نشأت
«هيئة الأوقاف المصرية» في سنة 1971م
في لحظة حاسمة من لحظات التحول في
العلاقة بين المجتمع والدولة. وقد تم ذلك التحول من النمط التسلطي البيروقراطي الذي
ساد طوال العهد الناصري إلى النمط الليبرالي، المقيد سياسياً والمنفتح اقتصادياً،
وهو النمط الذي ساد تلك العلاقة بعد ذلك، وخاصة منذ منتصف السبعينيات.

وكانت
الإرهاصات الأولى لهذا التحول قد بدأت في الظهور على إثر هزيمة سنة 1967م؛ إذ بدأ
ينكشف ما كان مستتراً من قيام نظام الحكم على أساس مراكز القوى، التي تعني -في
جانب منها- قيام حكومة الأشخاص، بدلاً من حكومة القانون، وقيام التجمعات الشخصية
داخل السلطة، بدلاً من التوزيع الموضوعي للسلطات بين المؤسسات المختلفة.

وكما أن قطاع الأوقاف -ومؤسساته بما فيها وزارة الأوقاف- لم ينج من السلبيات التي لحقت بكافة مؤسسات المجتمع والدولة معاً من جرّاء ظاهرة «مراكز القوى» التي نبتت وترعرعت في الستينيات؛ فإن هذا القطاع قد نال نصيبه أيضاً من المحاولتين الرئيسيتين لإصلاح مؤسسات الدولة وإعادة تنظيم أجهزتها الإدارية والسياسية: «الأولى» في أعقاب هزيمة سنة 1967م مباشرة، و«الثانية» قادها الرئيس السادات في مايو/أيار سنة 1971م عقب توليه السلطة بسنة واحدة تقريباً، وعُرفت إعلامياً وفي خطب السادات بأنها «ثورة التصحيح».

كانت
المحاولة الأولى محدودة الأثر على المستوى العام، وكذلك كانت على مستوى قطاع
الأوقاف؛ إذ اقتصر الأمر على إجراء بعض المناقشات الجريئة داخل مجلس الأمة وخاصة في
سنة 1969م -وكان المجلس قد أعيد تشكيله في سنة 1968م بالانتخاب بدلاً من التعيين
الذي ساد قبل ذلك- وتضمنت تلك المناقشات بعض الانتقادات لسياسة الحكومة تجاه الأوقاف،
وخاصة فيما يتعلق بإهدار شروط الواقفين وصرف ريع أوقافهم في غير ما خُصصت له،
وإهمال المساجد التابعة لوزارة الأوقاف.

ومثل
هذه الانتقادات لم تكن معهودة قبل ذلك في مجلس الأمة منذ نهاية الخمسينيات، ولم
تظهر إلا في سياق محاولة التصحيح العامة التي أعقبت هزيمة سنة 1967م كما أسلفنا،
وكان أقصى ما وصلت إليه بشأن الأوقاف هو ما ورد في «تقرير لجنة الخطة والميزانية»
عن السياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة لسنة 1969/1970م، إذ طالبت
اللجنة بضرورة «احترام شروط الواقفين وعدم إدماج إيرادات الأوقاف ضمن الميزانية
العامة للدولة». وكانت تلك الإيرادات قد أدمجت في ميزانية الدولة ابتداء من السنة
المالية 1958/1959م وبعدها أضحت وزارة الأوقاف بلا أوقاف، إلى أن نشأت هيئة
الأوقاف المصرية في سنة 1971م.

وعلى
غير المعهود -في تلك الفترة أيضاً- انتقدت «لجنة الخدمات» بمجلس الأمة المشروع الذي
قدمته الحكومة في سنة 1969م لتعديل بعض أحكام القانون 272 لسنة 1959م بشأن تنظيم
وزارة الأوقاف، لأن ذلك المشروع قد تضمن نصاً يضفي حصانة على القرارات الإدارية
لوزير الأوقاف؛ وهي القرارات الخاصة بإعطاء مساعدات من ريع الأوقاف، ويمنع الطعن
فيها أمام الجهات القضائية.

