فيلم

City of God

هو فيلم من إنتاج برازيلي عام 2002، عن رواية بنفس الاسم صدرت في عام 1997، وترشّح للأوسكار عن فئات أفضل تصوير ومونتاج وتأليف وإخراج.

في هذا الفيلم يتحدث أحد الأبطال إلى زميله، وهما المجرمان اللذان يدور حول صراعهما كثير من الأحداث، فيقول له الجملة الشهيرة:

في مدينة الرب… إن لم تكن متمردًا… فاخرج.

حكاية الضاحية

يحكي الفيلم عن قصة ضاحية أسستها حكومة البرازيل لتأوي بعض مشردي الفيضانات، مجموعة من المشردين المنسيين سيتحولون بمرور الزمن إلى صداع في رأس الحكومة التي نستهم؛ يحكي الفيلم عن دورات حياة يغلفها الفقر والحرمان والنسيان، تُنتِج في النهاية بؤرًا خارجة عن أي سيطرة.

الراوي بالتوازي يعيش حياته المُشتتة بين أصله، وما يحلم به، وبالطبع فإن انتماءه إلى مدينة الرب يُشكِّل عقبة في سبيل تحقيق هذا الحلم.

يلعب الراوي دور الشاهد التائه؛ يحب التصوير لكنه لا يجد فرصة لاحترافه، يحاول أن يندمج في عالم مدينة الرب الإجرامي فيلفظه، لأنه لطيف لا يشبه المجرمين، يحمل بعض الهم الأخلاقي وبعض الجُبن أيضًا، لذا سيُتقن دور الشاهد؛ ومدينة الرب كانت تحتاج إلى هذا الشاهد/الراوي ليُخرِج صرختها للناس.

في مدينة الرب تجد دورات حياة، فيها حب وكره، ورغبة وانتقام، ورصاص ودم، وفقر وسلْطة، وتمرد وقوة أمر واقع لا تخضع لمنطق غير منطق السلاح، ومجتمع من الهشاشة بحيث تمتد فيه تلك الدورات إلى ما لا نهاية.

في كل دور ومع كل طور، مجموعة تتمرد، تأتي مقولة كاروت (أحد أبطال الفيلم) «إن لم تكن متمردًا فاخرج»، لتُشكِّل حجر الزاوية في بناء مدينة الرب؛ الثنائية الأشهر في المدينة «سلطة/متمردين»، والسلطة ليست من القوة بحيث تُنهي المتمردين، كما أن القضاء التام عليهم قد لا يكون جزءًا من حساباتها، فما ستفعل السلطات إذا لم يكن هناك مدن للرب؟ كيف سيحصل الضباط على بعض الترقيات أو الرشاوى؟ ماذا سيقول السياسيون في حملاتهم الانتخابية؟ من أين ستأتي الجرائد بمواضيع مثيرة حول عوالم الظلام؟ من أين سيأتي سماسرة الفساد بعمولاتهم؟

والمنطق أيضًا يقول إن المتمردين لن تكون لهم سلطة إلا على هؤلاء الذين سقطوا من حسابات السلطة، هؤلاء المنسيون الذين لا يأبه لهم أحد، منْ ابتلعهم الهامش فما عاد لهم إلا محاولات الصراخ، ولتكن على أي شاكلة.

الطور الأول: متمردون لطفاء

تبدأ أول دورة بمجموعة من الشباب (عصابة تاندر تريو، ذائعة الصيت في مدينة الرب)، متمردين، يمتلكون بعض الأسلحة، يبدون كأنهم أبطال محليون بعض الشيء، يُوقفون عربة أنابيب الغاز ليُوزعوها على الناس مجانًا، يلعبون الكرة مع الصغار، ينفقون الأموال التي سرقوها على أهلهم أو يرمونها في الهواء. لنجد جرائم صغيرة لا يخلو مرتكبوها من بعض لطف. وهكذا كان الجيل الأول في الحكاية.

المجرم/المتمرد الأول ليس مجرمًا خالصًا، بل إنه يتمرد بطريقته على الواقع الذي وجد نفسه جزءًا منه، والنقطة البارزة في دورة المجرمين الأولي، هي نقطة كون إجرامهم ليس خالصًا، أو كونهم ليسوا أشرارًا خالصين جعلهم مقبولين اجتماعيًا.

بالطبع لا يذكر الفيلم شيئًا عن حياة مُشردي الفيضان ما قبل مدينة الرب، لكن من حكاية دورة مجرمي المدينة الأولي تستطيع أن تستشف أنهم كانوا مجموعة بائسة لم تكن تمتلك مساكن تستطيع حمايتها من الفيضانات، سقطوا من حسابات السلطة، نستهم، فأعادوا إنتاج جماعتهم ليناسب نمط حياة النسيان تلك.

يتحدث عالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو» عمّا يُسمى «

إعادة الإنتاج الاجتماعي

» Cultural Reproduction، وهو يقصد بها أن النسق الاجتماعي يعيد إنتاج ذاته بكامل أدواره في عملية دائرية، بحسب المتاح في كل نسق؛ إن الأنماط الاجتماعية ليست جاهزة ولا جامدة بل إنها مستقلة، معقّدة التركيب، تخضع في كل مرة لظروفها الخاصة، فلا يمكن فرض بنية جاهزة عليها، وتعيد إنتاج مجتمعها بحسب تلك الظروف الخاصة.

