عبارات تجديد الخطاب الديني التي كثيرًا ما تتردد إعلاميًا في هذه الآونة ليست نتاج 30 يونيو فحسب؛ وإنما لها تاريخٌ طويل بدأ إبّان يوليو 1952منذ محاولة إحكام ثاني رؤساء الجمهورية جمال عبد الناصر السيطرة على الخطاب الديني الحكومي لمواجهة الإخوان المسلمين.لربما لم يتم استخدام نفس المفردات (تجديد الخطاب الديني) و إنما بدأ حينها احتكار الدولة للشئون الدينية في العصر الناصري، و صدر قانون تنظيم الأزهر لعام 1961، لتبسط الدولة سيطرتها على الخطاب الديني الحكومي أو بالأحرى قامت الدولة بـ «تأميم الخطاب الديني» و تم تكريس الدين لترويج اتساق تعاليم الإسلام مع مبادئ الاشتراكية.استمرت سياسة تأميم الخطاب الديني لصالح الدولة في عهد السادات، ولعب الرئيس فيها دورًا بالغ الأهمية، فقام بتطويع الدين لصالح السياسة، والاقتصاد، والحرب على إسرائيل، ومن بعدها طوّع ذات الخطاب لخدمة معاهدة السلام.وصف الرئيس أنور السادات المعارضين بالخوارج و أشار للأحزاب اليسارية بحفنة الملحدين ، بل و بتحليل مضمون الخطاب الساداتي، سنجد أن هذه الحقبة طوّعت الدولة فيها الدين لقبول القضاء والقدر والفوارق الطبقية، و ارتدى السادات الجلباب و أمسك بالسبحة ونُشرت له صورٌ وهو يصلي ويسجد وأطلق على نفسه الرئيس المؤمن و أطلق عليه إعلامه سادس الخلفاء الراشدين. زخر الإعلام بآيات القرآن عن قتال اليهود وأسميت حرب أكتوبر بغزوة بدر و روّجت الإذاعة الحكومية لقصة عبور الملائكة لقناة السويس برفقة جنودنا ومن ثمّ عاد رجال الدين المؤسسي في ذات الحقبة لاستخدام الآيات القرآنية التي تحثّ على السلام لإبرام معاهدة السلام مع إسرائيل ومنها: «وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها»، التي تبنّاها الأزهر وأئمة المساجد في هذا الوقت مرارًا و تكرارًا في خطبهم.بل طالعنا الإعلام الحكومي و رجال الدين المؤسسي على حدّ سواء بأن الخطر على العالم العربي و الإسلامي أصبح الشيوعية لا إسرائيل، وهذا تزامنًا مع دعم الولايات المتحدة الأمريكية للحركات الجهادية الأصولية في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، ولعبت مصر دورًا هامًّا في الحشد الإعلامي للتطوع ودفع الشباب لنصرة الإسلام في بلاد الأفغان. وفي حقيقة الأمر تم استخدام الخطاب الديني لتجنيد شباب المسلمين للانخراط فيما أسمته أمريكا بـ «عملية العاصفة»، التي وقّعها الرئيس

رونالد ريجان

في مطلع الثمانينيات.عصر الرئيس الأسبق مبارك لم يكن عصرًا علمانيًّا كما يدّعي كثيرٌ من العلمانيين الآن ، حتى و إن صرّح رئيس وزرائه أحمد نظيف بأن مصر علمانية – كما فعل عام 2007 – وحتى إن دافع مبارك عن وزير ثقافته فاروق حسني في أزمة تصريحاته حول الحجاب رافضًا إقالته عام 2006.

كون مبارك غير مستغرقٍ في مظاهر الخطاب الديني السلطوي كما فعل السادات لا يعني بالضرورة أن مصر كانت ليبرالية التوجه، بل إن عصر مبارك شهد موجةً عاتية من قضايا ازدراء الأديان حسب المادة 98 فقرة (و) و التي تم إضافتها لقانون العقوبات في مطلع فترة رئاسته عام 1982، وشهدت المحاكم المصرية أشهر قضايا التكفير و هي قضية د. نصر حامد و تفريقه عن زوجته د. ابتهال يونس على خلفية أنه مرتد و لا يجوز له الزواج من مسلمة!، بل تمّ استخدام مثل هذه القوانين التكفيرية كذراعٍ تتصدى بها الدولة لخصومها السياسيين والمعارضين لها.رغم أن تاريخ مصر كان حافلاً في احتكار الخطاب الديني، و تأميمه، و خلط الدين بالسياسة و السياسة بالدين؛ إلا أنه لم يستفق الإعلام و الوعي الجمعي لهذا الخلط إلا في عهد الإخوان المسلمين، و تم غضّ الطرف عن تأميم الخطاب الديني لصالح الدولة قبل عهد الإخوان، و تجاهل الإعلام استخدام الدولة لذراعٍ ديني من أجل تأكيد شرعيتها و محاربة خصومها السياسيين، سواء من الإسلاميين أو الليبراليين من قبل تولي الرئيس الأسبق محمد مرسي لمقاليد الرئاسة.