ورغم أن تحصين القرارات الإدارية ضد القضاء كان اتجاهاً سائداً في معظم أجهزة الحكم والإدارة المصرية آنذاك، إلا أنه بات موضع انتقاد بعد النكبة، وهو ما فعلته «لجنة الخدمات» بمناسبة النص المشار إليه؛ إذ وصفته بأنه «ظاهرة غير ديمقراطية لا ينبغي السكوت عليها، فليس من ديمقراطية الحكم في شيء أن يمتد سلطان الإدارة دون معقب عليه، وأن ينحسر ويتضاءل تبعاً لذلك سلطان القضاء»، وكان «خالد محي الدين» رئيساً لتلك اللجنة التي أصدرت ذلك التقرير.

وكان
أهم ما ظفرت به الأوقاف في إطار تلك المراجعات: «تقرير اللجنة المشتركة من وزارة
الأوقاف والهيئة العامة للإصلاح الزراعي»، وهو تقرير خاص بتحديد مستحقات وزارة
الأوقاف لدى الإصلاح، وقد عرف باسم «الاتفاق النهائي». وقد تم تشكيل لجنة خاصة
لإنجازه بتاريخ 5 أغسطس/آب 1968م، وانتهت تلك اللجنة من أعمالها في مايو/أيار سنة
1970م. واعُتبرت النتائج التي تم الاتفاق عليها «وثيقة رسمية» تحتج بها وزارة
الأوقاف في المطالبة بمستحقاتها طرف الإصلاح الزراعي، وهو ما حدث خلال السبعينيات
والثمانينيات ولا يزال يحدث إلى اليوم.

ذلك
ما نالته الأوقاف من محاولة التصحيح الأولى التي تلت هزيمة سنة 1967م، وقد ظل هذا
المكسب «حبراً على ورق»، بما في ذلك ما ورد في وثيقة الاتفاق النهائي المشار إليها،
ولم يأخذ طريقه إلى التطبيق إلا بعد أن نشأت «هيئة الأوقاف المصرية» في سنة 1971م.

جاءت
نشأة هيئة الأوقاف في سياق المحاولة الثانية للتصحيح، أو ما عرف بـ «ثورة التصحيح»
التي كان من مظاهرها انتصار الرئيس السادات على مراكز القوى في 15 مايو/أيار سنة
1971م. ففي 10 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام (1971م) صدر القرار الجمهوري
بالقانون 80 لسنة 1971م بإنشاء هيئة الأوقاف المصرية، التي كانت في تقدير البعض
إحدى الثمرات المبكرة لتلك الثورة. وكانت أيضاً إنجازاً له دلالته الرمزية المهمة في
إطار سلسلة الإجراءات التي اتخذها السادات لإرساء شرعية نظام الحكم في جانب منها
على أسس إسلامية. وكان للدكتور عبد العزيز كامل -وزير الأوقاف آنذاك- دورٌ بارز في
نشأة هيئة الأوقاف المصرية، كما كان له دور كبير في محاولة رد الاعتبار لنظام
الوقف وإحياء دوره، بعد أن كان قد تم تقويض هذا الدور تماماً في الخمسينيات
والستينيات.

لقد أدت «ثورة التصحيح» -بعد إزاحة مراكز القوى- إلى إحداث تحولات أساسية في التوجهات السياسية العامة للدولة، كما أدت إلى إعادة تنظيم علاقة الدولة بالمجتمع على نحو أكثر مرونة وأقل تصلباً مما كانت عليه في العهد السابق. وكالعادة في كل لحظات التحول الكبرى في العلاقة بين المجتمع والدولة في تاريخ مصر الحديث منذ محمد علي؛ جاءت الأوقاف في مقدمة القطاعات التي استخدمتها السلطة للتمهيد لهذا التحول ولتجعل منها رمزاً عليه، مع فارق أساسي هذه المرة وهو: أن المصلحة كانت متبادلة بين السلطة والأوقاف، وليست لصالح الدولة على حساب الأوقاف كما حدث في السابق.

فبالنسبة للسلطة، أشرنا منذ قليل إلى أنها فطنت إلى أهمية القيام بعمل إيجابي في مجال الأوقاف يكون من شأنه الإسهام في إرساء شرعية الحكم -في جانب منه- على أساس إسلامي، ويعطي قدراً من المصداقية لشعار «دولة العلم والإيمان» الذي رفعه السادات آنذاك؛ وقد كان إنشاء هيئة الأوقاف المصرية في سنة 1971م، ثم إصدار القانون رقم 42 لسنة 1973م بشأن استرداد جميع الأراضي الزراعية والعقارات الموقوفة التي سبق أن تسلمتها هيئة الإصلاح والمجالس المحلية. وقضى هذا القانون بردها مرة أخرى إلى وزارة الأوقاف لتديرها عن طريق «هيئة الأوقاف المصرية» وحدها، وتستثمر أموالها حتى «توفر الدعم المالي لحركة الدعوة الإسلامية، ورعاية شروط الواقفين»؛ كان كل ذلك يعني: أن تظهر سلطة الحكم بمظهر الحريص على «مال الله»، وأنها جادة في استرداده من الذين بددوه، ومن مغتصبيه الذين سرقوه في عهد مراكز القوى.

وبالنسبة
للسلطة –أيضاً- ومن زاوية سعيها لإعادة توجيه الاقتصاد الوطني وتحويله من النظام
الاشتراكي وهيمنة القطاع العام إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي وتشجيع الاستثمارات
الخاصة؛ فإن نشأة هيئة الأوقاف المصرية في سنة 1971م قد رمزت إلى هذا التحول
مبكراً؛ إذ كانت أول هيئة استثمارية كبرى أنشأتها الدولة آنذاك خارج هيمنة القطاع
العام وخارج نظام الاقتصاد الموجه، وعلى خلاف نظم المؤسسات العامة والهيئات الحكومية
الموروثة عن حقبة الخمسينيات والستينيات. صحيح أن هيئة الأوقاف المصرية بعد أن
شرعت في جمع أموال الأوقاف المبعثرة، ولكنها لم تخرجها عن سيطرة الدولة. بيد أن
هذا الوضع كان أفضل بكثير مقارنة بما كان عليه حال الأوقاف في الستينيات.

ومما يؤكد ذلك: أن هيئة الأوقاف أخذت صفة الكيان الاقتصادي البحت، بهدف إدارة أموال وممتلكات الأوقاف واستثمارها والتصرف فيها بما يحقق لها أكبر عائد ممكن «على أسس اقتصادية» دون التقيد بالروتين الحكومي باعتبارها أموالاً خاصة، حسب ما ورد في قانون إنشائها، كما أن الهيئة قامت أيضاً على أساس «مبدأ اللا مركزية» في تصريف شئونها الإدارية والمالية، مع استقلالها بميزانية خاصة غير مدمجة في الميزانية العامة للدولة، ويتقاضى موظفوها وعمالها مرتباتهم وأجورهم من حصيلة إيراداتها من ريع الأعيان الموقوفة التي تديرها وتقوم باستثمار أموالها.

أمّا
أهم ما تحقق لنظام الأوقاف من بعد إنشاء هيئة الأوقاف المصرية في السياق الذي نشأت
فيه فهو: إلزام المجالس المحلية وهيئة الإصلاح الزراعي برد ما سبق أن سلمته إليها
وزارة الأوقاف من الأراضي الزراعية والعقارات الموقوفة، وذلك بنصوص قانونية قاطعة.
فبالنسبة للمجالس المحلية، قضت المادتان 19 و20 من القرار الجمهوري الصادر برقم
1141 لسنة 1972م بشأن تنظيم العمل بهيئة الأوقاف المصرية بأن تُسلِّم تلك المجالس
إلى هذه الهيئة جميع العقارات والأراضي الزراعية الموقوفة التي تقع داخل نطاق
المدن، وهي التي سبق أن تسلمتها بموجب أحكام القانون 44 لسنة 1962م، على أن تؤول
إلى هيئة الأوقاف جميع العقارات والمنشآت التي أقامتها المجالس المحلية أو اشترتها
من مال البدل الخاص بالأوقاف.

وبناء
على ذلك استردت هيئة الأوقاف عديداً من العقارات المشار إليها، ومنها مثلاً مساحة:
640 فداناً داخل نطاق مدينة دمياط وحدها، و83 فداناً داخل مدينة الإسكندرية وحدها،
بما عليها من المنشآت والمباني… إلخ. ولكن اتضح أن المجالس المحلية قد ارتكبت
العديد من المخالفات في إدارتها للأوقاف التي تسلمتها في السابق، وتسببت في ضياع
كثير منها وطمس معالمه واغتصابه.

