قبل الاستطراد، علينا أن نُميِّز ها هنا بين المسائل التطبيقية للحرية في «الفقه»، وهي موضوع هذا المقال، ومقال آخر، وبين المبادئ النظرية للحرية في أصول الفقه التي ستكون موضوعًا لمقالات لاحقة إن شاء الله تعالى.(1)

وعلينا أن نتذكر -قبل هذا وذاك- معنى الحرية الذي انتهينا إليه من النظر في أصول الدين وعلم الكلام، وخلاصته أن الحرية تعني إجمالًا: القدرةَ على الاعتراض، والقدرة على الاختيارِ، وخلوص النفس من سيطرة الغير. أو بتعبير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «الحرية هي استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم» (مقاصد الشريعة الإسلامية، ص139). ويشمل هذا المعنى حريات: التفكير، والتعبير، والاعتقاد، والتملك، والعمل، والتنقل، والإقامة، وأن يؤدي الفرد ما عليه من واجبات، ويتمتع بالحقوق التي تقتضيها تلك الحريات.

بإجالة النظر في عموم
أبوابِ الفقه بمذاهبه المتعددة، يتبينَ باديَ الرأيِ أن الحريةَ لها نظريتان:
الأولى نظرية عامة تتجمع فيها القواسم المشتركة بين المذاهب المختلفة في مسألة.
والثانية نظرية فرعية؛ ويختص كل مذهب -أو أكثر من مذهب- بنظرية خاصة تمتاز عن غيرها
من النظريات الفرعية في بعض المسائل وبعض الاجتهادات. وقد تبين لي أن الحريةَ
بمعانيها المتعددة شائعةٌ، بل وجدتُها سارحة ومارحة في أغلب المسائل التي تناولها
الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، وتباين اجتهاداتهم. ويحتاج الأمرُ إلى قليل من
التأمل في معاني ألفاظهم، وإلى كثير من الجهد لإماطة الأستار عن لبابِ عباراتهم.

من المسائل التطبيقية للحرية في الفقه، نجدُ على سبيل المثال لا الحصر: «مسألة العتق من الرق». وكثيرًا ما وجّه قليلو المعرفة سهامَ نقدهم لمنهجية الإسلام في معالجة مسألة «الرق»، واعتبروها دليلًا على إهدار حقوق الإنسان وحرياته الأصيلة كونه لم يجتثها دفعة واحدة وإنما دعا للتخلص منها تدريجيًا. ويقول أمثلهم طريقةً: إن مقصد عتق الرقاب في الرؤية الإسلامية تعبيرٌ سلبي عن الحرية، وليس أمرًا وجوبيًا ولا إيجابيًا لنبذ الاسترقاق أو لتحريم الاستعباد، وأن الأمرَ لا يحمل أي مضامين أخرى تتعلق بالحريات الأساسية للإنسان التي يتحدث عنها العالم المعاصر، وبخاصة حرية التعبير، وحرية التفكير، وحرية الاعتقاد. وما أبعد تلك الآراء عن حقيقة مفهوم «العتق» ودلالته على رحابة معنى الحرية واتساعه وعمقه الإنساني في الفقه الإسلامي.

لقد ذهب السادة الأحناف -مثلًا وستكون لنا عودة لغيرهم من قدماء علماء المذاهب الأخرى: المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية… إلخ- إلى أن الإنسان يدركُ حريته عندما تجتمع له «حرية الرقبة» و«حرية اليد»(2). وبما أن «المُكاتَب» يملكُ حرية اليدِ دون حريةِ الرقبة فهو ناقصُ الحرية. وقالوا: إن حرية الرقبة لا تثبت منفصلة عن حرية اليد. وقد صرح أولئك الأحناف بشأنِ عقد المكاتبة أنه: عقدٌ يدمج حرية اليد مع حرية الرقبة في اللحظة التي يصبح فيها المكاتب حرًا. قال الزيلعي في «باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله»: «للمكاتب البيع والشراء والسفر، لأن مقصود السيد من العقد الوصول إلى بدل الكتابة، ومقصود العبد منه الوصول إلى الحرية» (الزيلعي 1313هـ: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 5\156).

ويكشفُ هذا النص عن
وعي الفقيه الحنفي بحرية التنقل والبيع والشراء باعتبارها من الأركان المادية
المؤسِّسةِ لمفهوم «الحرية». ونقرأ عند بدر الدين العيني الحنفي، أن:

الحرية عبارة عن الخلوص… وفي الشرع: الحرية خلوص حُكمي يظهر في الآدمي بانقطاع حق الأغيار عن نفسه، وإثبات هذا الوصف الحُكمي يُسمَّى إعتاقًا وتحريرًا. ومن محاسنه أنه إحياءٌ حكميٌ يُخرج العبدَ عن كونه ملحقًا بالجمادات إلى كونه أهلًا للكرامات البشرية؛ من قبول الشهادة والولاية والقضاء، ثم الإعتاق تصرف مندوب إليه.





