(1)

النجوم خافتة وكأنها عيون مُسهدة، والسحب تذرف بالدموع، الأرض تضطرب في تنهد، الظلام هو الحاكم، والنور وليد موؤد، الصمت؟! لا صمت وأنا المتكلم، الكل يصمت من الخوف، وأنا أتكلم من الخوف. صوتي؟! ليس صوتي وحدي، بل صوت كثيرين يأتي مُجتمعاً من مكان ما، يبدو بعيداً، عميق كعمق الزمان، صوتي شريد يملأ الأكوان، إنها صرخة سحيقة… صرخة ندم أو اعتراف لا أدري، ولكن في الحالتين لا جدوى، انتهى… كل شيء انتهى.

(2)

وقع ذلك في الثاني والعشرين من شعبان عام سبعمائة وثمانٍ وخمسين، وفي دولة مولانا الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، رمضان علي الأبواب، وقد تزينت القاهرة، الجو ثقيل قائظ، رغم ذلك اجتمع الناس أمام إحدى بوابات قصر الأمير المملوكي «شيخو العُمري»، البوابة تبدو عظيمة منيفة، وقد تدلى منها شيئان؛ زينة رمضان وجثة «قطلو قجاه».

(3)

(يناير/ كانون الثاني 1989)

كانت عودة «رفعت» من العراق مفاجأة لأهالي الحي بلا شك، فبعد ثماني سنوات من الغربة قد تصادفت مع نشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وانتهت بانتهاء الحرب، جعلت تلك المصادفة حالة رفعت مصدراً للعديد من التساؤلات، فقد رحل عن الحي بعد أن توفي والداه وضاق به الحال حتى إنه ترك الجامعة وهاجر في موجة الهجرة التي لازمت مطلع الثمانينيات، وها هو الآن يعود وهو لا يفترق شيئاً عما رحل، حتى إن البعض تهكم عليه وقال إن قميصه ذاك الذي يرتديه هو نفسه الذي سافر به، ولكن ما لبث الأمر أياماً حتى نسي الناس رفعت وقدومه وانزلقوا في جرف الحياة.

(4)

رفعت يبدو شخصية غريبة ومبهمة أيضاً، وأكثر ما يخشاه الإنسان ما يجهل، لذلك كان أهل الحي دائماً ما يحاولون أن يفكوا طلاسم ذلك المجهول عن طريق تكهنات شخصية تواري خوفهم من ذلك الغموض الخبيث، كانت أولى التكهنات أن رفعت أصبح (جهادياً) وأنه مُراقب من المخابرات، إذ إنه قد تطوع في الجيش العراقي وتم شحنه بأفكار الجماعات التكفيرية من خلال بعض وكلائها العراقيين، ولكن الشيء الأهم ألا يكثُر الحديث في ذلك الأمر حتى لا ينكشف لرفعت ويفلت من المخابرات. وكانت هناك نظرية أخرى ظهرت على ساحة المقهى بالحي تبرر حالة رفعت، وهي أنه لم يترك العراق نهائياً بل إنه قد استقر هناك وقد جاء إلى مصر ليبيع البيت الذي ورثه عن أبيه ثم يعود مجدداً إلى بلاد الرافدين، وربما يحدث ذلك في غضون أسابيع قليلة. كثرت الفتاوى والتفسيرات وبقي الأمر على ما هو عليه. ظهور رفعت ما زال غامضاً وغير مريح.

(5)

(أبريل/نيسان 1989)

يظهر كالطيف أو الروح المشؤومة، يجول القاهرة طوال النهار دون كلل، كثيرون رأوه في أماكن متعددة؛ دار الكتب… فم الخليج… الدرب الأحمر… شارع الصليبة، أماكن لا علاقة لبعضها البعض، ربما يؤكد هذا بعض الشكوك، ولكن في النهاية لا دليل، كل ما يفعله هو التجول والعودة ليلاً إلى المنزل، ومن ثَمَّ البقاء فيه إلى اليوم التالي، كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ لا أحد يدري، لكنه أصبح أشد هزالاً عما جاء، حتى عيناه قد غارتا كثيراً، مظهره لا يسر وربما يدعو للشفقة من أهل الحي، لكن الشفقة سرعان ما تتبدد أمام غموضه البغيض المُفسَّر على أنه ترفع عليهم.

