هوية يُحاكَم على إثرها الفرد؛ فيُقتل أو يتم التنكيل به
على أهون تقدير.

هذا ما تبادر لذهني حينما قرأت عنوان الكتاب، وبما أن
الكاتب عربي وله مؤلفات سابقة ذات أبعاد عربية وإسلامية وإفريقية؛ فأغلب الظن أن
الأمر كله حول الانتهاكات التي يتعرّض لها أبناء هذه الهويات في عصرنا الحال.

لكن لا… المسألة هنا مختلفة، الهويات هنا قاتلة للآخر وليس لصاحبها، تقتله إنسانيًا في المقام الأول ويصل بعضها للقتل الفعلي في أسوأ الفروض، «أمين معلوف» يواجه في «

الهويات القاتلة

» فكرة أن تطغى هوية الفرد على انتمائه لمجتمعه أولًا وللإنسانية جمعاء ثانيًا، كما يذهب في سردية بديعة وتحليل عميق لمدى خطورة تأثيرات العولمة وما شكلته من تهديد على الكثير من الهويات الإنسانية.

مفهوم جديد للهوية

يُحلِّل معلوف قضية الانتماء انطلاقًا من تجربته الخاصة كشخص صاحب هوية متعددة الجوانب حد التعارض –الظاهري- وكونه مرّ بتجربة الصراع بين الهويات؛ فهو عربي كاثوليكي حاصل على الجنسية الفرنسية ونشر كل أعماله بلغتها، كما يملك تاريخًا عائليًا زاخرًا بالانتماءات المختلفة من عرب وأتراك، مارونيين وكاثوليك وبروتستانت، وغيرها. كل هذه الروافد شكّلت شخصية الكاتب الفريدة، وهو رافض للتخلي عن أي منها. يرى معلوف أيضًا أنها تُشكِّل عامل تقريب قوي بينه وبين البشرية جمعاء.

يُوطِّن أمين معلوف كذلك لمفهوم جديد للهوية، أو لتعدد الهويات بمعنى أدق؛ فالفرد كائن معقد جدًا لا يمكن اختزاله في هوية واحدة، ولا يمكن تخييره بين هويتين ينتمي إليهما، قطعًا هناك هوية أو أكثر تطفو للسطح، لكن هذا الأمر تبادلي ويختلف من فترة لأخرى في حياة الإنسان، كما أنه عادةً ما تتصدر المشهد الهوية المُعرّضة لخطر ما، الجرم هنا هو ما يفرضه المجتمع على الإنسان حينما يجبره على التخلي قصرًا عن أحد انتماءاته؛ لينخرط في المجتمع، الأمر الذي يؤدي لنتيجة عكسية في أغلب الأحوال، حينما يجعل الفرد أو المجموعة تبالغ في الانغلاق على نفسها ويتشبثون بهويتهم التي يرونها قيد التهديد، لا تشبث المتمسك، بل تشبث الغريق، مما يشكل عائقًا حقيقيًا في سبيل التعايش المجتمعي.

الخلاصة أن الفكرة الأولى تكمن في أن يتقبّل الإنسان والمجتمع انتماء الشخص للعديد من الهويات في آن واحد، وأنها تُشكِّل هويته الفريدة من نوعها –التي لا يشاركه فيها أي أحد آخر- وأن يتعاطى معها بتفهم وتقبل.

عالم عقلاني

أمين معلوف علماني التوجه وعلى الأغلب ينتمي للا أدرية المؤمنة –أي يعترف بوجود إله لهذا العالم وهناك حساب وثواب وعقاب لكنه لا يتبنى تصورًا واضحًا حول ماهيته- حسبما ظهر في أكثر من لقاء صحفي أُجري معه.

يمكننا قراءة الكثير من مواقفه الفكرية في ضوء ذلك؛
فأقصى ما يطمح إليه هو تجنيب البشرية كل ما يثير المتاعب؛ ليتبنى العالم منظور «الإنسان
أكبر»، وتنحني كل الهويات من أجل هذا الهدف الأسمى، مهما كان هذا التعايش أجوف أو
يغتال الهوية ضمنًا.

يتبنى الكاتب من هذا المنطلق رؤية شمولية للانتماء استنادًا
إلى تجربته الخاصة، رؤية مُغرقة في التفاؤل، قوامها الإدراك العقلي المادي دون
الروحي، مما يجعلها في بعض الأحيان قاصرة، لا يمكنها استيعاب وجود بعض الهويات –الهوية
الدينية على سبيل المثال- التي يستحضرها الفرد في سائر مواقف حياته ولا يمكن حصرها
في أداء بعض الشعائر فقط لا غير.

التأثير المتبادل بين الأديان والشعوب

المجتمع يصنع الدين الذي بدوره يصنع المجتمع.

من هذا المنطلق استعرض الكاتب التأثيرات المتبادلة بين الأديان والشعوب؛ فالدين يطبع الشعب بطباعه الخاصة، كما تتبنى الشعوب رؤاها المختلفة للدين؛ فالإسلام في الشرق ليس كمثيله في الغرب، وإسلام القرون الوسطى يختلف عن إسلام الألفية الثالثة، هم بالفعل يتشاركون نفس العمود الفقري، لكن يختلفون في تفاصيل كثيرة. وينطبق الأمر ذاته مع أي دين.