ومن
ذلك: أن تلك المجالس قامت بإنشاء عمارات سكنية على بعض أراضي الأوقاف دون سداد
ثمنها للوزارة، ومنحت بعضها الآخر لعدد من الوزارات والمصالح الحكومية والهيئات
العامة لإقامة منشآت خاصة لتلك المصالح والهيئات دون سداد ثمنها، ودون تحرير عقود
إيجار أو الارتباط معها بقيمة إيجارية محددة مقابل الانتفاع بها، بالمخالفة لأحكام
القانون رقم 44 لسنة 1962م.

واتضح
أيضاً أن معظم تلك الجهات، بما فيها المجالس المحلية، مديونة بمبالغ كبيرة لوزارة
الأوقاف، وقد استردت الوزارة منها 80 مليون جنيه من سنة 1973م حتى سنة 1983م.
وكانت أهم تلك الجهات المديونة هي وزارات: التعليم، والصحة، والداخلية، والشئون
الاجتماعية وغيرها.

وأما
بالنسبة للأراضي التي استولى عليها الإصلاح الزراعي، فقد صدر القانون 42 لسنة
1973م وقضى بأن تسترد وزارة الأوقاف جميع الأراضي الموقوفة لدى هيئة الإصلاح، وأن
يتم تقدير قيمة الأراضي التي تصرفت فيها بتمليكها لصغار المزارعين لتقوم الدولة
بدفعها نقداً لهيئة الأوقاف. وأن توضع جميع الأراضي والأموال المستردة تحت إدارة
هيئة الأوقاف لتقوم باستثمارها نيابة عن وزارة الأوقاف، ولتقوم أيضاً بتسليمها
الريع السنوي لتتولى الوزارة «صرفه طبقاً لشروط الواقفين».

وتنفيذاً لهذا القانون، قامت هيئة الإصلاح في سنة 1973م برد ما لديها من أراضي الأوقاف على دفعات متتالية. وقد ثبت أن هيئة الإصلاح باعت من أطيان البر العام والخاص مساحة قدرها واحد وستون ألف فدان وتسعمائة وسبعة وثلاثون فداناً و2 قيراط و12 سهماً، وملَّكت هيئة الإصلاح أيضاً تلك المساحة للمزارعين طبقاً لقوانين الإصلاح الزراعي، ومن ثَمَّ أصبحت مديونة (نظرياً، أو على الورق) لوزارة الأوقاف بثمن تلك المساحة، طبقاً لما نصت عليه المادة الثالثة من قانون الرد رقم 42 لسنة 1973م.

كسبت
الأوقاف أيضاً قيام هيئة الأوقاف بالسعي لاسترداد أعيان الأوقاف المغصوبة، أو
المستولى عليها بدون وجه حق في الخمسينيات والستينيات، وخاصة في الفترة التي تولت
فيها المجالس المحلية إدارة الأعيان الموقوفة الواقعة في نطاق المدن منذ سنة
1962م، وتصرفت فيها على أنها «مال سائب»، على حد ما ورد في الكتاب الصادر عن هيئة
الأوقاف المصرية نفسها في سنة 1974م.

وبموجب الصلاحيات التي خوّلها القانون لهيئة الأوقاف، قامت الهيئة بتشكيل لجان متخصصة لرد الأعيان المغصوبة، وأعلنت عن مكافآت تشجيعية تصل إلى 5% من قيمة العين المغصوبة؛ تُعطى لمن يرشد عنها. وخلال عامي 1973 و1974م، فقط، تلقت الهيئة 960 بلاغاً بهذا الشأن، وبناء على التحقيق في 100 بلاغ منها فقط استردت في سنة 1974م أعياناً موقوفة قيمتها 1.848.774 جنيهاً بأسعار منتصف السبعينيات.

ونظراً لكثرة المنازعات القضائية الناجمة عن عملية استرداد أعيان الأوقاف من غاصبيها، فقد عمدت هيئة الأوقاف منذ منتصف التسعينيات إلى سياسة التصالح مع واضعي اليد على تلك الأعيان، مع وضع شروط تضمن حقوق جميع الأطراف. وتشير ملفات أعمال «لجنة التصالح» التي تشكلت لهذا الغرض، إلى استمرار وجود كثير من ممتلكات الأوقاف الخيرية تحت وضع يد عديد من الجهات الحكومية والشركات العامة والخاصة والأفراد، بمختلف أنحاء البلاد، الأمر الذي يوضح ضخامة حجم الكارثة التي حلت بالأوقاف أثناء إدارتها عن طريق هيئة الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية، ويوضح أيضاً البطء في عملية الاسترداد وطول إجراءاتها.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.