(بدر الدين العيني الحنفي: كتاب البناية شرح الهداية، طبعة 2000م، 6\4).

وتتجلى في النص السابق أصالةُ حرية التعبير والتفكير التي أشار إليها بقوله: إن التحرير «إحياءٌ حكميٌ» وهذا الإحياء يجعل المحرر أهلاً للكرامات البشرية، وحريات التفكير والتعبير والاعتقاد من أهم عناصر تلك الكرامات، وفي هذا تأسيس للأصول المعنوية للحرية بشيء من التفصيل. أمّا ابن الهمام فقد قرر أنه:

يجوز للمكاتب البيع والشراء والسفر؛ لأن موجب الكتابة أن يصير حرًا يدًا؛ وذلك بمالكية التصرف مستبدًا به تصرفًا يوصله إلى مقصوده وهو نيل الحرية بأداء البدل.





(الكمال بن الهمام الحنفي، فتح القدير، د.ت، 9\171).

وذكر السادة الأحناف أمثلة أخرى كثيرة العدد تشرح مدى حرصهم ألّا يتم التلاعب بفصل حرية الرقبة عن تطبيقاتها العملية، فلو شرط المولى في العقد شرطًا يقيد حرية المكاتب في التنقل والسفر كأن لا يسافر خارج بلده إلا بإذنه، فهذا «شرط يخالف موجب العقد، وهو حرية اليد والتفرد بالتصرف»، لأن «مالكية اليد تثبت له حق الاستبداد بالخروج إلى حيث شاء». وقال شمس الأئمة في المبسوط «الحرية لا تحتمل النقض والفسخ» (السرخسي الحنفي، المبسوط، 1993، 7/172).(3)

يتجلى الوعيُ بتعدد
أبعاد الحرية وشموليتها في مطارحات فقهاء مختلف المذاهب ومناقشاتهم -وليس الأحناف
وحدهم- بشأن ما يترتب على العتق وحصول الحرية. وتظهر لنا في تلك المطارحات معاني
الحرية الواسعة التي تحصل بفعل الإعتاق، كما تتجلى في مقابلها معاني الحرية
المعيارية التي من المفترض أن يكون الأحرار متمتعين بها، وهي التي تقاس عليها تلك
الحريات الناشئة عن الإعتاق في سياقاتها الاجتاعية والتاريخية. ويغلب على تلك
الحريات الطابع الإجرائي التطبيقي في الممارسة الاجتماعية والتاريخية، ومنها: حق
التملك، والزواج، واختيار الزوج، والتجارة، والبيع، والشراء، والإجارة، وتحديد
مكان الإقامة، والسفر، والتنقل، واختيار العمل، والشهادة، وتولي الولايات العامة،
والقضاء (عبد الله عتر، مفهوم الحرية في الفقه الحنفي، Journa of Islamic Ethics, July
2021).

لقد تطارح قدماء العلماء بإسهاب حول التفاصيل الفرعية لمفهوم الحرية، وبخاصة بعد بيان معناها في مستهل أبواب الأهلية من كتب الأصول، وفي بدايات أبواب العتق من كتب الفقه. ويرى عبد الله عتر أن تلك المطارحات تعني أننا أمام مقاربة عملية اجتماعية للحرية، وأننا إزاء حريات عملية لا حرية رقبة فحسب، وأن للحرية في سياقها الفقهي مغزى سياسيًا متعلقًا بتولي الولايات والقضاء والمناصب العامة، وإلا فما معنى أن يقدموا تلك الشروحات والتوضيحات المستفيضة لما تعنيه «الحرية» بالنسبة لهم؟

ولعل هذا هو من نتائج التفكير التشريعي المبني على «النسق المفتوح لمفهوم الحرية» في الرؤية الإسلامية، وهو نسقٌ يعرف الفصل بين حرية الرقبة ومتعلقاتها العملية في حياة الناس، فهي ليست مجرد «حرية ذات» في فراغ، وليس هذا شأن الفقه الذي ضبط موضوعه بأفعال العباد والأحكام العملية؛ أي أننا نتحدث عن «حريات» منبثَّة في سياقات وميادين الحياة بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

ومعلوم أن الاجتهادات
الفقهية قد اتجهت منذ بدايات نشأتها في القرون الهجرية الأولى -في مجملها- نحو
محاصرة أبواب الدخول في الرق والعبودية، وتكثير أسباب إنهائه، وتخفيفِ آثارِ وجوده
بتعديل تصرف المالكين في عبيدهم وضبطها ضبطًا مُحكمًا، وتوسيعِ أبواب الخروج منه
وتكثيرها، وربطها بفرائض التضامن الاجتماعي، وبمقدمتها فريضة الزكاة؛ حيث نصَّ
الشارع على أن من مصارفها عتقُ الرقاب، كما جعل الشارع «العتقَ»، أو «تحرير»
الرقبة، من وجوه «الكفارات» الواجبة في قتل الخطأ، وفي فطر رمضان عمدًا، وفي الظِّهار،
وحنثِ الأيمان.