(6)

(مارس/أذار 1989)

«رب يسر وأعن …»

اغفر ذنوبنا يا سلطان السلاطين، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين، واهدنا بما بين إياك نعبد وإياك نستعين، فأنت خير الوارثين، اللهم صل وسلم على سيد المرسلين الذي كان نبياً وآدم لم يزل بعد بين الماء والطين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد …

يأتي كتابي ذلك إلى رجل زنيم وتر وعليه أن يحفظ عليه الستر، فبعد عمرٍ من ذلك الحين، يخلفه ولد عريم فإن تبع ما فيه فهو من الفائزين، أقول إنَّا في زمن عاث فيه الفساد، وكثرت مظالم العُبَّاد، حتى أنَّا لا نملك سُقيا ولا زاداً، والجور جل الجور من السلاطين والأمراء، وهذا قول ليس فيه مراء، فقد استأثروا بمال الرعية ولم يرعوا فيه حق حر أو سبية، وممن علمنا عظم ملكهم وجلال قدرهم وأمرهم الأمير المملوكي (شيخو العُمري الناصري)، إذ كان من مماليك مولانا السلطان (أبو المعالي الناصر محمد بن قلاوون)، اشتراه بماله وأنعم عليه بخير كفله وإحسانه، فلما توفي مولانا أبو المعالي أخذ شيخو يترقى بين الأمراء حتى علا شأنه في عهد مولانا ناصر الدين وحامي الحرمين السلطان حسن، فقد تولى السلطنة في عمر الحادية عشرة، وعين شيخو بمنصب الأمير كبير، وبهذا نال شيخو ما لم ينله قبله أحد فقد جمع بين نيابة السلطان وأتابكية العسكر، فكان زمام الدولة بيديه وأصبح صاحب الحل والعقد.

وكان الأمير شيخو  أميراً ديناً خيِّراً، كثير البر والصدقات، وله إيثار ومعروف، ولا سيما فيما فعله في خانقاته والجامع الذي بالصليبة، ولكنه كانت له يدان: يد تمتد بالزاد، وأخرى تبطش بالعباد، فمع كل بره وإحسانه، لم يمنع ذلك من شر حرمانه، فقد حرم أحد المماليك السلطانية يدعى (قطلو قجاه) من مال قد آل إليه، واستأثر به لنفسه، فما كانت تلك إلا القشة التي قصمت ظهر البعير، فأضمر له ذلك المملوك الشر وبيَّت له، حتى جاء اليوم الموعود، والأمير شيخو واقف بإيوان السلطان حتى غافله المملوك قطلو وضربه بسيفه ثلاث ضربات ألقته مغشياً عليه، لم يمت في الحال بل أمهله الله ثلاثة أشهر، أخذ فيها بثأره، وانتظره فيها المماليك حتى يرثوه، ولكن ما فتئ أن لاقى ربه وفُتحت خزانته، حتى وجدوا فيها ألف دينار فقط، صالوا وجالوا في بيته وإصطبله وحتى مسجده، لم يجدوا شيئاً، مات ولم يترك سوى الألف دينار وعدداً من الجياد وفوق السبعمائة مملوك من خاصكيته، وُزعوا بعد ذلك على الأمراء.

وأقول هنا إني قد جاءني علم عليم أبعد عن الشك منه إلى اليقين، فقد رأت عيناي ما لم تره العيون وخبرت بما لم يخبره عاقل أو مجنون، فأقول إني أعلم موضع كنز شيخو المدفون، فهو واقع بين أثرين منيفين لسلطانين الأول له سبق في أمرين، والثاني تولى الحكم فترتين، وآخر اسمهما (نون)، إذا علمته، أتبع الميمون».

بالطبع لم يحرك رفعت ساكناً بعد أن أنهى قراءة تلك الصفحات التي لقيها مصادفة وهو يفرغ مقتنيات البيت قبل أن يعرضه للبيع، فقد استقر على أن يبقى في العراق بقية عمره، لكن ربما يختلف الأمر الآن، كنز أحد المماليك! ثروة ولا شك، الورق يكاد يتبدد، إنها مخطوطة فالخط حروفه معقوفة كما الكتابات التي في المساجد الأثرية، بعد دقائق من الفحص يظهر شيء آخر، يبدو أنه ليس أول من طالت يداه تلك المخطوطة، فهناك علامة بحبر أزرق تمتد في أعلى المخطوطة، أيضاً هناك علامة أخرى في أسفلها ولكنها بحبر مختلف وتبدو أقدم من الأولى، الأمر غامض وغريب، يبدو كقصص ألف ليلة وليلة، مخطوطة بالية في بيت عتيق، ثم العثور عليها مصادفة وقراءتها، تحتوي على ثلاثة لا رابع لها بشارة ولغز ثم أمر، ما يحدث مريب ولكنه يستحق.

(7)

(مايو/آيار 1989)

عمليات
من البحث والتفكير لا تنقطع، عدد مهول من القراءات لكشف اللثام عن اللغز، مع رصد
جميع الآثار الإسلامية وغيرها، كل ذلك نتج عنه مجموعة زاخرة من المعارف تكاد تؤهله
لتحصيل دكتوراه، ولكن ما فائدة ألف دكتوراه والكنز لا يزال محتمياً بالثرى.

