بغض النظر عن أصول الصورة المنتشرة على فيسبوك بعنوان «اللحظات الأولى في السماء»، والتي أرجعها البعض لعمل فني من إنتاج طائفة «شهود يهوه» المسيحية، وهي جماعة نشأت في أوائل سبعينات القرن التاسع عشر بالولايات المتحدة، ولا تعترف بالطوائف المسيحية الأخرى، وتؤمن بفردوس أرضي بعد البعث، حيث سيرثون الأرض ويتمتعون بالعيش إلى الأبد، إلا أن الصورة تمس القلب بصدق عند مطالعتها لأول مرة، وتشعرك بنوع عجيب من الحنين والسعادة الهادئة تجتاحك وأنت تنظر في تفاصيلها.

بغض النظر أيضًا عن محاولات المحافظين والمتدينين من التحذير من أصول الصورة، وأنها تعارض بشدة التصور الإسلامي للبعث والجنة، فأنا أحاول هنا وبشكل إنساني بحت، أن أستكشف أسباب جاذبية الصورة، ومدى التعاطف الواسع الذي حازته، وإلا لما كانت انتشرت بهذا الشكل الواسع، وتحولت إلى أيقونة في أوساط الأجيال الشابة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي ألخصها في 7 أسباب:

1. تذكرنا الصورة بشكل تلقائي بأحبابنا الذين فقدناهم، أو الذين نشتاق إليهم بشدة، فجأة تذكر كل منا جدًا أو جدة أو أبًا أو أمًا أو أخًا أو أختًا أو صديقًا أو صديقة أو ابنًا أو ابنة، رحلوا عنا منذ سنوات طويلة، وتمثلوا في تلك اللوحة بشكل أو بآخر، وخصوصًا أنها جمعت أشخاصًا من جميع الأعمار، كبارًا وصغارًا، سيدات – بغطاء رأس وبدونه – ورجالاً، أولادًا وبنات، شقرًا وذوي شعر أسود، بيض وذوي ملامح خمرية وأفريقية.

الصورة خاصمت الشكل الغربي العنصري، وأنتجت تجمعًا إنسانيًا تشعر أنك تنتمي إليه بشكل من الأشكال. صديقة عزيزة كتبت تعليقًا على الصورة: «الموضوع بسيط، إن كل حد عاطفي أكتر منه عقلاني، أو بيتفلسف ويفكر وينظر.. عنده إنسان غالي عليه للحظة تخيل إنه هياخده في حضنه تاني في مكان ما أجمل من الدنيا.. أنا من الناس اللي الصورة بكتني ليلة لأنها خلتني عاوزة أشوف بابا تاني».

2. تشعرك الصورة أنك انتقلت لمراحل الطفولة، وأنك تطالع صورة من ألبومات صور العائلة القديمة، دقق جيدًا في نمط الملابس الذي يرتديه الأشخاص في الصورة؛ إنها صور للملابس التي كانت سائدة في الثمانينات وأوائل التسعينات، نفس الملابس التي كنا نطالعها أثناء طفولتنا، والتي كان يرتديها أهلونا – الكبار في الصورة – ونرتديها نحن – الصغار في الصورة -، لذلك فالـ«نوستالجيا» محرك واضح هنا للتعاطف والحنين مع الجو العام للصورة.

3. بساطة المشهد تستدعي حالة زهد صوفي مفتقدة بشدة في عالم اليوم المادي الرأسمالي والتنافسي الشرس، مرة أخرى أحيلك لتأمل الملابس البسيطة الزاهية والمحافظة، والحلي القليلة التي كانت لا تفرق بين غني وفقير، في عصر لم تكن «البراندات» قد سيطرت بعد، لن تجد «الجينز» مطلقًا في الصورة، ولن تجد – مرة أخرى – السيطرة الغربية على ذائقة الملابس، والحياة قد أحكمت قبضتها الدعائية والاستهلاكية على تفاصيل الصورة.

العمل في حد ذاته يبدو مقاومًا للرأسمالية والعولمة، وهي المقاومة التي تسكن العقل اللاواعي داخلنا، ووجدت متنفسًا في هذا العمل، وبالتالي فالتعاطف معه – لا شعوريًا – على هذا الأساس وارد جدًا.

