مثلما لا يمكننا اعتبار ما بعد اللغة غير لغة أخرى تحمل مجانسة تواصلية منبثقة عن اللغة الأم، وكما لا يمكننا أيضاً اعتبار ما بعد الفلسفة إلا فلسفة أخرى انبثقت عن الفلسفة الأم بالمجانسة اللغوية أيضاً. لذا نجد غريباً من سبينوزا إدخاله الجوهر في نفق ميتافيزيقا مذهب وحدة الوجود، مُعتبراً الجوهر سابقاً الوجود وليس ناتجاً عنه، والجوهر لا يُدرَك ولا يحتاج تصور من أي نوع له.

لا نجانب الصواب أبداً أن نصف تعبير سبينوزا حول الجوهر بأنه يشبه تعبيرات «مارتن هيدجر» حول العدم، بمعنى الحديث عن مواصفات شيء لا تدركه حسياً ولا تعرف عقلياً أنه موجود. ولكن بدلالته الميتافيزيقية عند سبينوزا ندرك الوجود كما سيتوضح معنا أكثر لاحقاً.

جواهر الأشياء صفات إلهية

يصف سبينوزا
الجوهر بهذه العبارة:

الجوهر في الأشياء هو ما يوجد في ذاته، ويُتصور بذاته، أي هو ما لا يحتاج تكوين تصور له إلى تصور شيء آخر، ولا يمكن للجوهر أن يكون إلا واحداً. [1]

كما يعتبر سبينوزا «الجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر، ومعنى الانتماء إلى طبيعة الجوهر أنه ليس شيئاً اكتسبه الجوهر من الخارج، أي أن الجوهر ليس مخلوقاً». [2] ويعتبر سبينوزا الجوهر لا متناهياً كما أنه أزلي، بمعنى هو الوجود ذاته، ويجعل من الوجود مرادفاً للحقيقة الأزلية التي لا يمكن تصورها من خلال الزمان. [3]

وهنا نجد
من الضروري ذكر بعض التعقيبات:

  1. كيف يكون الجوهر ماثلاً في الأشياء ونفتقد كل تصور عنه وله؟ كيف يكون الجوهر مرادفاً للوجود وهو غير قابل لإدراكه؟ ما هو المعيار التصوري الذي يجعلنا ندرك الجوهر حدساً بمواصفات ميتافيزيقية لا يمكن إدراكها عقلياً، كما لا يمكن الاستدلال المعرفي بها على غيرها؟ سبينوزا أدخل الجوهر في نفق ميتافيزيقا وحدة الوجود ولم يخرجه منها، لأنه كما أدخل «لا شيء» يمكن إدراكه في مجانسة ميتافيزيقية، فهو أصبح لا يستطيع استنباط أي شيء من «لا شيء» ميتافيزيقي أيضاً. فسبينوزا لم يكتفِ بتعامله مع تجريد فلسفي وحسب، بل تعامل مع تجريد ميتافيزيقي أشمل خارج مدركات العقل للوجود. كانط كذلك تجاوز هذه الإشكالية العدمية الميتافيزيقية، وذلك بعباراته: «الجوهر هو الشيء بذاته خارج إدراك العقل له وكفى، وكل مجهود يُصرف من أجل ذلك هو عقيم غير مجدٍ».
  2. الجوهر الكوني، بمعنى أزلية الوجود لا ينطبق عليه القول إن ماهية الجوهر هو لا متناهٍ أزلي، باستثناء إذا كان المقصود بأزلية الجوهر تتضمن أزلية الله كجوهر كامل لا يُدرَك، وهو جوهر تام شامل ليس مخلوقاً ولا يحده الزمان والمكان الإدراكي. وبالرغم من أننا نحدس بكل شيء ندركه في الطبيعة، ومن حولنا لمسة جوهر إلهية معجزة فيه.
  3. الجوهر هو الذي لا نحتاج تكوين تصوره وهو عديم الحضور في تعينه الأنطولوجي أو تعينه الإدراكي المجرد. والله جوهر كامل لا يمكن إدراكه عقلياً سوى في بعض من تلك التوزعات الصفاتية الوجودية غير الجوهرية داخل موجودات الوجود، والتي ندركها بالصفات فقط للاستدلال عليه. ولا ندرك بالأشياء جواهرها الموجودة فيها بالضرورة الإلهية التي جعلت من عقل الإنسان محكوماً بمحدودية عدم استطاعة إدراكه الجوهر بالأشياء ولا الجوهر في الكلية الكونية. الوجود يُفهَم بدلالة الجوهر الكامل (الله) كما يحدس الجوهر صفاتياً في توزع تلك الصفات على موجودات الطبيعة بدلالة وجودها.
  4. الحقيقة الأزلية التي يصفها سبينوزا للجوهر هو ما لا يمكن تصوره من خلال الزمان، عليه يترتب حسب اجتهادنا أن الحقيقة الأزلية لكل شيء يطاله الامتداد اللامتناهي غير المحدود، إنما هو المرادف لحقيقة معنى الزمان، وما لا يكتسب صفة الاحتواء الزمني الإدراكي له، لا وجود له خارج أزلية الزمن باعتباره جوهراً لا يمكن معرفته. الجوهر الكوني الأزلي اللامتناهي أشمل من كونية وزمانية الزمن ذاته.
  5. يعتبر سبينوزا «الجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر، ومعنى الانتماء إلى طبيعة الجوهر أنه ليس شيئاً اكتسبه الجوهر من الخارج، أي أن الجوهر ليس مخلوقاً» [4]. طبعاً الجواهر بمفهوم سبينوزا الميتافيزيقي هي صفات إلهية لا ندركها مخلوقة بل ندركها موجودة موزعة بالأشياء في عالمنا، والذي ندركه بصفات موجوداته وليس بصفات ماهياته الجوهرية المحتجبة عن الإدراك.