من هنا وقع الكاتب في خلط واضح؛ فبينما يؤكد في كل موضع من الكتاب على خطورة التعميم، كتب هو عن الإسلام والمسيحية بصورتهما المجملة دون أي تفرقة بين مختلف الطوائف والفرق وطرق تعاطي أي منهم مع بروتوكول التسامح المتبنى من قبلهما.

امتدادًا لفكرة التأثير المتبادل، يتمنى الكاتب وجود عالم يتبنى نمطًا جديدًا من التدين، دين لا يمثل انتماء يُشبِع الجانب الروحي لاتباعه وحسب -ليصبح مآل الانتماء الديني هو التطرف لا محالة- هنا نرى تأثرًا واضحًا لوجود الدين كستارة للمصالح الشخصية لأبناء الطوائف اللبنانية المختلفة، لكن لا يمكننا تعميم النموذج اللبناني، وإن كان متكررًا بالعديد من بلدان العالم.

أمين معلوف ذو رؤية موضوعية عقلانية، يضع الأمور في سياقها ويعطي كل ذي حق حقه دون تمجيد زائد للمواقف الإيجابية ولا قسوة زائدة في رؤية السلبيات، لا يُزيِّف التاريخ ولا يُميِّعه؛ فيعترف بمدى نجاح نموذج التعايش الذي تبنته الحضارة الإسلامية، كما يؤكد أن حاضر المجتمعات الإسلامية بعيد كل البعد عن ماضيها، كذلك يشيد بقدرة الغرب الحديث على التعايش –بالغ في هذا الأمر حقيقة- إلا أنه لا يجد أي غضاضة في الاعتراف بالمجازر التي ارتكبها الغرب وصعوبة الانضواء تحت رايته في ظل كل الجروح الدفينة في نفوس أبناء الحضارات المنتهكة من قبله. نموذج الانتهاك ورد الفعل العدائي صوّره العديد من الروائيين العرب، لعل أشهره ما جاء في رواية «

موسم الهجرة إلى الشمال

» للروائي السوداني الأشهر «الطيب صالح».

كبوات

من الصعوبة قراءة «الهويات القاتلة» قراءة محايدة،
فحينما يكون الموضوع هو «الهوية» تظهر كل مقومات هويتك، ويصبح المساس بأي منها من
قريب أو من بعيد مثار قلق لك، كما أن نظرتك له ستتشكل –حتى دون قصد منك- تبعًا
لرؤيتك للعالم والتصورات التي تحملها له.

هذا ما وعى له الكاتب بشدة؛ فأخذ يعيد صياغة أفكاره
المرة تلو الأخرى موضحًا ومفسرًا ومستبقًا أي رفض قد يقابل به من قارئه، مما أوقعه
في فخ الملل، خاصةً حينما طغى عليه الجانب الروائي في أكثر من موضع بالكتاب، وهو
ما لم يخدم مبحثه على الإطلاق؛ فصار الأمر أقرب للإرهاصات الفكرية الشخصية.

الكاتب مُولَع بالمواقف الحدية –كأنه زعيم حزب الوسط الوحيد- فهو يذكر طرفي النقيض من أي مثال انتمائي، مما يجعل الصور كاريكاتورية في بعض الأحيان، ربما انتماؤه لبلد مثل لبنان تستعر فيه النعرات الطائفية أجّج هذه الرؤية عنده، لكن لا يمكن تعميم الصورة بهذا الشكل، أي نعم هذه الأمثلة خدمت رؤية الكاتب في أن أخشى ما يخشاه هو أن تحجبنا هويتنا عن إنسانيتنا، لكن هذه المواقف أغلبها بعيد كل البعد عن حياتنا اليومية المعتادة.

التحول المُلفت

أمين معلوف انتهج نهجًا شديد التفاؤل في كتابه، وصل مداه
في خاتمة كانت الأروع على الإطلاق، قال فيها:

أتمنى أن يكتشفه [أي الكتاب] حفيدي يومًا ما، مُصادفةً في مكتبة العائلة، فيتصفحه ثم يعيده فورًا إلى الرف المغطى بالغبار مُستخفًا ومندهشًا للحاجة إلى قول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده.

هذا الإغراق في التفاؤل مآله الحتمي ظهر في كتاب «

غرق الحضارات

» للكاتب نفسه، الذي صدر عام 2019، أي بعد 20 عامًا من صدور كتاب «الهويات القاتلة». حيث تشاؤم مفرط لدى معلوف، بعدما آلت الأمور إلى النقيض تمامًا. فالنموذج الغربي الذي أخذ الكاتب في تمجيد نهجه صار في طور الانهيار. الدول العربية تأكلها الصراعات الداخلية بعد أزمات الاحتلال، مما يجعله يفترض أن بداية الانهيار كانت مع نكسة 1967. والولايات المتحدة التي يرى الكاتب أنها يجب أن تكون الظهير الحضاري للدول النامية عملت على الاتجار بتلك الشعوب وانتهاكها لأبعد مدى، انتهاك كان قائمًا، لكني لا أعلم حقيقة لماذا تجاهله الكاتب؟ كما أنني لم أستسغ إهمال الكاتب للدور التنموي الحضاري الذي تلعبه الصين واليابان والنمور الآسيوية حاليًا.

بالنهاية أكثر ما يُؤخذ في صالح «الهويات القاتلة» هو أنه يثير التساؤلات –التي يتبعها بالضرورة تكوين الرؤى الخاصة- ويُزكِّي كذلك الحس الإنساني القيمي في نفس القارئ.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.