عقدتُ العزم منذ ثلاثة أشهر تقريبًا على الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي، قليلًا وليس كليًا، حيث أصبحتُ منهمكًا في الدراسة ولم يعد هناك رفاهية الوقت التي تمكنني – كما كان الحال سابقًا – من المكوث بالساعات أمام صفحات «فيس بوك» أو غيرها، غير أن هذا لم يكن هو السبب الوحيد، فهناك أسبابٌ أخرى أعتقد أنها أهم من ذلك، وهي التي سوف ترحل بي بعيدًا عن هذا العالم الوهمي إلى غير رجعة حتى وإن غاب ضيق الوقت.

ولجت هذا العالم الافتراضي العجيب منذ عشر سنوات تقريبًا، أعتقد أنني فَوَّت فيها على نفسي أشياء كثيرة: وجوه ربما كنت قد سُررت بالنظر إليها لو لم تكن عيناي معلقتين طوال هذه السنين العشر على مستطيل مُومض يُسمى «شاشة»، أو أناس ربما أرادوا بدء حديث معي غير أنني لم أُلقِ لهم بالًا؛ لأنني ببساطة لم أرهم.

غيّرني هذا العالم كثيرًا، فأنا أمضيت فيه من عمري في العشر سنوات الأخيرة أكثر مما قضيت في عالمي الحقيقي، صادقتُ افتراضيًا أناسًا لم أرهم، وجاملتُ وهنأت وواسيتُ دون أن يشعر قلبي بالفرح أو الحزن في هذا العالم! فقَد قلبي نصف مشاعره، واستحال إلى مضخة تضخُ الدم ولا غير ذلك. أدخل هذا العالم الافتراضي بمجرد أن أخرج من عالم الأحلام والرؤى والكوابيس: يكتب هذا عن شيء سرّه؛ فأكتب مهنئًا، ولا تمر لحظات حتى يكتب ذاكَ عن شيء أحزنه وضره؛ فأكتب متعاطفًا ومواسيًا. أضحى قلبي ممزقًا لا يعرف أيفرح أم يحزن حتى ملني وهجرني، وتركني إلى عقلي يُدبر أمر مشاعري.

اعتدت المصائب في هذا العالم العجيب، فأنا أراها عن غير طواعية كل يوم تظهر أمامي، فبعد أن كنت أسمع على فترات متباعدة عن وفاة شخص قريب أو حتى بعيد، أو عن مكروه أصاب عزيزًا، أصبح هذا الأمر معتادًا، وكيف لا وأنا أعيش مع أكثر من خمسمائة صديق افتراضي في غرفة ضيقة، وأضطر لسماع حكاياتهم ومعايشة حيواتهم ما إن وطأت عيناي هذا العالم.

في هذا العالم، للسعادة طعم آخر، بل في الحقيقة، ليس للسعادة طعمٌ على الإطلاق، فالسعادة لم تعد غايةً في ذاتها، بل أصبحت تُرجى نكاية في الغير!

على أية حال، غزة هي التي دفعتني أن أكتب ما أكتبه الآن عن هذا العالم الافتراضي العجيب. قتلت إسرائيل أكثر من ستين فلسطينيًا خرجوا في مسيرات سلمية في ذكرى النكبة للاعتراض على نقل السفارة الأمريكية للقدس، حينها تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى سيل من التنديدات والتهديدات، وبينما كانت «إيفانكا ترامب» تزيح الستار عن سفارة واشنطن في القدس، كان آخر يكتب على صفحته على فيس بوك: «في العام القادم، سنفطر جميعًا في القدس»! حسنًا، ربما استطعتَ ذلك، فقط إن أرادت إسرائيل أن تمنحك تأشيرة الدخول! لا أعتقد أن سيول التهديد والوعيد التي اجتاحت هذه المنصات الافتراضية بعد استباحة جنود الاحتلال لدماء الفلسطينيين سوف تغير من الأمر شيئًا، أو أنها سوف تشكل أي مصدر للضغط على إسرائيل، بل على العكس تمامًا، فهذه التهديدات الافتراضية قد وفرت على الاحتلال والأنظمة المتخاذلة أرقًا كانت تجلبه تظاهرات كانت تجتاح العالم العربي والإسلامي بعد كل هجوم واعتداء على الفلسطينيين.

