وقعت شخصية سعد زغلول أسيرة لثنائية الروح والرؤية، ثنائية جعلته من
المذبذبين بين الأساس العقيدي للشخصية الإسلامية وتيارات التغريب التي تريد إغراق
المجتمع.

وإذا كان ناقدو سعد زغلول يقفون عند إدمانه القمار في فترة من حياته، فإن هذا الأمر لا يمكن سحبه على دوره في ثورة 1919، فالثورة لم تتأثر بأن زعيمها كان مُدمنًا للقمار، وإنما أضاعها تأثر سعد والوفد بمدرسة حزب الأمة.

الأكثر لفتًا للنظر، أن مواقف سعد الإسلامية، والأساس العقيدي لشخصيته بدا ساطعًا خلال المعارك الفكرية التي شغلت الرأي العام المصري في العشرينيات من القرن العشرين، ونلاحظ أن هذا العقد من القرن العشرين شهد أعتى موجات التغريب، في محاولة لإغراق المجتمع كله دفعة واحدة في بحور التغريب، لإزاحة هويته الإسلامية.

سعد يهاجم كتاب «الإسلام وأصول الحكم»

ثنائية الرؤية نراها عند سعد في موقف أشد خطرًا من مجرد لعب القمار وشعوره بالندم، موقف يتصل برؤيته للإسلام ودوره في الحياة، هل هو رؤية شاملة للحياة؟ أم علاقة بين الإنسان وربه؟ وذلك حينما أصدر الشيخ عليّ عبد الرازق (1888-1966) كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925، في أولى محاولات «علمنة الإسلام» من الداخل، و«تنصير الإسلام» بجعله كالمسيحية، ليس له دور في الحكم وعمران الحياة.

انتقد سعد الكتاب، ولم يُبد عطفًا على كاتبه، بل وصفه بأنه «جاهل بقواعد دينه»، وبأنه أشد طعنًا في الإسلام من كثير من المستشرقين ممّن قرأ لهم.

يقول سعد في حوار سجّله سكرتيره الخاص «إبراهيم الجزيري»:

لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدّعي أن الإسلام ليس مدنيًا ولا هو بنظام يصلح للحكم؟! فأية ناحية مدنية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟! هل البيع أو الإجارة أو الهبة أو أي نوع آخر من المعاملات؟! ألم يدرس شيئًا من هذا في الأزهر؟! أو لم يقرأ أن أممًا كثيرة حُكمت بقواعد الإسلام فقط عهودًا طويلة كانت أنضر العصور؟! وأن أممًا لا تزال تُحكم بهذا وهي آمنة مطمئنة؟ فكيف لا يكون الإسلام مدنيًا ودين حكم؟!

ويؤيد سعد قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، مُدافعًا عن قرارهم ولو كانوا مدفوعين فيه من قبل السراي، فما أتي به الشيخ لا علاقة له بحرية الرأي.

ويهاجم سعد الشبان الذين انسحقوا فكريًا أمام الغرب، فتحملهم ثقافتهم الغربية
على الإعجاب بكل جديد، ورؤية الذات بالغير، ولو كان خطأ، دون تمحيص ولا درس، ناعيًا
على جريدة «السياسة»، الناطقة بلسان حزب الأحرار الدستوريين، دفاعها عن الشيخ عليّ
قائلًا:

وكم وددت أن يفرق المدافعون عن الشيخ بين حرية الرأي وبين القواعد الإسلامية الراسخة التي تصدى كتابه لهدمها. [1]

لم يكن سعد في هجومه على كتاب «الإسلام وأصول الحكم» مدفوعًا بأهواء السياسة بدعوى انتماء الشيخ علي عبد الرزاق إلى حزب الأحرار الدستوريين، وأن سعد أراد إسقاط الوزارة التي يشترك فيها الأحرار لكي يعود الوفد إلى الحكم كما يرى البعض. [2]

رأى سعد في كتاب «الإسلام وأصول الحكم» يعبر عن «الأساس الإسلامي» في شخصيته وسنوات كُتّاب القرية والدراسة في رحاب الأزهر وبصمات الأفغاني ومحمد عبده. يؤكد هذا موقف سعد من طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي».

وماذا علينا إذ لم يفهم البقر؟!

في عام 1926 أصدر طه حسين كتاب «في الشعر الجاهلي»، والذي أثار ردة فعل
عنيفة في البلاد، حيث تحركت مظاهرة غاضبة من طلاب الأزهر، وتوجهت إلى بيت سعد، بيت
الأمة، فأطل عليهم من شرفته، مهدئًا لهم: «وماذا علينا إذ لم يفهم البقر؟!» [3]،
يقصد طه حسين ومن أتبع نهجه، إساءة لم يسبقها ولم يلحقها إساءة في مثل شدتها، وهي
صادرة منِ منْ: زعيم الأمة سعد زغلول!

وحينما قرأ سعد كتاب الأستاذ محمد فريد وجدي «نقد الشعر الجاهلي»، أثنى على الكتاب والكاتب، وبعث برد رقيق إلى وجدي يقول فيه:

وصلني كتابك الذي وضعته في نقد كتاب «في الشعر الجاهلي». وقرأته في عزلة تجمع الفكر، وسكون يحرك الذكر، فراقني منه قول شارح للحق، ومنطق يقارع بالحجة في أدب رائع. فقررت عينًا بوجود مثلك بيننا. والسلام على المهتدين.