الحكم على مدينة الرب لا يكون إلا بحسابات النسيان الجماعي، السقوط عمدًا أو سهوًا من حسابات الكل، كان لا بد لمدينة الرب أن تخلق نمطها، أبطالها ومتمرديها. وكي تغير العالم، عليك تغيير الطريقة التي يُصنع بها العالم، وفق ما يقوله بورديو، وهو «ذوق الحاجة»؛ فكل مجتمع له خصائصه، وكل مجتمع يصنع ذوقًا على مقاسه، فليس مهمًا أن يكون لك رصيد من رأسمال ثقافي أو اقتصادي أو غيره، المهم هو اعتراف المجتمع بك وبما لديك من رأسمال. بهذه الطريقة تصنع مدينة الرب أبطالها.

الطور الثاني: موت اللطف

في دورة الحياة الثانية يتطور عالم مدينة الرب، يكتظ ويتنامى المنسيون، حتى أصبحوا يُشكِّلون مدينة منسية، ساقطة من الحسابات، يُعيد المجتمع إنتاج نفسه ويخلق ذوقًا جديدًا، يختفي اللطف شيئًا فشيئًا، إلى أن يموت مع «بيني» (المجرم اللطيف، أو ألطف متمردي مدينة الرب بحسب وصف «كاروت»).

نسخة شديدة الغلظة من المجرمين، بدأ كبيرهم «ليل زي» حياته بمذبحة، فقط لإرضاء شهوته للقتل، كان يقتل كل منْ يقف في طريقه، سيطر على تجارة المخدرات بالقتل، لكن بقي له منافس واحد كالشوكة في حلقه، تقاسما التجارة والنفوذ في المدينة.

كان «ليل زي» يريد سلطة تامة، يريد أن يكون الرئيس، لم يكن يريد اقتسام المدينة مع أحد، وفي المقابل كان يقوم بحفظ أمنها وتأمين تجارته. بدا الحال وكأنه نسخة ديكتاتور ببعض المميزات، وكان له صيق هو «بيني»، الذي كان نسخة مجرم لطيف، كان يكبح جماحه في كثير من الأحيان حتى قُتل، فتحول «ليل زي» إلى الجنون التام.

في مدينة الرب يختلط العام بالخاص، والشخصي بالاجتماعي، فكل شيء له حكاية، له مبتدأ أوصله إلى ما هو عليه، البشر والحجر، «ليل زي» والشقة و«كاروت» و«روكيت» والكاميرا والشاطئ. ولكل حكاية وجوه متعددة.

بعد قتل «بيني» (المجرم اللطيف)، الذي كان يمنع «ليل زي» (المجرم الباطش) أن يقتل منافسه «كاروت» حتى تدين له المدينة بما فيها. دارت الحرب، وزادت اشتعالًا حينما انضم «ناد» القوي إلى عصابة كاروت.

وقد كان «ناد» فتى طيبًا عاديًا، ثم رغب «ليل زي» في حبيبته فأخذها عنوة، ثم أراد قتله فقتل عائلته، فأراد «ناد» الانتقام لنفسه، فانضم إلى عصابة «كاروت» منافس «ليل زي».

بدأ الأمر بتوضيح أنه ليس رجل عصابات، وإنما هناك مسألة شخصية عالقة بينه وبين «ليل زي»، وهنا أوضح له «كاروت» حقيقة الأمر التي أتي منها عنوان المقال، حقيقة الأمر أن هذه هي نسختنا من التمرد، «إن لم تكن متمردًا فاخرج».

دخل «ناد» عالم الجريمة وهو يحمل بعض التقييدات الأخلاقية، التي بدا وكأنها ستقلب الموازين، وبأن تمرده سيكون ثورة، ولكنه في نهاية الأمر تحوّل إلى مجرمًا/متمردًا عاديًا مثل باقي المجرمين.

الراوي/الشاهد: قدم في المدينة وقدم خارجها

وعلى مشارف كل هذا وأنقاضه، يشاهد «روكيت» الراوي، ويحكي. يتوه في وسط زحام الحكايات أحيانًا، ويحاول أن يثبت حضوره بقبلة عابرة، أو ابتسامة، أو محاولة تمرد، في الأغلب بالتقاط صورة، فالكاميرا هي سلاحه وصديقه في آن واحد.

حاول أن يخرج من مدينة الله، فابتلعته، فبقي يحاول ويشاهد، ويحكي.

يقول دوستويفسيكي في روايته «الفقراء»، متهكمًا، على الكُتّاب الذين يجعلون الفقراء موضوعهم:

مهما كتب أولئك الثرثارون المتحذلقون، فإن وضعية الفقير لن تتغير. ولماذا ستبقي إذًا تلك الوضعية على ما هي عليه؟ لأنه يتعين علي كل ما هو لذلك الإنسان الفقير –بحسب أولئك الكُتّاب الثرثارين- أن يُوضَع مكشوفًا لضوء النهار.

مدينة الرب تمثل صرخة، كشفًا لعالم جديد تكثر فيه مدن الرب؛ في تراتيبية جامدة وتفاوت في المستوى الطبقي، تكثر كمبوندات الأغنياء، والأبواب، والأقفال، والحرس، ومدن الرب أيضًا.

إن طغيان الفردانية الذي هو منْ سمات المجتمع الرأسمالي بحسب «أليكس دو توكفيل»، والذي يُولِّد عزلة وانعدام الإحساس بالغير. يؤدي هذا بدوره في النهاية إلى نُسخ لا نهائية من مدن الرب بتمردات ديمومية لا تنتهي. وفي كل مرة يُقتًل «ليل زي»، ستأتي نسخة أسوأ من «ليل زي»، ويعيد مجتمع مدينة الرب في كل مرة إنتاج متمرديه على ذوقه الخاص.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.