وقفَ، في منتصفِ الطّريقِ، بقلبٍ مُتَحيرٍ مُدمى. كانت هواجسهُ تنوسُ بين حدودٍ حسيّةٍ مُبهمةٍ ومختلطةٍ، يمدُّ خطوةً ويؤخِّر أخرى. توالدت حولـهُ المسالكُ والدروبُ، وتناسلت الطرقُ داخلهُ كغيبٍ مستفحلٍ. يممَ وجههُ شطرَ الــرّيحِ، لاحت الصّورة بيضاءَ كحلمٍ هاجسَ الـنّفس في ليلٍ داجٍ ثم امّحى. لـم يستطع دَرْكَ حقيقة الـملامحِ المرتسمةِ بخفوتٍ مــراوغٍ، ركضَ نحوها ملثاثَ الخيالِ. كلّ موضعٍ تطَـؤُهُ قدماهُ يستحيلُ حجرًا أسودَ.

الناظرُ إلى الطريقِ المقطوعِ ركضًا يُبْصرُ بُقَعًا سوداءَ، يشكّل جمّاع خطوطها ضمًّا وجهًا يبكي. حين أدرك مكانَ الصّورة لـم يجدها. وجد مكانها قطعةَ حجرٍ أبيضَ، مربّعة الشّكل، مصقولةً بمهارة فذّة. تفرّس سطح الحجر الصقيل ببراءة طفل لم يفقد إحساسه البكر بالعالم الحائم حوله. على السّطح كانت ملامح ثلاثة وجوهٍ تتداخلُ، تندغمُ، وتتعانقُ ثم تفترقُ لتنتفي كُليًّا. رفعَ عينيه إلى الجدار المنتصبِ يَسَارَهُ. لحظَ امتدادًا فسيفسائيًا منقوصًا قطعةً واحدةً، خمّن أنها تلك المصقولة بين يديه. تطاولَ على حوافِ قدميه، ألصق القطعة في موطن النقص المفتَضَحِ. حينَ استقرّ متزنًا على تمام قدميه اشتعلت الصّور في الدّاخل والخارج.

بمحاذاة كلّ حجرٍ أسودَ تبدّى، بغتةً، حجرٌ أبيضُ ينفث جلال البياضِ على تخوم السوادِ. وكأنّ الطّريق شاهدٌ، خفاءً، على مرور لا مرئيّ لِبُعْدٍ من أبعادِ الحقيقة الأخرى؛ تلك التي لا تدركُ بالحواسِ. والغريبُ أنّ امتدادَ الأسودِ والأبيضِ متخاصرين بدَا لا متناهيًا. كانَ، في هذه اللحظة، نهبَ صورٍ غائمةٍ تتذابحُ داخلهُ. وكأنّها تحاول الإيحاء بعلامةٍ ما، بمعنى ما، برسمٍ ما. بِيدَ أنّــه كان عاجزًا عن فهم كناية الشّكل ومجاز اللون. كلّ صورةٍ كنايةٌ ومجازٌ. كل صورةٍ غيابٌ متأبّد الحضور. فتحَ عينيه بوجلٍ. مدّ بصره عموديًا متتبعًا سمتَ الآثار المعلنةِ ثنائيةَ اللونِ: أسودُ؛ أصلُ الحقائقِ مُذ الحقيقة وليدةُ الهيولى. وأبيضُ؛ إعلانُ الانبثاقِ ظهورًا من السّديم الأوّل الحاضن للثالوث الراسخ: ننماخ وآبسو وممو. أغمض عينيه وركض كالنبيّ يونان حين صعقته يد الوحي.

لم يتوقف عن الركض مُغْمَضَ العينين، ناست قدماه بين الأبيض والأسود. لم يكن يحيد عن مواضع اللونين تَتَاليًا بانتظامٍ محسوب. كان يرى الخارج بمرآة الدّاخل. وكانت الصورُ تنتفض في طواياه بجنون لاهبٍ: رآها، في الظّلام، تسألُ، بارتباكٍ موجعٍ، عن اللغة والظّلال… رآها، في المنام، تقلّب صور الاحتمال… رآها، في الغمام، تومئ بعينين محرورتين: لا أحبّ حضورك، فَلَكَ اليقين مؤكدًا بالحضور. أستعذب غيابكَ، فلي منكَ -غيابًا- الصورُ المشتهاة.

هالتهُ الصورُ المتفجّرة داخلهُ، لــم يكن يبصرها في الزّمن القديم. كلّ صورةٍ تنكأ الآن جرحًا غافيًا، كلّ جرحٍ لن يندمل قطعًا. وتَنْدَلِقُ الجروحُ بالحميم: عن كلّ أملٍ تخليتَ أنت المتجهُ إلى الجحيم. فهاكَ يا قلب… وهاكِ يا روح… وجالد يا أمل… ومت بقلبٍ كسيرٍ. حين فتحَ عينيه، دامعًا، وجدَ، على بُعد شبر من أنفه، جدارًا منتصبًا، وتحت قدمه اليُسرى، ست قطع حجريةٍ سوداءَ ولوحة مرصّعة على الحائط مبتورة الكمال.