وأمر الشارع أيضًا بمكاتبة العبيد إن طلبوا ذلك، قال تعالى: «والذين يبتغون الكتابَ مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا» (النور: من الآية 33). وقال تعالى: «فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة» (البلد:11). وذهب الفقهاء أيضًا إلى أن من أعتق جزءًا له في عبدٍ قُوِّمَ عليه نصيب شريكه فدفعه وعتق العبد كله وصار حرًا، ومن أولد أمته صارت كالحرة؛ فليس له بيعها ولا هبتها ولا له عليها خدمة، ولا غلة، وتعتق من رأس ماله بعد وفاته.

هذا النزوع الهائل إلى
الحرية الذي نلفاه مُتسعًا على الدوام في أبواب الفقه؛ نجده في أبواب مختلفة من كتب
الحديث النبوي، ومنها باب، أو كتاب «العتق»، الذي أشبعه الفقهاء درسًا ومُدارسة.
وقد يظن سريعُ النظر أن معنى العتقَ ومقصوده في سياق هذا الباب من كتب الحديث
النبوي هو حريةُ شخص من الرق، أو من عبوديته لشخص آخر فحسب، وقد أسلفنا كيف أن
النظر الفقهي العام، والمذهبي الخاص يربط الحرية بمختلف أبعاد الحياة الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية والفكرية.

إن إدامةَ النظر
وإنْعامَه في هذا الباب يكشفُ عن اتساع المعنى المقصود وشموله أيضًا لكل ما فيه
اختيار للإنسان. ولنأخذ مثلًا على ذلك مما ورد في «كتاب العتق» في شرح النووي
لصحيح مسلم بن الحجاج القشيري. فقد ورد فيه:

قالَ أهل اللغة: العتقُ الحريةُ. وإنما قيل لمن أعتق نسمة إنه أعتقَ رقبة، وفك رقبة؛ فخُصَّت الرقبة دون سائر الأعضاء، مع أن العتقَ يتناول الجميعَ؛ لأن حكمَ السيد عليه وملكه كحبلٍ في رقبة العبد، وكالغل المانع من الخروج، فإذا أُعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك. والله أعلم.





(صحيح مسلم بشرح النووي، ج/10 ــ ص135).

وورد في شرح النووي
أيضًا أنه:

من أعتقَ نصيبه من عبد مشترك، قُوِّمَ عليه باقيه إذا كان مُوسرًا بقيمة عدلٍ؛ سواء كان العبد مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا أو أمة. ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد، ولا للمعتق، بل ينفذُ هذا الحكم، وإن كرِهَه كلُّهم مراعاة لحق الله تعالى في الحرية.





(صحيح مسلم بشرح النووي، ج/10 ــ ص137).

وفي موضعٍ آخر من كتاب
العتق أيضًا ورد أن:

المكاتب إذا أدَّى نصفَ المال صار حرًا، ويصير الباقي دينًا عليه.





(المرجع السابق نفسه، ص142).

واضح من هذه النصوص أن المقصود بالعتق أوسع بكثير من مجرد تحرير العبد من تبعيته لسيده؛ وأن المقصود هو أن يصل إلى مستوى الولاية على نفسه: في الاختيار، والتقرير، والتفكير، والتعبير، والسفر والتنقل، والتملك، والولاية، والشهادة، وغير ذلك من مظاهر الحرية. وحديثنا مستطرد عن الحرية ومعانيها العملية في الفقه ومذاهبه، ومن بعد ذلك في أصوله إن شاء الله.

(1) وسبق أن عالجنا مفهوم الحرية وبخاصة في علاقته بالشورى والإجماع من جهة، والاستبداد من جهة أخرى، وذلك في أكثر من مناسبة: منها بحث “أصول المجال العام وتحولاته ـ يناير 2009م المجلة القومية الاجتماعية ـ وكتابنا: إدراك المصالح الكبرى للأمة، طبعة مؤسسة الفرقان بلندن 2017م وفيه انتهينا إلى أن الحرية مصلحة بالمعنى الفقهي وشروطه، وكذلك كتابنا: ميراث الاستبداد، طبعة 2018، ومحاضرتنا في إبريل 2021م بكلية أصول الدين بتطوان المغرب بعنوان : سؤال الحرية وأصولها في الاجتماع الإسلامي، وغير ذلك من المقالات المنشورة خلال أعوام 2018، و2019، و2020، و2021، ومحاضراتنا الجامعية غير المنشورة في الموضوع ذاته لطلبة الدراسات العليا من 2009 ــ 2019م، ولا تزال قيد التحقيق والتحرير. (تمت إضافة هذا الهامش في ٣٠ أبريل ٢٠٢٢)

(2) عبد الله عتر، مفهوم الحرية في الفقه الحنفي، (Journal of Islamic Ethics ,17 July 2021). (تمت إضافة الهامش في ٣٠ أبريل ٢٠٢٢)

(3) المرجع السابق. (تمت إضافة الهامش في ٣٠ أبريل ٢٠٢٢)



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.