما حدث مع «أنتوني»، الأمر الذي ترمز إليه ساعة اليد الخاصة به، فعندما يتمكن «أنتوني» من إيجاد ساعته، أو ارتدائها في يده، يتمكن بشكل أو بآخر من استرجاع بعض من الحقيقة التي فقدها.

والعكس
بالعكس، عندما يفقد ساعة يده، وينشغل بالبحث عنها، تتداخل كل الحقائق والذكريات في
رأسه، وكأن الساعة هي البوصلة، الزمن الذي نملكه تارة، ويفر منا تارة أخرى.

إن القضايا والهموم الإنسانية التي يشترك فيها كل البشر، على اختلافهم، هي أكثر القضايا تأثيرًا على النفس، ويمثل خَرَف الشيخوخة قضية إنسانية وأخلاقية مهمة، فعندما ترى نفسك وقد بلغت من العمر ما بلغت، لا تدري ماذا تفعل، ومنْ أنت، وكيف أصبح كل ما حولك على حاله، وكيف أصبحت أنت على حالك؛ حينها تتلاشى الذكريات، حينها فقط تختلط الحقائق والذكرى بأوهام وخيالات مُشوَّشة، تحاول أن تلاحقها كما فعل من قبل بطلنا «أنتوني»، متشبثًا بساعتين: ساعة يده، وساعة عقله، ليستمر في مطاردة الزمن مُدعيًا تمكنه منه، أو ليستمر في الهروب من الزمن مُعلنًا تجاوزه له، أيهما أكثر منطقية.

نجح المخرج الفرنسي «فلوريان زيلر» في بناء فيلم سينمائي ينقل معاناة كثيرين، فالتجربة السينمائية هنا لا تتعلق فقط بمدى الإتقان في بناء الشخصيات، أو تطور الأحداث، بل بالحالة الإنسانية التي يُقدِّمها الفيلم للمشاهد؛ ليندمج معها اندماجًا قد لا يستطيع التخلص من تبعاته حتى بعد انتهائه من الفيلم، ليعكس الفيلم حالة فريدة تأسر المشاهد، وتنتقل به إلى تجربة شعورية حزينة ومُخيفة، تثير بداخله تساؤلاً تسبقه الإجابة:

لا… لا أتمنى ذلك.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.