سعد زغلول. 16 أكتوبر 1926. [4]

سعد يتصدى لمحاولة إلغاء الوقف

ثنائية الرؤية، والتأرجح بين الهوية الإسلامية والهوية الغربية، نراها لدى زعيم الوفد، في موقفه من نظام الوقف الإسلامي، إذ انتقل الجدل بين المؤيدين والمعارضين لنظام الوقف الإسلامي عام 1926 إلى البرلمان، وكان سعد رئيسًا له، فكان في صف المدافعين عنه، إذ طالب النائب «عبد الحميد عبد الحق أفندي» بإلغاء الوقف الأهلي لأنه «نظام ظالم لم تتحقق الغاية منه»، فرد سعد باشا:

ما معنى أن هذا النظام ظالم يا حضرة العضو؟ إن الواقفين قد وقفوا الأعيان بمحض اختيارهم، فهل ظلموا أنفسهم بذلك؟!

لم يجد العضو مهربًا من المطرقة التي هوى بها سعد على رأس حجته فسحقتها، فرد متلجلجًا:«الذي أراه أن هذا النظام فاسد مضر غير مفيد!».

فحسم سعد الأمر بضربة ثانية:

على كل منْ يهمه هذا الموضوع أن يبحث ويُفكِّر في الطريقة التي يمكن أن تزيد في حماية المستحقين، لأن الإلغاء ليس طريقة لزيادة الحماية بل هو طريقة لرفعها. [5]

لم يكن سعد مجرد مدافع عن نظام الوقف الإسلامي، وإنما مارسه فعليًا، فقبل جلسة مجلس النواب ببضعة أشهر، وفي 21 فبراير/شباط 1926 أوقف سعد بيته المشهور بـ«بيت الأمة» على زوجته صفية، ومنزله في مسقط رأسه بقرية «إبيانه» وجميع الأراضي الزراعية، للصرف من ريعها على الفقراء من أولاد وذرية إخوته، في تعليمهم وعلاج من يحتاج إلى العلاج منهم، وأن يؤول ريع الوقف من بعدهم إلى «الجمعية الخيرية الإسلامية» لتصرفه في شئون التعليم بمعرفتها. [6]

وقف «بيت الأمة» ربما يعود لرغبة سعد في الإبقاء عليه رمزًا لمدافعة
الاحتلال، ووقف أطيانه الزراعية دليل على ثقته في هذا النظام الموروث لتحقيق
الإنفاق على أقاربه الفقراء، ودليل على ثقته في مجهودات الجمعيات الخيرية
الإسلامية التي حملت لواء دعم الحركة الوطنية منذ بدء تأسيسها عام 1892، في مواجهة
سيطرة الاحتلال على الجهاز الإداري للدولة.

ولم يكن سعد وحده منْ لجأ إلى نظام الوقف، فقد لجأ إليه أعضاء الأسرة العلوية الحاكمة، بدءًا من محمد علي وصولًا إلى الملك فاروق، وكذلك الوزراء وكبار موظفي الدولة، على نحو ما فصل الدكتور «إبراهيم البيومي غانم» في كتابه القيّم «الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر». [7]

الاستعانة بنظام «الوقف» يثبت الازدواجية في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المصرية، إذ كان معظم الواقفين من ذوي الثقافة الغربية، تلقوا تعليمهم في مدارس وجامعات أوروبا، وأسهموا في بناء دولة مركزية على النمط الأوروبي، ومع ذلك استعانوا بمحض إرادتهم بنظام الوقف الموروث، بدلًا من أن يتركوا أموالهم وأملاكهم تخضع للقانون المدني الوافد، والذي كان تطبيقه دليلًا على تمدن المجتمع في نظرهم. وأخضعوا أملاكهم للمحاكم الشرعية، وهي نظام موروث، مبتعدين عن المحاكم الحديثة والنظام القضائي الوافد من محاكم مختلطة وأهلية.


المراجع



  1. محمد إبراهيم الجزيري، “سعد زغلول: ذكريات تاريخية طريفة”، كتاب أخبار اليوم، سبتمبر 1954، ص 91، 92، 93.
  2. عباس العقاد، “سعد زغلول: سيرة وتحية”، مطبعة حجازي، 1936، ص 518. انظر أيضًا: ألبرت حوراني، “الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939″، دار النهار، بيروت، بدون تاريخ، ص 262.
  3. محمد عمارة، “إنه الشيخ سعد زغلول باشا”، جريدة الأهرام، 7/12/2011. انظر أيضًا: محمد عمارة، “هل كان سعد زغلول علمانيًا؟”، الوفد، 14 سبتمبر 2011. انظر أيضًا: محمد عمارة، “في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام”، مكتبة الشروق الدولية، ط 1، 2003، ص 222، 223.
  4. الجزيري، “سعد زغلول ذكريات تاريخية”، ص 37.
  5. إبراهيم البيومي غانم، “الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر”، مدارات للأبحاث والنشر، ط 1، يناير 2016، ص 445. نقلًا عن مضبطة جلسة النواب، الجلسة 51 بتاريخ 8 سبتمبر 1926، ص 867.
  6. المصدر نفسه، ص 373. وما بعدها “سياسة الوقف في دعم الحركة الوطنية المصرية”، ويذكر المؤلف أن الثلاثي الذي قابل السير ونجت يوم 18 نوفمبر 1918 استعانوا بنظام الوقف، أولهم عليّ شعراوي عام 1918، ولحق به سعد عام 1926، وكان ثالث الثلاثة عبد العزيز فهمي عام 1936.
  7. المصدر نفسه، ص 139: 153.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.