كثُرت في الآونة الأخيرة التصريحات والتسريبات التي تتكهّن بعودة العلاقات بين أنقرة ونظام الأسد، معظم هذه التصريحات كانت تأتي على لسان مسئولين أتراك، كتصريحات وزير الخارجية التركي «مولود جاويش أوغلو» الذي تحدث عن لقاء عابر وقصير غير مرتب، جمعه بوزير الخارجية السوري «فيصل المقداد»، على هامش قمة دول عدم الانحياز. كذلك نجد تسريبات لصحافيين مقربين من الحزب الحاكم –العدالة والتنمية- في تركيا، تتحدث عن شروط الطرفين لإعادة تطبيع العلاقات وعقد اللقاءات بين الجانبين على مستويات عالية.

التصريحات الرسمية التركية لا تتحدث عن شروط مسبقة لفتح قنوات الحوار مع النظام، عبّر عن ذلك جاويش أوغلو في منتصف أغسطس/آب 2022، حينما قال:

لا يمكن أن يكون هناك شرط للحوار، لكن ما الهدف من هذه الاتصالات؟ البلاد تحتاج إلى التطهير من الإرهابيين… الناس بحاجة للعودة.

تحليلات الصحف المقربة من العدالة والتنمية وشروط التقارب التي تتحدث عنها لا تبتعد كثيراً عن هذا التصريح، حيث تناولت ملفات مفصلية ومهمة لأنقرة ستكون على طاولة النقاش مع دمشق في حال حصل هذا التقارب. هذه الملفات هي: اللاجئون السوريون في تركيا وعودتهم إلى سوريا، وملف وحدة الأراضي السورية وعدم تقسيمها، والتهديد الأمني المرتبط بجماعة «قسد» الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة كتنظيم إرهابي.

من جانب آخر، وفي تعليق لفيصل المقداد وزير الخارجية في سوريا على إمكانية حصول تقارب بين البلدين، قال:

الاحتلال التركي لسوريا يجب أن ينتهي، الدعم الذي تقدمه تركيا للتنظيمات المسلحة يجب أن ينتهي، إضافة إلى أنه يجب ألا يكون هناك أي تدخل من قبل تركيا في الشئون الداخلية لسوريا.

لا يريد المقداد أن يضع شروطاً مسبقة للتفاوض، لكن تصريحه هذا لا يُدلل على وجود نية لدى نظام الأسد في التقدم خطوة نحو «مبادرة تركية مفترضة» لإصلاح العلاقات.

حديث رويترز عن لقاء رئيس المخابرات التركية «هاكان فيدان» بنظيره السوري «على مملوك» في دمشق عدة مرات خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى ما نقله الصحفي التركي «عبد الله سيلفي» عن رغبة أردوغان في لقاء بشار الأسد والحديث معه في قمة أوزبكستان لو كان قد حضر:

أتمنى لو أنه أتى إلى أوزبكستان حتى أقابله، لقلتها في وجهه، حيث إننا قلنا له سابقاً: انظر، إذا تصرفت بهذا الشكل، فإن سوريا ستتقسم. وفكّر أن المعارضة كبيرة لكنها لا تملك السلاح. تجاهل تحذيراتنا، ولم يكن في حسبانه أن روسيا وأمريكا ستدخل إلى سوريا. اختار التمسّك بحكمه، إلا أنه فشل في حماية جزء كبير من الأراضي السورية.

كل هذا يعطي زخماً لهذه التكهنات ويدعم فرضية تقارب العلاقات.

وفي خضم كل هذه التصريحات، كان الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ينفي الأنباء التي تناقلتها وسائل إعلام روسية «سبوتنيك» وإيرانية «تسنيم»، عن إبلاغ الحكومة التركية للائتلاف بضرورة مغادرته الأراضي التركية قبل نهاية العام الحالي (2022)، نتيجة قرار سياسي تركي بشأن إعادة العلاقات مع النظام السوري بوساطة روسية إيرانية.

في الحقيقة فإن كل ما سبق يترك انطباعاً أوليّاً لدى المتابع بأن التقارب قادم لا محالة، وأن تركيا تسعى إلى تطبيع كامل وسريع للعلاقات مع النظام السوري، بخاصة بعد التغيرات الكبرى التي طرأت على الساحة العسكرية والسياسية في سوريا، وظهور النظام بصورة «المنتصر» في المعادلة على حساب قوى الثورة والمعارضة، وسعي تركيا لتصفير مشكلاتها الخارجية مرة أخرى.