هل كفّت الدولة وحكوماتها المتعاقبة عن إقحام الدين فعلا؟

رفعت ثورة 30 يونيو شعارات لا لخلط الدين والسياسة، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: «هل كفت الدولة وحكوماتها المتعاقبة عن إقحام الدين فعلا في كل أمورها إبان 30 يونيو؟».بعد عامين ونصف من 30 يونيو اتضح أننا لم نقم لا بثورةٍ مدنية ولا بثورةٍ دينية لتجديد الخطاب الديني، بل قمنا بثورةٍ عادت بنا من مشارف دولة الخلافة السنّية التي أرادها الإسلاميون إلى المربع صفر؛ أي مربع مؤسسات الدولة ذات الذراع الديني.هذا في حد ذاته انتصار أنقذنا من براثن دولة حمساوية النزعة؛ لكنه ليس بالضرورة انتصارًا للدولة المدنية التي لا زالت في مهبّ الريح والتي خاطرنا بحياتنا من أجلها.لا شك أن ما ينادي به الرئيس السيسي من تجديد الخطاب الديني و استخدامه مرادفات غير مألوفة لرجال الدين الحكومي قد تُعدّ ثورة في حد ذاتها؛ إلا أنها تقع تحت طائلة تأميم الدولة للخطاب الديني – على غرار ما قبل 25 يناير – بهدف تطويعه لصالح النظام القائم.فإن كانت الدولة تسعى للتجديد فعلاً فكيف تترك قوانين الحسبة سيفًا على رقاب المجددين و المحدثين؟و على صعيدٍ آخر ، وقع الإعلام المصري في شر تناقضه، فأصبح يقبل كل ما كان يرفضه في عهد الإخوان بل شرع الإعلام، الحكومي و الخاص المؤيد على طول الخط لنهج و سياسة النظام، إلى تبريراتٍ دينيةٍ لكل صغيرةٍ و كبيرة.طلّت علينا مذيعة تليفزيون الدولة أثناء نقل فعاليات افتتاح قناة السويس الجديدة في شهر أغسطس الماضي لتوجه عنايتنا إلى «علامة الصلاة» على جبين الرئيس السيسي الدّالة على إيمانه وإسلامه!، فما الفرق إذن بين الإعلام الذي أشار لمرسي بالرئيس الملتحي وبين الإعلام الذي يشير لعلامة الصلاة على جبين الرئيس بدون مناسبة؟، واستهلّت الصحف الرسمية عناوينها الرسمية بصور سجدةٍ للرئيس، وعادت المزايدات الدينية للإعلام الذي رفض ذات الإيماءات في عهد الإخوان.

و خصّص الإعلام الخاص والحكومي مساحاتٍ لرجال الدين من أجل تذكير المواطنين بالواجب الشرعي للانتخابات!، ناهينا عن حديث الصحفي (ياسر رزق) في ضيافة الصحفي (ممتاز القط) على قناة العاصمة، وهو يحكي عن بكاء الرئيس السيسي الذي قال: {لست أفضل من الرسول و أبي بكر!}.



في الذكرى الخامسة لثورة يناير

في الذكرى الخامسة لثورة يناير لا زال يلجأ رجال الدين إلى فتاوى إطاعة وليّ الأمر و لا زال الإعلام يصور أهل السلطة بأولي الأمر الواجبة إطاعتهم.كانت من أكبر السقطات للخطاب الديني و الإعلامي على حدّ سواء هو ما قاله خطيب مسجد الحسين مشيرًا إلى الرئيس السيسي بأنه ظلّ الله، وطاعته من طاعة الرسول، و تحريم من يخرج في 25 يناير.


https://www.youtube.com/watch?v=t6fEUcKAc0s

والمطلوب في حقيقة الأمر ليس أن يدعو رجال الدين (رجال المؤسسة الدينية الحكومية) للنزول أو الاعتكاف بالمنازل في الذكرى الخامسة للثورة، لكن لربما المطلوب هو ألا نقع في شر التناقض.فإذا كنا نعتبر أن دعوات الإخوان أو الإسلاميين تحديدًا إلى النزول يوم 25 يناير خلطًا للدين و السياسة، فماذا نسمي دعوات شيوخ الأوقاف بصبّ اللعنات على من يريد حتى المشاركة الرمزية في ذكرى يوم 25 يناير؟إذا كان خلط الدين بالسياسة و تأميم الخطاب الديني هو ما كنا نحاربه قبل 30 يونيو، فلماذا نكرر خطأً فادحًا في تبرير و قبول تأميم الخطاب الديني بعد 5 سنواتٍ من الثورة؟.