اعتدنا تقسيم الإسلام عند نقاشه إلى إسلامَين اثنين: الأول إسلام حقيقي غير قابل للنقد أو التجريح أو التحريف كونه رسالة إلهية مجردة، والثاني إسلام تاريخي ينهال عليه سوط الغضب وسوط النقد بكل أريحية؛ كون الكلام عنه كلامٌ عنّا كمسلمين لا عن الإسلام البريء من كل مساوئنا.

هذه المنهجية برغم نواياها الحسنة أهدرت أي كيان مجرد للإسلام يمكن أن يوجد، وألغت أي إمكانية للتحاور مع ممثل رسمي للإسلام.



هذه هي الحال التي وصلناها كمسلمين بعدم وعينا بتاريخية الدين، هذا الوعي الذي سيحلّ الكثير من إشكاليات السيرة وأحكام الإسلام.

كما حوّلنا هذا التقسيم الذي نحتمي خلفه تحاشيًا للتكفير وتوددًا للجماهير،حوّلنا إلى عمّال تلميع للدين وفي نفس الوقت جلادين لذواتنا كلّما فشلت تصوراتنا عن الإسلام في تحقيق مسؤولياتنا، فنؤنب بعضنا للعودة إلى «الإسلام الأول»، متوسلين إليه نصوصًا مُثقَلة عن آخرها بهموم زمانها السياسية والاجتماعية والأسطورية على المستويين التاريخي والعقدي على السواء. فصنعنا لأنفسنا صنمًا جامدًا نتأمله ويخرج كلٌ منّا بتصور نسبي عنه، وفي كل أزمة نتبادل التهم بسوء التمثّل، وأننا مسلمون لا نمثل الإسلام، فنرجع للصنم الكبير «صدر الإسلام» علّنا نسينا منه شيئا!.

هذه هي الحال التي وصلناها كمسلمين بعدم وعينا بتاريخية الدين، هذا الوعي الذي سيحل الكثير من إشكاليات السيرة وأحكام الإسلام التي لم يعد العقل الحديث ولا أخلاقياته تقبلها، دون الحاجة إلى إنكار صحتها سندًا -كما هو دأب التيار القرآني اليوم-، ودون الحاجة إلى اعتساف تأويلها؛ لأنه من السهل الخروج بألف تأويل للدين يوميًا يجعله صالحًا لكل زمان ومكان، لكن من الصعب الاعتراف بتاريخية الدين نفسه.

فلو جئنا إلى الواقع الصحيح المفقود كما يوصف، وهو بالطبع إسلام محمد، فإننا لا نجد إلا إسلامًا واحدًا فحسب هو أيضًا اجتماعي مختلط بالواقع متفاعل معه ليس مجردًا. فالإسلام الأول ما هو إلا أحد هذه الإسلامات التاريخية، فتسقط عنه صفة «الحقيقة» وتبقى صفته «التاريخية» فلا يمكن أن يحمل الصفتين معًا. من هذا المنطلق نقول أن إسلام محمد لم يكن صحيحًا أو خاطئًا بالمعنى العقدي، بل كان هو «الإسلام» وحسب. فليس ثمة للإسلام كيان منفصل عن الواقع نقارن إسلام محمد به، وكيفما كان الواقع كان هو الإسلام. وكذلك إسلام الصحابة نجد أنس بن مالك يبكيه متحسرًا قائلًا: «والله ما أعرف اليوم شيئًا كنت أعرفه على عهد رسول الله». ومع ذلك يُوصف تراثيًا أنه من خيرة القرون، وكذلك التابعون والذين يلونهم إلى يومنا هذا، كلٌ منهم يمثل إسلامًا كامل الأهلية مستوفٍ لشروط الاتباع.

فلذلك نقول لا يوجد إسلام صحيح وإسلام باطل، وكذا لا يصح فصل «فهم فلان» للإسلام عن «الإسلام» نفسه؛ لأن فلان حين يقدم فهمه يقدمه باعتباره الإسلام الحقيقي، وحين يكون فلان نافذ السلطة واسع التأثير، يكون فهمه للإسلام حينها هو الإسلام الحقيقي فعلًا ويؤثر في الواقع وفي الجماهير كما لو كان كذلك. فإلى متى سيظل الإسلام يقول الشيء ثم نقيضه؟، يحلل ويحرم ويحلل، حتى ندرك أننا نحن من كنا نتحدث طول هذه الفترة!.