لا يمكننا النظر فقط إلى طبيعة الجوهر من وجهة نظر ميتافيزيقية أشرنا لها في اعتماد مذهب وحدة الوجود، فالوجود ليس شيئاً اكتسبه الجوهر من الخارج وهو ليس مخلوقاً، وهذا يضعنا أمام اختيارين: إما أن يكون الجوهر حقيقة بدلالة الوجود الضروري له أن يكون، وإما أن يكون الوجود يستمد حقيقته بدلالة الجوهر وهو المفهوم الذي يعتمده سبينوزا.

لكن كيف
لنا الجزم اليقيني أن الجوهر موجود بالضرورة، ونجهل كيف وُجد، ولا مِن ماذا يتكون،
ولا كيف ندركه بدلالة حضور أنطولوجي لشيء أو حتى موضوعاً مجرداً على صعيد الفكر
الخيالي؟ هنا يكون الجواب (الله).

لكن لو نحن حاكمنا كل هذه التساؤلات المار ذكرها بحقيقة أن الجوهر هو وحدة واحدة في تمام الكمال الإلهي (الله) الذي يستوعب كل الوجود الأنطولوجي، لأصبح لدينا التسليم بحقيقة أن «الوجود يُعرَف بدلالة الجوهر» أكثر من مقبولة بل ضرورية أيضاً، ولا يُعرَف الجوهر بدلالة الوجود. كون الجوهر لا تنطبق عليه المجانسة الصفاتية ولا المجانسة الماهوية مع موجودات الوجود الذي ندركه.

وهذا الأخير عندما نحاول معرفة الجوهر بدلالة الوجود خطأ دأبت عليه الفلسفة طويلاً قبل مجيء سبينوزا بمذهب وحدة الوجود، ليس على الصعيد الصوفي الميتافيزيقي التديني وإنما على صعيد فلسفة المعرفة والفكر. وبذلك قلب المعادلة بأن الوجود المخلوق يُعرَف بدلالة الجوهر الأسبق منه. ولا يُدرَك الشيء بصفاته إلَّا بدلالة جوهره المحتجب عن الإدراك كونه ما فوق الإدراك العقلي المحدود بكل شيء ويعلو الطبيعة بكل شيء.

لو نحن سمحنا لأنفسنا مضطرين أن نخرج من عوالم التفسير المنطقي المادي في المعرفة ونتماهى مع مفهوم سبينوزا الجوهر بمنظار ميتافيزيقا وحدة الوجود، فإننا لا محالة واصلين الى الحقيقة التي أرادها سبينوزا؛ أن مبتدأ كل شيء في الله ومنتهى كل شيء به من دون حاجتنا الإدراكية العقلية الحدسية لتلك البديهة الميتافيزيقية. وإذا نحن سلَّمنا بمنطق وحدة الوجود الميتافيزيقي الصوفي، يكون توضح الأمر معنا في فهم الجوهر تماماً، عندما نؤمن مع سبينوزا أن كل شيء موجود في الله كمُدرَك بصفته، ولا يمكننا إدراك الله كجوهر إلا بصفات أشيائه الوجودية المُدرَكة فقط، ولا بصفات جواهره غير المدركة بعقولنا أيضاً.

