مع التزام الناس بالحجر المنزلي الذي فرضه عليهم انتشار فيروس كورونا، ومع محاولاتهم المتعددة للتغلب على الملل ووقت الفراغ، ارتفعت إلى حد ما نسب قراءة الكتب، وازدهرت صفحات وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، تعرض للقرّاء كتبًا في مجالات مختلفة، ولوحظ زيادة عدد النقاشات حول تلك الكتب والروايات، وهو مؤشر جيد على تفاعل القارئ واستخدامه الإيجابي لوسائل التواصل بعيدًا عن السلبيات المعروفة.

لكن هل تبدو نقاشات القرّاء حول الكتب، وحول الروايات على وجه الخصوص، ثرية ومفيدة؟ وهل تكشف عن ثقافة وبعد نظر أم عن تسرع وقلة خبرة واستهتار بمجهود المؤلف؟ لماذا يلجأ القراء أحيانًا (والكلام هنا عن العرب والأجانب عمومًا) للسخرية من كتاب لم يعجبهم، أو رواية لم ترُق لهم، حتى لو كانت تلك الرواية مُرشَحة لجائزة ما، أو حاصلة على إشادة نقدية؟

في هذا المقال سنعرض موقفَين، لنحاول فهم وجهة نظر
القارئ.

القارئ لا يقتنع بجائزة البوكر!

سنبدأ برواية «سنة الراديو»، للروائية اللبنانية «رينيه الحايك»، وهي إحدى الروايات الـ 16 التي وصلت إلى

القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية

عام 2017. وهي المرة الثالثة، التي تصل فيها هذه الروائية، إلى القائمة الطويلة للجائزة الأرفع عربيًا على مستوى الرواية.

على الموقع الإلكتروني الخاص بالجائزة، نقرأ نبذة مختصرة
عن الرواية، تعطينا لمحة بسيطة عن السبب الذي دفع لجنة التحكيم لاختيارها:

تدور أحداث رواية «سنة الراديو» في بيروت الحالية، وتحكي قصة شابة مختصة بتقويم النطق لدى الأطفال. تعمل في مدرسة بعقد مؤقت، ومع نهاية العام الدراسي تنهي المدرسة عقد عملها. تتنقل في أعمال مختلفة إلى أن تتلقى عرض عمل في الإذاعة، بعقد لمدة سنة. تعمل في الإذاعة كـ خبيرة نفسية، تقدم في برنامجها الذي يُبث مباشرة، نصائح لذوي الأطفال الذين يعانون من صعوبات في النطق أو مشاكل نفسية. نتابع على مدى سنة تجارب البطلة للحب والفقدان والعمل والمرض والبطالة.

على أحد حسابات موقع إنستغرام، عُرضت مراجعة قصيرة لهذه الرواية، مُرشِحة إياها للجمهور كعمل يستحق وقتهم. أحد المتابعين، كتب تعليقًا سخر فيه من هذه الرواية ومؤلفتها، واعترض على كثرة التفاصيل فيها، بل واعتبر هذه الرواية دليلاً إرشاديًا لكل من يريد أن يصبح روائيًا بأقل جهد ممكن، معلنًا أن أي شخص يستطيع كتابة هذه اليوميات «التافهة»، مع ما في تعليقه من إساءة للجنة تحكيم الجائزة.

لنأخذ مثالاً ثانيًا. في يونيو/حزيران عام 2013، صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية رواية بعنوان The Silent Wife. النبأ الحزين أن مؤلفة هذه الرواية توفيت قبل شهرين فقط من نزول الرواية إلى الأسواق، ولم تُمهَل لتحتفل بنجاح روايتها، التي وصلت إلى قائمة صحيفة «نيويورك تايمز» للكتب الأعلى مبيعًا، ولقيت احتفاءً لا بأس به من النقاد. وبعدها بعامين، تُرجمت الرواية إلى اللغة العربية تحت عنوان «الزوجة الصامتة».