هناك من يعتقد أن للسوشيال ميديا قوة عظيمة، وقد تجلى ذلك في ثورات ما يسمى بـالربيع العربي حينما رفع بعض الناس لافتات يشكرون فيها «فيس بوك» و«تويتر»، ظانّين آنذاك أنه لولاهما لما «نجحت» هذه الانتفاضات. والبعض الآخر، وأنا منهم، يعتقدون أن منصات التواصل الاجتماعي لا تستطيع أن تؤدي بأي حال من الأحوال إلى تغيير سياسي حقيقي، لأنها تفتقر إلى عناصر لا تتوفر إلا في الحراك الذي يحدث في الواقع على الأرض، كالتعرض الجمعي للمخاطرة والروابط التي تنعقد بين المشاركين في هذا الحراك، وهما عنصران لا يتوفران على منصات السوشيال ميديا. لذا، يصفُ هذا الجانبُ «الحراكَ – activism» الحاصل على هذه المنصات بـالـ«Slacktivism» أو «Clicktivism» أو «Armchair Activism»، وهي مصطلحات تشير إلى أن الحراك الذي يحدث على منصات التواصل الاجتماعي حراكٌ مُتثاقلٌ، متراخٍ، لا جدوى من ورائه، وليس له أثر حقيقي، لافتقار أصحابه لعنصري المخاطرة والروابط الوثقى التي يتسم بهما الحراك الحقيقي على الأرض.

في الحقيقة، برز دور السوشيال الميديا بعد الربيع العربي في 2011، فبعد أن خرج مئات الآلاف من الغاضبين إلى الشوراع في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، زعم البعض أن ذلك ما هو إلا نتاجُ هذه المنصات التي مهدت بل وشكلت هذه الانتفاضات التي أكلت في طريقها «بن علي» و«مبارك» و«القذافي» و«صالح». بل وصل الأمر إلى أن شَبّه «أليك روس»، مستشار وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «هيلاري كلينتون» لشؤون الإبداع والتكنولوجيا، «فيس بوك» و«تويتر» بالمناضل الأرجنتيني «تشي جيفارا»، زاعمًا أن الإنترنت قد نزع السلطة من بين يدي الحكومات وأودعها إلى الأفراد.

لا أنكر أن الحراك الافتراضي، في مصر مثلًا، قد شكّل متنفسًا في مطلع الألفية الثالثة لبعض الشباب الغاضب الذي أراد أن يكون له دور على الساحة الاجتماعية والسياسية، فاعتمد على المدونات التي شكلت فضاءً افتراضيًا مكنهم من نشر ومناقشة موضوعات لم يكن من الممكن مناقشتها علانية في الفضاء المادي العام؛ نظرًا للسياسات القمعية التي كان يتبناها نظام مبارك والتضييقات التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية على المعارضين في الفضاءات العامة كالجامعات، والنوادي الثقافية، وحتى المقاهي. فقد مثلت المدونات مساحة آمنة للشباب الذي عبر من خلالها عن انتقاداته للحكم السلطوي وإخفاقاته آنذاك، وأتاح أمام المعارضة السياسية فرصة فضح الانتهاكات التي كانت تمارسها أجهزة الدولة ضد المواطنين ودولنة قضاياهم.

غير أن هذه الفضاءات الافتراضية آنذاك لا يمكن أن نطلق عليها لفظ «عامة»، لأنه في الحقيقة كان لها طابع نخبوي، واقتصرت على مجموعة بعينها؛ تلك التي كان لها القدرة المادية والمعرفية على استخدامها والتواصل من خلالها. فقد خلقت هذه الفضاءات الافتراضية نوعًا من الإقصاء والعزلة للمهمشين من ساكني العشوائيات والمدن الصغيرة والقرى وهؤلاء الذين لم يعرفوا طريق المدونات، غير أنهم كانوا في بحث دؤوب عن فضاء حقيقي للتعبير عن استيائهم من سياسات النظام.

لذا، كان الحراكُ الحقيقي على الأرض، كالوقفات الاحتجاجية وإضرابات العمال، هو الذي أقض مضجع النظام، ليس فقط لأنه أتاح لهؤلاء المهمشين عديمي المعرفة التقنية مساحة حقيقية للتعبير فيها عن غضبهم، وهو ما أتاحه لهم أيضًا ميدان التحرير فيما بعد، ولكن أيضًا لأن أثر هذا الحراك الحقيقي كان أكثر فعالية لأنه مثّل تجرّؤًا على سلطة وهيمنة النظام الذي استأثر بهذه الفضاءات المادية، وكسر حاجز الخوف من مشاركته إياها. ولذلك، فما حدث في 2011 لم يكن ليصبح حقيقة لو لم يتوقف الشباب عن الـ«Tweeting» واحتلوا مساحة حقيقية ملموسة تتمثل في ميدان التحرير! فالخروج من ضيق الـ«Virtual Space» إلى سعة الـ«Physical Space» هو ما أدى في رأيي إلى ما حدث في ثورة يناير. فخيام التحرير هي التي أجبرت مبارك على الرحيل، وليس غير ذلك!

لا يخفى على أحد أننا غارقون في هذا العالم الافتراضي، وأخشى ما أخشاه أن نَعلقَ في الافتراضي، ونترك لهم الواقعي!



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.