نحن الإسلام. ونحن من يمثله في كل مرحلة تاريخية. إما أن نتحمل مسؤولية تشكيل أنفسنا وثقافتنا الإسلامية، فنكون غيّرنا من وجه الإسلام، أو نكون مسوخًا مشوهة لغير ذواتنا وزماننا واحتياجاتنا وأصبحنا إسلامًا شائهًا تحت رحمة تأويلات طارئة تؤجل المشكلة خطوة للأمام فقط ولا تقدم الحل. كل أزمة تجديد للدين هي فرصة للاعتراف بتاريخية الدين، وإلا بقينا نؤول ونغالط إلى الأبد، هذا إذا لم تتعرقل محاولات التأويل واضطررنا لتجرع ويلات الجمود إلى أن تصبح هذه التأويلات سارية المفعول وغالبًا بعد فوات الأوان.

والحديث عن هذه التأويلات يقودنا لنقاش أثرها في الواقع وفي عقلية المجتمع، هل حالت دون تكرار الأصولية الدينية، أم أن الردات الفكرية ما زالت تُبعث باستمرار كما هي تمامًا قبل ألف سنة إن لم تكن أشد؟. والجواب أن الجماهير لا تتبع منهجها بدقة ولا تلتزم بملزماته الفكرية سواء السلبية أو الإيجابية، بل تدين الغالبية الساحقة من الناس بما تعارف على اعتباره دينًا، وهذا سبب التهاون في كثير من المحرمات الدينية المغلّظة لأن المجتمع قد تعارف على التهاون فيها كالكذب والخيانة وترك الصلوات والقذف وغيرها في مقابل التشنيع المبالغ به حول ما يمسّ المحرمات المجتمعية وأكثر ما يظهر ذلك حول شؤون المرأة؛ عملها وسفورها وسفرها ولمسها بل قد يصل لتحريم مباحات كتحريم النظرة الشرعية للخاطب. فحتى لو اتفقت جميع المؤسسات الدينية بإجماع مشايخها على صورة عصرية للدين، وهذا ما يستحيل حدوثه، فعقلية المجتمع لن تتغير في يومٍ وليلة؛ لأنها ليست في ارتباط مباشر بالدين الرسمي ولا معتقداتهم وأفعالهم على تأصيلٍ دقيق. أما من يدينون بالدين الرسمي المؤصل فعددهم لا يزيد عن عدد المتخصصين في دراسة الدين الإسلامي.

عندما نعي أن الدين الجماهيري هو بالضرورة تحت ضوابط المجتمع وغرباله، سنفهم لماذا لم يثمر التجديد الديني خلال مئات السنين؛ لأن الذي يتأثر -على افتراض أن التأثير يشمل كل من يقفون على قاعدة دينية مؤصلة وهذا أيضاً ما لا يحدث- هم فقط النخبة، وسيبقى الجمهور على تدينه الاجتماعي غير عابئٍ بالقول الرسمي عمليًا.



عندما نعي أن الدين الجماهيري هو بالضرورة تحت ضوابط المجتمع وغرباله، سنفهم لماذا لم يثمر التجديد الديني خلال مئات السنين.

وهذا المانع الاجتماعي هو نفسه أيضًا ما يمنع إمكانية علمنة الدولة وتغيير دستورها؛ لأن قوانين أي دولة إنما هي تعبير عن آمال المجتمع نفسه، فتجديد الخطاب الديني ودستور الدولة قبل تغيير الدين الجماهيري إنما هو وضع للعربة أمام الحصان، لن يحرك ساكنًا في الواقع.

يكفينا تجديد أكاديمي، وليكرس المصلحون على المجتمع، حينها سيحدث الانقلاب المنتظر، رغم بقاء كل التناقضات الفكرية مع الدين الرسمي التي لا يلاحظها إلا الأكاديمي، فالناس ليسوا عقلانيين ولا تحكمهم مسطرة أرسطو، ما إن تتغير عاداتهم حتى يتغير دينهم ودستورهم عمليًا بغض النظر عنهما نظريًا، وحتى لو حاولت المؤسسات الدينية بعد ذلك توعية الجمهور بمخالفتهم «لصحيح الدين» فلن يفلحوا، تمامًا كما لا تفلح محاولات الإسلام التنويري اليوم، حينها يحين دور المفكر الإسلامي التنويري ليضع لمسته الأخيرة بتأصيل الدين الاجتماعي وسحب البساط من تحت الإسلام السلفي نهائيًا.

هذا التصور لا يمكن تحقيقه ما دمنا نرى انفصالاً بين المجتمع والدين المثالي المجرد، ولا نعترف بحقيقة أننا نحن الإسلام، وأن لنا أن نغيّره وفق احتياجاتنا المرحلية دون الخوف أننا غيرنا الإسلام الحقيقي؛ لأننا على أية حال نمثل الإسلام الحقيقي، فليكن نافعاً إذن. وحين يُستنكر علينا أننا ابتدعنا وغيرنا الإسلام، يجب أن نقف ونقولها بوضوح: نعم لقد ابتدعنا فالإسلام يتغيّر، ولكن هذه المرة نحن نعي أننا من يغيّره.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.