اليأس ينفرد بـ رفعت، يفنيه شيئاً فشيئاً، دائماً ما يبدو اليأس كالشيخ الهَرِم، طويل البال، ثقيل الخطوات، يسري في ضحيته على غير عجلة، حتى يتمكن، فإن نجح يسل سيفه في هدوء، مُردياً الضحية. الأيام تمر ومعها ما تبقى من الأمل، ولكن رفعت لم تنخر قواه بالكامل بعد، لا يزال يجوب القاهرة متأملاً آثارها، ومن أهم الشوارع التي يمر بها شارع الصليبة، شارع طويل يربط بين القلعة حتي ميدان السيدة زينب، ويقطعه عرضياً عدد من الحواري والدروب، وما سُمي بالصليبة في الأساس إلا لذلك، والأهم فيه أنه يحوي جامع وخانقاه (هو المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة) ذلك المغتال شيخون، ولكنهما ليسا أقيم ما يحوي الشارع، فهو يبدأ بمدرسة السلطان حسن درة العمارة الإسلامية في العالم بأسره، وينتهي بجامع ابن طولون، ذلك البناء العتيد الذي إذا احترقت القاهرة لا يحترق وإذا غرقت لا يغرق.

بالفعل كان ابن طولون حاكماً عظيماً وسائساً فريداً، هكذا ذكرته الكتب، فقد استطاع بدهائه أن ينشز عن الخلافة العباسية ويستأثر لنفسه بحكم مصر، فكان من أوائل من قاموا بذلك وله في ذلك سبق، ولا شك حتى أنه من قوة حكمه ضرب عملة تحمل اسمه، وذلك كان تفرداً خاصاً به دون جميع من استقلوا عن الخلافة. بالفعل تفرد بأمرين عظيمين وأقام أثراً عتيداً رسَّخ اسمه في التاريخ، أمران وأثر؟! نعم سلطان بسابقتين وأثر… وآخره (نون)، هذا هو النصف، نصف اللغز، إن صح ذلك التخمين فسيكون كشف بقية اللغز أيسر. «والثاني تولى الحكم فترتين …» منْ تولوا الحكم فترتين كثيرون، (السلطان سيف الدين برقوق، الناصر محمد بن قلاوون، السلطان حسن بن …)، آخره (نون) وحسن، تولى فترتين وله أثر عظيم، النصف الآخر! ولكن ما بينهما شارع بأكمله، قالوا إن الشيء يكتمل بشطريه، ولكن يبقى أمر «الميمون»، اللغز لم ينجلي بعد.

(8)

كان ذلك الكشف طوق نجاة، أخيراً هناك أمل يستحق الحياة من أجله، فالأحلام والأماني التي استأثرت برفعت في لاحق الأيام كانت لخمرتها نشوة ليس لها مثيل، دقائق من الأحلام تؤكد له أنه سيصبح هارون رشيد زمانه، ولكن تلك الأحلام تكاد أن تتحطم على صخرة ( ماذا بعد؟) فواقع الأمر يقول إنه لم يصل لشيء، إذ إن المساحة التي يحتمل وجود الكنز فيها مساحة حي بأكمله، وبالطبع لن يحول شارع الصليبة لأنقاض حتى يُحصِّل كنزه، ربما كل ما يملكه أن يبقى في الشارع حتى يتعثر في أية دلالة على كنزه، تمنى لو أن هناك نصف قشة ليتعلق بها لكنه لم يجد سوى الخواء، هو مؤمن بوجود الكنز حق الإيمان، كما الإيمان بالغيب، يعلم أنه موجود لكنه لم يره.

(9)

كنت أنا وهو وواحد كتوم وواحد كمان ميمون… ابعد عن الميمون… ابعد عن الميمون… ابعد عن الميمون.

ندت تلك الصيحة من إحدى جنبات الطريق، الصوت ثقيل متحشرج أقرب للخوار ويبتعد شيئاً فشيئاً، أخذ الأمر عدة ثوانٍ حتى أدرك رفعت مصدر الصوت. شيخ قريح شديد الحدب وأقرب للقزامة، يلبس أسمالاً تكاد تستر جسده الضئيل الذي يعلوه وجه دميم مغطى بهلع غير مُبرر، يبدو كأحد المشردين يعبر الطريق مُستقبلاً «حارة الأربعين».