انحنى ليلتقطَ القطعَ السّوداء. كانت قطعًا متشابهةً قياسًا وحجمًا وشكلًا وَلَـونًا. أمعن النّظر مُقتفيًا الفارقَ بينها، عبثًا حاولَ. تشاكلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مشاكلةً مُطلقة. وكأنها الأَصل يُطابق أصلهُ. حدّق في اللّـوحة المرصّعة على الجدارِ منقوصةَ البهاءِ. تَنقصها ثلاثُ قطعٍ ليكتملَ تشكيلُ فسيفسائها ويتبدى مَعْنَاهَا. وضع القطعَ المصقولة على الأرضِ، ثمّ طَفقَ يقتنصُ مراتبَ الاختلافِ. لا اختلاف يكشفُ سرّه للعينِ. تحيّر معدنُ التقدير في عقلهِ المتهافتِ. دارت به الأرض، في ثانيةٍ، دورتين. ارتجّ السؤال داخله: أين الطريق؟ أومض ذهنه مجيبًا: لا طريق في الطريق. استقام متجاسرًا. أغمض عينيه. رمى الأحجار عاليًا على غرار لاعبي النّرد. التقط الثلاثة التي حاذت قدمه اليسرى. ثبّتها، بارتباكٍ، على الفراغ المنتقِصِ مهابة اللوحة. فعبرَ ذهنَه شريطُ صورٍ مغبّشة لفتاة تراقص نجمةً في الأفق البعيد.

كانت تغني بصوت رخيمٍ غناءً عن حلم بعيدٍ، عن شابٍ يشبه كلامه ولا يشبه شيئًا آخر. رآها تسأل: أهو وحيدٌ بعيدٌ أم ثنائيٌّ شريدٌ؟ وهــل يراني كما أراه أم أصابه العمى العنيد؟ أيكون لقاؤنا في يقين الأرض أم في غيب السّماء؟ بدت، تخيُّلاً، فتاة من وردٍ وحبّ وجمالٍ بحريّ لطيفٍ. لــم يتبين حروف وجهها في ضباب ذهنه. لكنّه كان يستشعر معناها داخله على نحوٍ ماحقٍ. سألها وصورتها تتخافت في مخيلته: ما اسمكِ سيدتي؟ أجابته في الخطف الأخير: اسمي؟ أنت تعرفه جيدًا. بدايته الحرف العشرون في أبجديات الأوائل. نهايته أُلْفَةٌ تزيحُ الغمّ عن الكئيب والوليد. ساحت الاستعارات والمجازات في وديان دمه المتدفقِ بحرارة أهل الجبل. تذكر إشراقات «يمّاه» فاطنة، حين كان يرافقها إلى الجبل لاستجلاب التين والزعتر البريّ. كانت تقول بحكمةِ الأمّ الأولى: يا بني لا تمنح قلبكَ إلا لغجرية حرّة تعبد السّماء وتعشق النجوم. تلك لغتك. ستفهمك وتفهمها. لم يفهم، حينها، رسالة الجدّة.

حين انقطع دَفْقُ الصور في ذهنه فتح عينيه على مشهدٍ غريبٍ. عن يساره تمتدّ ثلاثة طرقٍ مبلطةٌ بحجارة سوداءَ. وعن يمنيه تنزلق ثلاثة طرقٍ مبلطةٌ بحجارة بيضاءَ. وهو بين الاحتمالين نائسٌ كبندولٍ ساعةٍ قديمةٍ لا يعرف وجهة ولا يحوز فكرةً. أقعى أرضًا، حكّ رأسهُ فتساقطت، على ياقة قميصه، ثلاث شعرات بيضاوات. عجب لأمرِ شَيبه وهو في شرخ الشباب لا يزال. قدّر، والحالُ هذهِ، أنّ الشعرات البيضاوات علامةٌ على الطرق التي يتعين سلوكها. لكن أيّ طريق سيختارُ من بين الطرق الثلاث؟ رمقَ حبلًا أسودَ عن يسارهِ فالتمع في خاطره هاجسُ شنقِ الحياةِ في نوابضِ جسدهِ وإسلامُ الرّوح لباريها. أعادَ التفكيرَ: ألا تستحقّ الحياةُ أن تُعاشَ؟ ألا يثوي خلفَ كلّ هذه المظاهر معنى ما؟ استجمعَ شتاتَ أفكاره، استنفر قواهُ النائمةَ. اتجهَ نحو الطريق الوسطى مهتديًا بعينِ قلبهِ. قالَ بنبرٍ متهدجٍ: هــي ذي الـطريق؛ طريقي.