لكن هل فعلاً هذا ما تسعى إليه تركيا؟ هل تريد تركيا تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد والعودة بالعلاقة إلى ما كانت عليه قبل الثورة؟ وهل هي قادرة على فعل ذلك أصلاً؟ وهل الظروف الموضوعية في سوريا اليوم تتحمّل حدوث هذا النوع من التقارب؟ وما هي العقبات التي تحول دون حدوث ذلك؟ وماذا تتوقع تركيا من إعادة علاقاتها مع نظام الأسد أساساً؟

تركيا تقوم بعملية تنسيق استخباراتي وعسكري مع نظام الأسد، هذا التنسيق لم ينقطع أساساً وهو تنسيق معلن من الجانبين، وترى تركيا أن هذا التنسيق مهم لضرورات أمنية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني ووجود القوات التركية في سوريا. هذا التنسيق يُضعِف من احتمال عودة العلاقات لأسباب أمنية، بخاصة أن تركيا تقوم بتنسيق عملياتها العسكرية في سوريا مع شركائها في محادثات آستانة وسوتشي روسيا وإيران.

النظام السوري بصفته فاقداً للسيادة وأدوات الهيمنة في معظم الجغرافية السورية لا يملك ما يقدمه لتركيا في هذا الجانب، فكيف تطلب من أحد شيئاً لا يملكه؟

تركيا ليست بحاجة للنظام السوري لإضفاء الشرعية على عملياتها ضد حزب العمال الكردستاني في سوريا، هي تمتلك اتفاقية أضنة.

الملف المحتمل الآخر للتقارب هو اللاجئين السوريين في تركيا، وبحث سبل عودتهم الآمنة إلى سوريا، وهو الملف الذي يتم تقديمه في وسائل الإعلام في تركيا اليوم على أنه من أكبر المشكلات التي تواجه تركيا، ويبدو لو أنه سيكون قادراً على تحديد نتيجة الانتخابات المقبلة، وهو ما يخالف الواقع ولا يعكسه البتة. فاستطلاعات الرأي في تركيا لا تشير إلى أن الناخب التركي يرى في «مسألة الهجرة واللاجئين» مشكلة كبيرة تحتاج إلى حل عاجل، بينما يرى ذلك في الأزمة الاقتصادية والوضع المعيشي وقضايا البطالة، العدالة والفساد.

المصادر الرسمية التركية تتحدث عن «عودة طوعية» لأكثر من 500 ألف لاجئ سوري إلى «المنطقة الآمنة» التي تقول تركيا أنها أسهمت في صناعة الاستقرار فيها، كذلك البيانات الواردة من المعابر الحدودية والأخبار المحلية تُظهِر عدد الأشخاص الذين تتم «إعادتهم» إلى سوريا من قبل السلطات التركية.

هذه البيانات وحديث سابق لأردوغان عن إنشاء وحدات سكنية من الطوب الإسمنتي في شمال سوريا لإيواء اللاجئين السوريين «العائدين طوعياً» أو ربما المُرحلين حتى، هي مؤشرات أخرى على أن ملف اللاجئين هو أمر تتعامل حكومة العدالة والتنمية معه منفردة دون التنسيق مع النظام السوري، في حال كانت عملية العودة غير مرتبطة بحل سياسي شامل.

ليس من الصعوبة أن نلمس انخفاض حدة الخطاب الرسمي التركي ضد نظام الأسد، وهو أمر يسهل لمسه حتى لدى زعماء دول أخرى عربية وغربية كانت تصف نفسها بدول «أصدقاء الشعب السوري»، لكن تركيا ما زالت ملتزمة إلى اليوم على الأقل بالقرارات الأممية المتعلقة في سوريا، وتدعم الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254.

عدم وجود شروط أولية للتفاوض من الطرفين– كما هو معلن على الأقل- ليس بالضرورة إعلاناً لنوايا حسنة كامنة لدى الجانبين، وقد يكون مناورة ولعباً على عنصر الوقت. النظام لديه مطالب أساسية كان قد تحدث عنها سابقاً:

  • فتح الطرق الدولية بشكل كامل وأن تكون هذه الطرق تحت إشرافه وحمايته.
  • السيطرة على معبر باب الهوى الحدودي وفتح الطرق التجارية.
  • طلب فيصل المقداد بخروج القوات التركية (والتي وصفها بالاحتلال) من الأراضي السورية.