كل ذلك طبيعي ما دمت في حنايا القاهرة، لكن الغريب هو ما قاله «الميمون»، المبهم الأخير المذكور في المخطوطة، وذكره كان واضحاً «أتبع الميمون»، وكونه يُذكر الآن على لسان أحد المجاذيب لا يمنع أن يكون هو الأمل المرجو، لكن الأهم اللحاق بذلك المجذوب، كان الشيخ الأحدب قد دلف إلى الحارة بمشيته العرجاء لا يلتفت لأحد ولا أحد يرمقه، حتى اتخذ أحد العطفات فأوغل.

كل ذلك ونداؤه لا ينقطع، وهو ما أعان رفعت على اللحاق به، تقفاه رفعت حتى وصل إلى أرض فضاء تتوسط البنايات، توقف المجذوب عندها، ألقى السلام ثم مضى، على منْ ألقى السلام؟ الأرض خالية هكذا بدت للوهلة الأولى، لكنه قابع هناك، شاب مليح الوجه، فتياً وربعة، يجلس على منفذ في الأرض يبدو كفتحة سرداب، تقدم رفعت بروية، فمع كل خطوة قلبه يختلج بشدة، كلما اقترب شعر أنه يتقهقر، الطريق طويل، لكنه الأخير، بتلك الخطوات ينتهي العناء، الميمون هو الفصل الأخير من اللغز، وما هي إلا دقائق وينتهي. «أقبِل أنا الميمون»، كان صوته عذباً صوتاً ملائكياً، لم يسمع مثيله من قبل، اقترب رفعت أكثر حتى أصبح في مواجهته:

– يا سيدي الميمون، دلني على كنزي المدفون.

= كلا إنه ليس كنزك، بل كنز شيخو المغدور، وأنت لم ترثه، ولم يكن في يوم لك مقدور، دعه لصاحبه، تكن مرحوماً.

– لكني أنا صاحبه، هو حقي، والمخطوطة ملكي، جسدي نُحل من أجله، أنا
من عثرت عليه وهو جزائي، إن لم تدلني عليه، فانتحي عن السرداب خيراً لك.

= المخطوطة لم تكن ملكك وحدك، فقد وصلت لكل بني آدم من قبلك، فمنهم من طمع ومنهم من قنع، تلك فرصتك الأخيرة، اتركه وإذا توغلت فلن تنله إلا بعد قتلي، إما أن تخضع وإما أن تصرع.

لم
يشعر رفعت بنفسه إلا والميمون يلفظ الرمق الأخير في قبضته، وكأنه كان مُغيباً عن
فعله، كانت عيناه تنفذ بالشر وأنفاسه تتهدج، في لحظة تحول الميمون إلى جثة طفل
عجفاء، يبدو وكأنه مات من الجوع، انتفض رفعت عند رؤيته، لكن لا وقت للعطف، أزاحه
رفعت وفتح باب السرداب، ثم أخذ يخطو للأسفل، أُغلق الباب، وسمع صوت وكأنه الرعد
يسأله ويقول:

– لمَ قتلت الطفل؟

= أنا لم أقتله، بل قتلت الميمون، ولم يكن قصدي صرعه، لم أشعر
بنفسي وأنا أقتله، لم أكن أنا، كان شخصاً آخر، ثم هو من منعني من خيري، هو الذي
اضطرني لذلك، أنا مظلوم.

– وما الميمون سوى كل من قُتل جوراً من طمع الإنسان، أنت لم تقتل
الميمون، طمعك هو من قتله، ولست أول قاتل ولن تكن الأخير.

انتهى الصوت، ووجد رفعت نفسه يندفع إلى أسفل والأشواك تدميه، أخذ يهبط وكلما هبط وجد ناراً تلفحه، وصوت لظاها يزداد، سعيرها كالنهم، الصراخ يعلو من حوله، الآلاف يتعذبون، صرخ بكل ما فيه «أنا الآثم … أنا الآثم»، لكن لا جدوي، هبط أكثر، أخذ يصرخ ويُدمدم، لكن حكمه معلوم، ما هي إلا لحظات أخيرة، وحده يكون الآن، نظر إلى أعلى، تراءت له الأرض، بدت حزينة نحيبة، فالنجوم خافتة وكأنها عيون مسهدة، والسحب تذرف بالدموع، الأرض تضطرب في تنهد، الظلام هو الحاكم، والنور وليد موؤد، الصمت؟!

لا صمت وأنا المتكلم، الكل يصمت من الخوف، وأنا أتكلم من الخوف. صوتي؟! ليس صوتي وحدي، بل صوت كثيرين يأتي مجتمعاً من مكان ما، يبدو بعيداً، عميق كعمق الزمان، صوتي شريد يملأ الأكوان، إنها صرخة سحيقة، صرخة ندم أو اعتراف، لا أدري، ولكن في الحالتين لا جدوى، انتهى … كل شيء انتهى.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.