كانت الطريقُ تمشي، عَكْسِيًا، تحت قَـــدميه. مُغْمَضَ العينين اعتقدَ أنــه يدنو من قدرهِ فأسرعَ الخطو. خُيّل إليه أنّ صوتًا ما يناديه من بئرٍ عميقةٍ تربضُ تحته. لـم يلقِ بالًا للصوت المنبّه. استأنفَ المشيَ هرولةً. تناهت إليه، هذه المرّة، نبرةُ الصوتِ عاليةً: «لن تتقدّم ما دامَ في قلبكِ كبريتٌ وبارودٌ وغضبٌ. لن ترى ما يُوجَدُ أمامكَ، قطعًا، لأنّك لا ترى. والرمادُ هو الرمادُ: مصيرُ كلّ ما تَقربهُ ويَقْربكَ».

فتحَ عينيه متوجسًا، ذُهلَ، صُعق، لـم يفارق مبتدأ الطريقِ. كان يقفُ حيثُ اعتزمَ الانطلاق. أجالَ ناظريه في الآفاق الــمدلهمة حوله. كل ما تقعُ عليه عيناهُ يصيرُ حجرًا: هل تشاطرني «مِيدُوسَا» ثقوبَ الــرؤيةِ؟

خمّن مفجوعًا. ثم استطردَ: أكلّــما اعتزمتُ الـوصولَ ضِعْتُ داخلي وتعقدت سُبلي؟ أكلّما تبدّى الطّريق إلــى السّماءِ أسفرَت الأرضُ عن تيهٍ لولبيّ وتفشى العماءُ في الأناشيد والصلواتِ؟ أأنا الطّريدُ أم الشريدُ؟

أحسّ بشيء ناتئٍ يَــخِزُ جنبهُ الأيمنَ، التفتَ متحققًا سببَ الوخزِ. وجدَ ثلاثَ قطعٍ حجرية سوداءَ رُفقةَ ورقةٍ بيضاءَ مطوية بدقةٍ. فتحَ الورقةَ بذهن مشوشٍ، كـانَ الحبرُ يسيلُ ماحيًا مضمونَ الرسـالة. شرعَ يقرأُ الرسالة بسرعةٍ كَاتبًا مضمونها على الأرضِ بقطعةٍ من الحجرِ الأسودِ:

إلى الظّل الأسودِ؛

من البُعد الآخر لظلّك

أكتبُ إلـيكَ بحرفٍ أسودَ لأبثكَ بياضي. لأبدِّد سوادكَ أنت التائهُ داخلك. الباحثُ عن ضياعكَ. كلّ الطرقِ إليكَ أسفرت عن خارجٍ لا خارجَ لـهُ. أما كنتَ تبصرُ غناءَ الطير في عينيَّ؟ أما كان قلبُك يخبركَ بصفاءِ عاطفتي؟ كنتُ أراكَ أكبرَ من قمرٍ وأعلى من سماءٍ. اِقْتَرب لأهمسَ في أُذنكَ: لِــمَ سوّدت آفاقكَ. أنت رمادٌ رماد. وقَدَرُكَ أن تمكث في الظلام. أَنْتَ في وحدتِكَ كون مزدحمٌ بالحرائقِ. لن أسألك عن المصائر. فكلّ من ستحبّك لن تنالَ منكَ إلا السوادَ. أنتَ ممتلئٌ بسوادِكَ. مصيركَ الظلالُ عقيدةً، ومُوئلكَ الليلُ حقيقةً. فاخرج من ظلالك الشائهة قبل أن تقتلك الظلال؛

تبًا لكَ…

كانت الــدّموعُ تهمي من عينيهِ دَفّاقةً. اختلطت بالحبر السّائلِ والخطوطِ الناتئة على الترابِ بفعلِ سحجِ الحجر الأسودِ. انتصبَ واقفًا ثم صرخَ. فلتكن الأرضُ تحتي جُبًّا: فكانت جُبًّا. فلتكن الهاويةُ فراغًا: فكانت فراغًا. ألقى نَفْسَهُ في الجبّ/ الحفرةِ/ الهاويةِ واختفى عن المجالِ والعمقِ والمنظور.

مشهدٌ أخير التقطته عيون الفضاءِ: ألفُ طريقٍ سوداءَ، ألفُ طريقٍ بيضاء، جسورٌ حجريةٌ متداخلةٌ. جدرانٌ ملتويةٌ، جدرانٌ متطاولةٌ، جدرانٌ صماءُ، وحفرةٌ لا قرارة لها.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.