4. حالة التلاحم بين أفراد الصورة، العناقات الحميمة المملتئة شوقًا وسعادة، التي صورها الفنان بعبقرية منقطعة النظير، والترابط الأسري بين أفراد الأسر الصغيرة، تجدك وكأنك تشعر «أريد مثل هذه العلاقات الدافئة!» في عالم تقطعت فيه الصلات الحقيقية بين البشر والأسر والأصدقاء، بين انشغالاتهم وبين الحياة القاسية التي لا ترحم جريًا وراء لقمة العيش. تشعر بنوع من الحسد تجاه هؤلاء الموجودين في الصورة، وتتمنى أن تعود علاقاتك الإنسانية لسابق عهدها.

5. يسود جو من الحلم أجواء الصورة، تعرف أن هناك شيئًا غير منطقي بالطبع، كيف لشواهد القبور أن تصاحب هذه الحالة من البهجة؟ كيف يبعث الناس في أعمارهم الحقيقية؟ ألا يبعثون على عمر واحد حسب المرويات الدينية؟ حالة الحلم هذه تجعلك في حالة تساؤل وعدم تصديق للمروية الجديدة التي يطرحها الفنان، تصيبك هذه الحالة بالدهشة بالطبع، لكنك في نفس الوقت لا تستطيع أن تقاوم حنينك لإمكانية غير واقعية، لأن ترى أحبتك الراحلين ولو للحظات، أن تراهم ولو في حلم شبيه وأنت نائم، اللوحة تشجعك على الحلم في حد ذاته، وهي أداة إنسانية عظيمة شديدة الرهافة والجمال، وبها قدر عظيم من الرحمة، الشعور التراحمي هذا الذي يربت على القلوب مفتقد بشدة، وتقدمه اللوحة بسخاء.

صديق عزيز آخر علق على الصورة قائلًا: «ومن قال إنها تعارض التصور الإسلامي؟ لا يوجد أحد متأكد مما سنراه في الجنة أو حتى ما بعد الموت. يمكن أن تكون الجنة ما نتخيله في عقولنا. حينما نحلم خلال النوم تكون تفاصيل كثيرة في أحلامنا ينطبق عليها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. نحن لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف. أنا أتمنى أن أكون شخصية من شخصيات الصورة وأعيش هذة اللقطة».

6. بتطبيق «قاعدة الأثلاث – Rule of Thirds» الشهيرة في عالم التصوير، نجد أن السيدة ذات الشعر الأسود التي تحتضن طفلة في رداء فاتح اللون، تقع تمامًا في منتصف النسخة الكاملة – الثلث الأوسط أفقيًا ورأسيًا -، وهي أول ما يقع بصرك عليه عند مطالعة الصورة لأول مرة، السيدة ذات ملامح شرقية تمامًا، وتكاد تجزم أنها سيدة مصرية، وتشعر أنك تعرفها بشكل ما، قريبتك، معلمتك، جارتك، صديقة لعائلتك. هذا النوع من التخصيص «Personalization» يشعرك أن الصورة تخاطبك أنت، وتخاطب جزءًا من ذكرياتك وتاريخك بشكل شخصي.

7. منظور الصورة الصاعد – لاحظ درجات السلم وتعدد المستويات الأفقية في الصورة -، وتدرج الألوان الذي يبدأ شديد الوضوح في العناصر والشخوص الموجودين في صدر الصورة، ويبدأ في استخدام الألوان والتفاصيل الباهتة كلما ابتعدت في عمق الصورة، يأخذك بشكل تلقائي لصورة أبعد، تحاول أنت تكوينها في ذهنك، وتستكمل عناصرها بشخوص وتفاصيل من خيالك الشخصي، بشكل ما ستجد نفسك تستكمل باقي الصورة، لتتجاوز ما تراه نحو صورة أكبر وأعم وأشمل. هذه التقنية الديناميكية تخلق براحًا مريحًا يخرجك لبرهة من ضيق وضغط الحياة، ولذلك تجد نفسك تطيل النظر إليها دون إرادتك، وكأنك تود الاستزادة من هذا الشعور اللطيف المريح.