شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 57 «مصطفى صادق عبد الرزاق الرافعي»؛ هو أديب مصريُّ من أصول شامية قَدِمَتْ عائلته قديماً إلى مصر واشتغلوا في القضاء. وُلد عام 1880م في قرية بهتيم من قرى محافظة القليوبية في مصر لأبوين سوريَّين، وتولّى والده رئاسة المحاكم الشرعية بمصر. إنه الرجل الذي امتلك ناصية البيان، فأخرج بها أدباً رفيعاً خلَّد فيه تراث الإنسان العربي، وأحسبه رسول البيان في تاريخ اللِّسان البشري، ومعجزته تكمن في تركيب الجملة العربية البيانية، داخل النص الأدبي. نحن نلمس في أدب الرافعي نزعة نقدية اتّسم بها أسلوبه، وتلك النزعة يتوصل إليها بالتفكير وإعادة النظر في نصوصه، وأيُّ باحث يُجري بحثاً في أعماله الأدبية؛ فإنه سيجد تلك النزعة النقدية؛ مُتناثرة بين كُتبه ومقالاته. بَيْدَ أن النزعة النقدية للرافعي تطوّرت على مرحلتين فكانت الأولى: أيام شبابه حين كتب ديوان «نسيم السَّحَر» وقدّم له، وفي تلك المقدمة البليغة وضع التصّور المبدئي حول فلسفة الشّعر بشكل عام ومراتب الشعراء ومذاهبهم، بينما نزعته وقتئذ لم تنضج بعد؛ نظراً لصغر سّنه. والمرحلة الثانية: هي التي اكتملت فيها فلسفة الرافعي، وأصبح نقده متيناً قوياً متماسكاً وقائماً على فلسفة عميقة؛ ويتضح ذلك في مقاله المعنون بـ «نقد الشّعر وفلسفته»، ومقالاته النقدية عن كبار شعراء مصر: كـ حافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وأحمد شوقي، وهذه المقالات بمثابة المصدر الفكري، لمذهبه النقدي الفلسفي في الأدب؛ وتلك المقالات نجدها في الجزء الثالث من وحي القلم. اتّبع الرافعي في معاركه الأدبية أسلوباً متعدداً جمع بين: الناقد المحلل، والناقد المتهكم على خصومه، لذا نجده في كتابه «على السَّفُّود» اختار أسلوب النقد التهكمي لينقد به شعر العقاد وأدبه وفلسفته: كتبنا مقالات «على السَّفُّود» لهواً بالعقاد وأمثاله. وفي معركته مع طه حسين رأيناه يستخدم النقد التاريخي والفلسفة الأدبية، من أجل مناقشة أفكار طه حسين الحداثية؛ كما انتقد الجامعة المصرية، وقام بالسخرية من طه حسين بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي»، وهو بداية خلافهم؛ وتلك المعركة جمعها الرافعي في كتاب وأسماه «تحت راية القرآن»، والكتاب يُناقش الفكر الحداثي والداعين إلى التجديد والحداثة والعولمة. أمّا في حلقات مقالات «وحي الأربعين»؛ فإنه قد أخرج ثلاثيّته الرائعة في الأدب التي انتقد فيها ديوان «وحي الأربعين» -للكاتب عبّاس محمود العقاد- نقداً اتضحت فيه عبقرية الرافعي وقُوّته في البلاغة والأدب، وسنعرض أولاً نزعته النقدية في الشعر، ثم نقتبس بعد ذلك بعضاً من آراءه الشعرية والنقدية المتعلقة بأدب أحمد شوقي، ونختم بمعركة القديم والجديد. من هنا تبدأ فلسفة الرافعي الشاعر في رأينا هو ذاك الذي يرى الطبيعة كلها بعينين لهما عشق خاص وفيهما غزل على حدة. يؤكد الرافعي بأن الشاعر الحق هو الذي يعشق الطبيعة عشقاً خاصاً يكون معه غزل رقيق؛ فالطبيعة بدون غزل لا تكتمل صورتها داخل النفس، إلا بعد أن يُقدّم لها الشاعر أسباب حُبه وعشقه: فإذا كان الشاعر العظيم أعمى انبعث البصر الشعري من وراء كل حاسة فيه، وأبصر من خواطره المنبثة في كل معنىً؛ وقصر عن المبصرين في معانٍ وأربى عليهم بمعانٍ أخرى. — «نقد الشعر وفلسفته، وحي القلم ج 3». ينتقل الرافعي إلى ماهية الشعر وارتباطه بالوجود: والشعر في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها. يقف الرافعي عند قريحة الشاعر ليبدأ بدراستها وتحليل أسرار الإلهام في روح تركيبة الشاعر، حتى يعرف كيف ينظر الشاعر بخياله إلى معاني الأشياء ويخلق الإبداع الشعري في نظمه، ويعلل الرافعي ويتساءل: ولهذا تمتاز قريحة الشاعر بقدرتها على خلق الألوان النفسية التي تصبغ كل شيء وتُلوِّنُه لإظهار حقائقه حتى يجري مجراه في النفس. — نقد الشعر وفلسفته، مجلة أبولو، العدد التاسع المجلد الأول، أبريل 1933. فهم الرافعي علاقة الشعر بالطبيعة؛ لذا يجعل من الشعر جسراً للجمال تعبر من خلاله الطبيعة، لتخلق ثورة الجمال في النفس، ولكي تُولد الحقيقة منهما، مُغلَّفة بباقة ورد، كـ سحر البيان و «بالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلم النفس للحقيقة وتأتي الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها أي في البيان». الرافعي يتأمل الآن في ماهية الشاعر، بعد أن سافر هناك داخل نفس الشاعر، ثم نراه ابتكر نسقاً فكرياً خاصاً به ليكشف من خلاله السمات الفلسفية لآلية التفكير الشعري لدى الشاعر، فيقول: والشاعر الحقيقي تراه يضع نفسه في مكان ما، ثم يفكر بعقله على أنه عقل هذا الشيء، مضافاً إليه الإنسانية العالية، وبهذا تنطوي نفسه على الوجود، فتخرج الأشياء في خِلقة جميلة بمعانيها. — نقد الشعر وفلسفته، مجلة أبولو عام 1933. يعتقد الرافعي بأن جميع الشعراء متساوون في الأفكار؛ لأن الأفكار موجودة في رأس كل شاعر وفي قلبه ولسانه، ينطق بها وقت ما شاء؛ بيد أن فنية الشاعر تكمن في خصائص الأفكار الجميلة المؤثرة، بالإضافة إلى الخيال وقوته مع المحافظة على حقيقة الأشياء. كل هذا عند الرافعي هو الذي يسمى بالشاعرية: فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها، ويتواطأ فيه قلب كل إنسان ولسانه، بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها، وكأن الخيال الشعري نِحلة من النحل تلك بالأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، وهذه القوة وحدها هي الشاعرية. — نقد الشعر وفلسفته، وحي القلم ج3. أمّا الشاعر العظيم، فإنه لا يرسل الفكرة ليوجد معها العلم في نفس القارئ فحسب؛ بل هو صانع الفكرة وهو المتصرف فيها والمتحكم عليها، ليوجد بها العلم والذوق معا والعبقرية الأدبية لا تكون في تقرير الأفكار بل إرسالها بشكل صحيح. — نقد الشعر وفلسفته، أبولو. وينتهي الرافعي في نظريته إلى حقيقة الشاعر؛ بعد أن وضع الشعر في السياق الذي أراده، ينتقل منه إلى النقد ليضعه في السياق نفسه: إذا قررنا للشعر هذا المعنى، وعرفنا أنه فن النفس حين تتناول الوجود من فوق وجوده في لطف روحاني ظاهر في المعنى واللغة والأداء، وجب أن نعتبر نقد الشعر باعتبار مما قررناه… فإن النقد الأدبي في أيامنا هذه وخاصة نقد الشعر أصبح أكثره مما لا قيمة له وساء التصرف به ووقع الخلط فيه وتناوله أكثر أهله بعلم ناقص وطبع ضعيف وذوق فاسد وطمع فيه من لا يحصل مذهبا صحيحاً ولا يتجه لرأي صحيح. — نقد الشعر وفلسفته، وحي القلم ج3. يؤكد الرافعي في نظريته بأن سعة المطالعة يكون منها ملكة النقد، لذا يجب على الناقد أن ينطلق منها ليكون مُخولاً للنقد؛ كما عليه الإحاطة بتاريخ الأدب، وذلك يفرض عليه أن يمتلك ذوقاً فنياً مصقولاً، وأسلوباً خاصاً به يميزه عن غيره. والذوق الفني لا يتحقق إلا بعد الإبداع في صناعتي: الشعر والنثر، بعد ذلك تأتي «الموهبة الغريبة التي تلفُّ بين العلم والفكر والمخيّلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصاً من هؤلاء جميعاً هو الذي نسميه الناقد الأدبي». يزداد تعمق الرافعي في فلسفته عن النقد بغرض تفكيك ماهية النقد ونراه توسّع في التحليل حتى انتهى به البحث إلى هذا الرأي الأخير الذي أوضح فيه ماهية النقد: لا يراد من النقد أن يكون الشاعر وشعره مادة إنشاء، بل مادة حساب مقدر بحقائق معينة لا بد منها؛ فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشعر وقواعده الأربعة التي تقابل الجمع والطرح، والضرب، والقسمة: هي الاطلاع والذوق والخيال والقريحة الملهمة والنقد إنما هو إعطاء الكلام لساناً يتكلم به عن نفسه كلام متهم في محكمة. — نقد الشعر وفلسفته، وحي القلم ج3. ينتقل الرافعي من صفات الناقد وماهية النقد، إلى تعريف الحاسة التي يتم بها النقد والتأكيد على أن الحاسة هي التي يتواجد معها النقد وبدونها يكون النقد مستحيلاً أو وإن لم توجد الحاسة فإنه ناقص: وليس الأنف هو الذي ينقد الوردة العطرة الفياحة وإنما تنقدها الحاسة التي في الأنف، وناقد الشعر إن لم يكن شاعراً فهو أنف صحيح التركيب ولكن بالجلد والعظم، دون تلك الحاسة. — نقد الشعر وفلسفته، وحي القلم ج3. ونفهم من تحليلات الرافعي وفلسفته حقيقة وجود نزعته النقدية، بعد أن قمنا بعرض أركان مذهبه النقدي الذي استنتجنا منه نزعته النقدية في الأدب وهي: وطريقتنا نحن