سبينوزا يؤمن أن الجوهر صفة من صفات الله لا يمكن إدراكها، فهي موزعة وموجودة في كل شيء، وتستمد أزليتها خارج الاحتواء الزماني المكاني لها، لكن بنفس الوقت هي جزء من الطبيعة المخلوقة التي يكون لا معنى للجوهر فيها إلَّا بدلالة الذي أوجد موجودات الطبيعة الذي هو الجوهر الأشمل اللانهائي اللامحدود. جواهر الأشياء في الوقت الذي نحدس موجوديتها بالأشياء، لا تكون كافية لمعرفة الجوهر التام الكامل المحيط بكل شيء الذي هو (الله).

الجوهر في موجودات الطبيعة بالمعنى الاسبينوزي هو إحدى صفات الذات الإلهية التي يتعذَّر علينا إدراكها، فكيف بإدراك خالقها. والجوهر الذي لا يُدرَك، هو الذي يمكنه ربط إدراكاتنا التي هي في حقيقتها جواهر إلهية موزعة في الوجود بما لا حصر لها، وموجودة (قبلياً) بقدرة إلهية لا نستطيع معرفتها، ولا كيفية أن تكون الجواهر جزءاً ملازماً موجوداً بالضرورة في كل شيء نُدركه بمعزل عن عدم إدراكنا الجوهر فيه، لأن الجوهر ماهية إلهية دالة في الموجودات كافة، لا يمكننا إدراكها. الجوهر الإلهي يعلو مجانستنا العقلية الإدراكية له.

جواهر الأشياء حسب الفهم الاسبينوزي في وحدة الوجود تمتلك أزلية غير مُكتسبة من خارجها، والجوهر هو وجود غير مُدرَك خارج قالبي الزمان والمكان الإدراكيين، اللذين يحكمان الطبيعة والإنسان كما شرح ذلك كانط. في محاولته الابتعاد عن ميتافيزيقا سبينوزا في وحدة الوجود، الذي كرَّس عدم إمكانية إدراك الجوهر الإلهي بالعقل المحدود، والذي يدرك كل شيء متاح إدراكه له بمعرفة صفاته فقط لا أكثر. أمَّا الجوهر فهو علة الوجود في خلقه، ولا توجد علة في سبب وجوده.

لذا الجوهر واحد حسب مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا، لا يمكننا تجزئته كونه جوهراً مجزأً موزعاً في الطبيعة والكون كصفات، ويمكننا معرفة كل موجود بدلالة جوهره غير المخلوق كما تُخلق الموجودات المادية، كون الجوهر لا مادياً بل هو صفة من صفات الكمال الإلهي الذي لا يُدركه العقل بغير دلالة موجوداته.

«الله» الجوهر المثال

يتجلى
مفهوم الجوهر المثال الكامل في «الله» حين يصفه سبينوزا بالتالي:

  • الجوهر هو حقيقة الكون ولا يعني هذا في رأيه أن الجوهر هو مادة الشيء أو عنصر من مكوناته، لكنه الحقيقة التي وراء كل شيء. الجوهر لا يكون إلا واحداً، والأصح لا وجود لجوهر إلا واحداً ولا يخرج عنه شيء. [5]
  • الجوهر أزلي لا متناهٍ، والأزلية هي الوجود ذاته المرادف للحقيقة، والأزلية يتعذر علينا تصورها من خلال فكرة المدة، أو الاستمرار أو الزمان. والجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، والوجود ليس شيئاً اكتسبه الجوهر من الخارج، أي أن الجوهر ليس مخلوقاً. [6]
  • على حد تعبير سبينوزا: الله بوصفه جوهراً لا متناهياً ذا صفات الهية، والصفة هي الشيء المكوِّن لماهيته. والعقل ينتقل من الطبيعة الطابعة إلى الطبيعة المطبوعة، أي من الله في ذاته، إلى الخلق مع عدم التمييز بين الله والخلق. وحين يوضح سبينوزا توحيده بين الله والطبيعة قائلاً: لم أعمد إلى تصغير شأن الله بإنزاله إلى مرتبة الطبيعة، بل عمدت رفع الطبيعة إلى مستوى الله. [7]
  • الحقيقة عالم واحد هو الطبيعة والله في وقت واحد، وليس في هذا العالم مكان لما فوق الطبيعة. والواقع أن الله والطبيعة متطابقان، إذا تصورنا أن كلاً منهما منفرداً هو الكائن الكامل الذي أوجد نفسه بنفسه. [8]


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. أمل مبروك، “الفلسفة الحديثة”، بيروت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2011، ص98.
  2. المرجع السابق، ص 98.
  3. المرجع السابق، ص 98.
  4. المرجع السابق، ص 98.
  5. المرجع السابق، ص 98.
  6. المرجع السابق، ص 98.
  7. المرجع السابق، ص 99.
  8. المرجع السابق، ص 99.