في هذه الرواية، تبني المؤلفة عالماً كامل التفاصيل
للزوجة، مع عودة لذكريات طفولتها على شكل حوارات مع المعالِج النفسي. تبدو
التفاصيل في القراءة الأولى غير ذات أهمية، لكنها في الحقيقة تكشف عن سلوك معين
لدى الزوجة الهادئة، التي تحاول حماية عالمها لسبب يتضح في النهاية، وتوضح حواراتها
مع طبيبها عن ذكرياتها سبب استعدادها الكامن للاختلال النفسي.

على موقع Goodreads، وعلى الصفحة الخاصة برواية The Silent Wife، نجد مراجعة حصلت على أكثر من 1200 إعجاب، وهو رقم كبير جدًا في موقع خاص بالقرّاء فقط، أي أن عدد الأشخاص المسجلين فيه ليس كبيرًا. صاحبة هذه المراجعة كتبت محاكاة هزلية قصيرة لتفاصيل الرواية، وسخرت من وصف الكاتبة لملابس البطلة ويومياتها، ما يوضح أنها لم تفطن إلى العبرة الحقيقية الكامنة في الجوهر.

نقد افتراضي أم مجرد سخرية؟

في كتابه «هكذا تكلم القارئ… النقد الافتراضي ومشاغل أخرى» الصادر عام 2018 عن دار روايات، أسس «محمد حسن المرزوقي» لمصطلح «النقد الافتراضي»، ويقصد به النقد الذي يمارسه القارئ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معلنًا تراجع دور الناقد الأكاديمي (أو الأرستقراطي كما سمّاه)، الذي لا يجيد سوى المصطلحات المفخمة والفذلكة اللغوية، والذي ثبت في كثير من الأحيان انحيازه للأسماء الكبيرة، على حساب جودة النص الحقيقية، ليفسح المجال أمام الرأي الذي يهم فعلاً، وهو رأي القارئ، المتلقي لهذا العمل.

إذن، القارئ والكاتب يدعوان لإزاحة الناقد من بينهما،
وهذا حسن. لكن السؤال هنا هو: هل القارئ على مستوى هذه المسئولية فعلاً؟ وهل هو
جاهز لاستلام لواء النقد من الناقد الأكاديمي وتطويره؟

في صفحة 73 يقول المرزوقي:

قد يتبادر إلى الذهن أن النقد الافتراضي مرادف للنقد الانطباعي، ولكن رغم تشابههما ظاهريًا، إلا أن الفرق الجلي بينهما يكمن في كون النقد الانطباعي يمارسه القارئ المحترف، الذي يتمتع بحكم الخبرة، بالحاسة السابعة… حاسة التذوق الأدبي، بينما النقد الافتراضي يمارسه في أغلب الأحيان قارئ عادي.

ربما لا يكون لجميع القراء الصبرُ نفسه على قراءة تفاصيل الروايات، وربما يختلط عليهم الأمر فلا يفرِّقون بين الحشو الزائد، وبين التفاصيل الضرورية لرسم ملامح وحياة شخصية ما. وبالتأكيد ليست وظيفة القارئ أن يجامل الكاتب، ومن كامل حقه أن يعبّر عن رأيه كيفما شاء، دون شرح أو تبرير أو اعتذار. لكن النقد مسئولية، والاستفادة الحقيقية -هي أيضًا- لا تجامل القراء المستعجلين.

النقد الافتراضي حق مكفول للجميع، لكن إن أراد القارئ أن يرتقي في سلم ذائقته الشخصية، وأن يصل لمرحلة التذوق الأدبي، فعليه أن يأخذ كامل وقته للتفكر مليًا فيما يقرؤه. أن يتواضع ويتأنى ويسأل ويناقش قبل أن يشهر سيف السخرية، متوهمًا في ذلك بطولة ما، وهو في الحقيقة يخدع نفسه، ويفوِّت من الفائدة ما كان سيدركه بالقليل من الجدية، والكثير من الرغبة في التعلم.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.