في نقد الشعر تقوم على ركنين: البحث في موهبة الشاعر، وهذا يتناول نفسه وإلهامه وحوادثه، والبحث في فنه البياني، وهو يتناول ألفاظه وسبكه وطريقته. — نقد الشعر وفلسفته، وحي القلم ج3. الرافعي ينتقد أحمد شوقي نتناول الآن مذهب الرافعي النقدي الذي ينتقد به الشعر، متقيداً بالموضوعية من جهة، وبالبحث من جهة ثانية، فقبل أن ينتقد أدب أحمد شوقي وشعره، قام بتحليل شخصيته: هذا هو الرجل الذي يُخيّل إليّ أن مصر اختارته دون أهلها جميعاً لتضع فيه روحها المتكلم فأوجبت له ما لم توجب لغيره… شوقي: هذا هو الاسم الذي كان في الأدب كالشمس من المشرق متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع، ومتى ذُكر في بلد اتسع معنى اسمه فدل على مصر كلها كأنما قيل النِّيل. — وحي القلم ج3 شوقي. بعد الثناء على شوقي وأدبه، نفهم من سياق حديث الرافعي بأن العبارات الآتية ستكون في نقد أدب شوقي، بعد الإشارة إلى خصائص شخصية شوقي ومميزاتها يكون الطريق مُمهداً ليبدأ الرافعي بالنقد. خَـدَعوهـا بـقـولـهم حَــسْـنــاءُ *** والغَواني يَغُـرٌهُــنَّ الــثَّــنـاءُ أَتـراهــا تـنـاسـت اســمي لمـا *** كثرت في غـرامـها الاسْمــــاءُ إن رَأْتْنِي تميـلُ عـنـي، كـــأن لم *** تك بـيــني وبيـنهـا اشْـيـــاءُ نـظـرة، فابـتـسامـة، فـســلامُ *** فكلام، فموعــد، فـَلـِــقــاءَ هذه أبيات من أشعار شوقي السائرة بين الناس، وفيها من عذوبة البيان ما يرتوي منه الإنسان، غير أن الرافعي انتقدها من حيث النحو، وأجازها من حيث توليد المعنى الشعري؛ وكشف عن الأصل الذي أخذت منه ويوضح ذلك في تعليقه: دع غلطته في قوله «تميل عني» فإن صوابها: تَمِلْ؛ إذ هي جوابُ إن الشرطية، وأنا كنت دائماً وما أزال مُعجباً بموهبة شوقي في التوليد؛ فإنه أخذ البيت الثاني من قول أبي تمام: «أتيت فؤادها أشكو إليه فلم أخلص إليه من الزحام»؛ فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضه. — وحي القلم ج3 شوقي. تفرَّد الرافعي عن بقية الأدباء من أقران عصره بهذه النزعة النقدية في الأدب التي عرضناها، فكونه شاعراً وأديباً، يقابله من جهة كونه ناقداً وفيلسوفاً، ونحن أثبتنا تلك النزعة، ولعل هذه النزعة كانت سراً من أسرار الرافعي التي دفعته نحو الفصاحة وقوة الرأي في الجدال واستحضار الدليل الذي يكون منه البرهان، ذلك هو: الرافعي. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً «الإله في الفيزياء»: كيف يعمل الكون؟ المرتزقة الجدد: نشأة الشركات العسكرية الخاصة ومستقبلها في الثلاثين ندرك ما الذي أفسدنا! التآصل: هل القلم الرصاص وخاتم الألماس شقيقان؟ شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram إدة سيدي عالي جعفر Follow Author المقالة السابقة فيلم «غزة مونامور»: الحب في زمن الدمار المقالة التالية من صنعاء إلى إسطنبول: تضاعيف المدن ونوافذ العزلة قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك كيف تستغل الأوقات العصيبة لتعليم طفلك «المرونة»؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أدب أغوتا كريستوف: «بالطين الأحمر كنت أنحت جسد أمي» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لأصحاب الشركات والمؤسسات: 5 أدوات تساعدك على الابتكار 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «الأخت الأخرى لعائلة بينت»: ما وراء القناع 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «The Thing»: لأن النقاد ليسوا دومًا على صواب 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مسرحية عطيل: الجنرال المغربي بين شكسبير وأورسن ويلز 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مفهوم الشعر: عن نماذج هدمت اللاهوت الشعري 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الفسطاط: قصة مدينة انزوت تحت طبقات التاريخ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الخصوصية تنمحي: التقنية الرقمية تطورت حتى ابتلعت صانعها 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تدير أًمريكا حروبها التجارية؟ 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.