هذه الشروط الضمنية إضافة لشروط تركيا الضمنية كذلك، التي لا يملك النظام أن يفي بها، حتى هي شروط تعجيزية يستحيل أن تكون الغاية منها سوى إضاعة الوقت.

ما الذي يمكن استخلاصه من كل ما سبق؟

أولاً: ليست هناك بوادر تركية حقيقية لإعادة العلاقات مع النظام بشكل مباشر أو التنسيق والتعاون على مستويات عليا. فإعادة العلاقات مع النظام يعني الاعتراف بسلطته على كامل الأراضي السوري، وبالتالي سحب تركيا لقواتها من سوريا، والتخلي عن المعارضة السورية، وهذا ما لا تريد تركيا القيام به حالياً. لن تفرط تركيا بأقوى ورقة بين يديها اليوم، التي بذلت الكثير لكسبها، من أجل التقارب مع نظام محاصر دولياً ولا يملك ما يقدمه لنفسه حتى.

ثانياً: هذا الحديث عن احتمالية التقارب والانفتاح على النظام هو مطلب روسي وضغط يمارسه بوتين على أردوغان منذ زمن، كان جلياً في قمة طهران الأخيرة ولقاء سوتشي كذلك. تصريحات أردوغان تأتي في إطار خلق توازن في العلاقات مع روسيا، خصوصاً أن تركيا تلعب دوراً مهماً في الوساطة بين أوكرانيا وروسيا في الحرب التي شنتها الأخيرة على أوكرانيا.

ثالثا: حكومة العدالة والتنمية ليست بحاجة للتقارب مع النظام لكسب أصوات إضافية في الانتخابات المقبلة، ليس لهذا الحديث عن التقارب المحتمل أي أصداء تُذكر. إن من أهم وعود «تحالف الأمة» المعارض هو إعادة العلاقات مع دمشق وفتح السفارات والتمهيد لإعادة اللاجئين. وعلى الرغم من ذلك ما زالت الأحزاب المعارضة تبحث عن الشخص القادر على هزيمة أردوغان وليس المشروع أو الوعد القادر على ذلك.

أخيراً: لا نرى في التصريحات التركية على أنها بالونات اختبار تُحضِّر الشارع لمرحلة جديدة، بقدر ما هي مناورات واسعة تسعى تركيا من خلالها لخلق توازن في العلاقات الحساسة جداً مع شركائها في سوريا؛ إيران وروسيا على وجه الخصوص.

القطيعة أو الخلاف بين تركيا وسوريا اليوم مختلف تماماً عن أي توتر في العلاقات حدث بين تركيا ودولة عربية أخرى، تركيا لديها قوات عسكرية على الأراضي السورية وهي منخرطة بشكل مباشر في العملية السياسية، إضافة للتهديدات الأمنية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني. كل هذا يجعل من المقارنة عملية غير ذات جدوى، لما تحمله من اختلافات جذرية وارتباط مباشر لتركيا بالصراع في سوريا.

خلاصة القول، تبدو سياسة «صفر مشاكل» صعبة جداً مع فاعل مثل نظام الأسد، إلا أنه لا يجب النظر لفكرة التقارب على أنها من المستحيلات، التقارب اليوم هو أشبه بالممكن غير المرغوب، سواء بالنسبة لتركيا أو النظام السوري حتى.

تركيا تُبدي انفتاحاً في التعاون مع نظام الأسد على المستوى الأمني وتقاسم النفوذ في المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تغيراً جذرياً سيحدث في الموقف التركي من الصراع في سوريا لأنه كما أسلفنا؛ تركيا فاعل أساسي ومباشر اليوم في هذا الصراع.

تركيا هي الحليف الذي لا تملك قوى الثورة والمعارضة رفضه اليوم، وعلى المعارضة توحيد جبهة ما تبقى من الحلفاء لتستعيد المبادرة من جديد، فالفيتو على مشاركة الأسد في قمة الجامعة العربية اليوم قد لا يحدث العام المقبل، والعقوبات الأمريكية قد تزداد رخاوتها وتتسع دائرة الإعفاء منها.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.