شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 60 فتح فيلم «كيرة والجن» شهية الحديث عن أبطال ثورة 1919، من الطلاب والعمال والفلاحين وسواد الناس الذين كافحوا وناضلوا من أجل تحرير البلاد، لا يبغون جزاءً ولا منصباً ولا شكوراً. قصة «أحمد عبد الحي كيرة» وأبطال ثورة 1919 نشرها الصحفي «مصطفى أمين» في كتابه «الكتاب الممنوع: أسرار ثورة 1919»، اعتماداً على مذكرات الفدائيين الذين اقتربوا من كيرة، وبدأ ينشرها على صفحات جريدة «الأخبار» عام 1963، في أعقاب الكشف عن المراسلات السرية بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي، سكرتير الوفد سنوات الثورة، والظن عندي أن أحمد مراد مؤلف راوية «1919»، قد استفاد كثيراً من «الكتاب الممنوع»، ومن يعود إلى الكتاب يجد أحداثاً أكثر إثارة ودرامية من صفحات الروايات والمؤثرات البصرية لشاشة السينما. شخصية كيرة تبين نشرة أصدرتها إدارة المخابرات البريطانية في 9 ديسمبر/كانون الأول 1924 الأوصاف الجسدية لأحمد عبد الحي كيرة، فتقول: العينان: سوداوان. الرموش: خفيفة. اللون: أسمر. عريض الصدر. قصير القامة. آثار حروق على خده الأيمن. ذو شارب خفيف أسود. [1] ومن مذكرات رفيق دربه في العمل الفدائي «محمود خليل النحاس» نقرأ وصفاً لشخصية كيرة: كان كيرة طالباً في الطب (خلال أحداث الثورة)، يشتعل ذكاء ووطنية، عيناه براقتان، شديد التدين والاستقامة، يبدو عليه الغموض، لا يتكلم كثيراً، شديد الحذر، إذ ضرب لك موعداً لا يحدد مكانه ولا وقته، ولكنك فجأة تجده أمامك، ثم يختفي فجأة، وكان لا يحضر اجتماعات الخلية السرية، ولكننا نجده معنا، ومعه تعليمات قيادة الجهاز السري. [2] كيرة ومحاولة اغتيال السلطان حسين كمال تعرّف كيرة على العمل الفدائي مبكراً، عن طريق الجمعيات الفدائية السرية للحزب الوطني (مصطفى كامل ومحمد فريد). ففي 1915 ورد اسمه ضمن الفدائيين من جمعية التضامن الأخوي خلال الحرب العالمية الأولى. وفي يوليو/تموز 1915، اشترك كيرة في محاولة اغتيال السلطان حسين كامل بالإسكندرية، لقبوله بتولي العرش تحت ظلال الحماية البريطانية، بإلقاء قنبلة على موكب السلطان وهو في طريقه من قصر رأس التين إلى الجامع ليؤدي صلاة الجمعة، لكن القنبلة لم تنفجر، وتدحرجت بين أرجل الخيول التي تجر العربة، لخطأ وقع فيه الفدائي. ساد القلق لدى الحكومة من عدم معرفتها بالجاني، وزاد هذا القلق لأن الأهالي رأوا الجاني وهو يلقي القنبلة من شرفة المنزل رقم 99 بشارع رأس التين، ورأوه وهو يفر ولم يتقدموا للإمساك به أو للإرشاد عنه، فالحادثة جرت يوم جمعة، والناس في بيوتهم، وشرفات المنازل غاصة بالسكان لمتابعة موكب السلطان، ومع ذلك ألقى الجاني القنبلة، وقفز من سطح إلى آخر، وخرج إلى الشارع، رابط الجأش، هادئ الأعصاب. أعلنت السلطات البريطانية عن مكافأة قدرها 500 جنيه لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على الجاني [3]، لكن لم يتقدم أحد، فبلغ غضب الإنجليز مداه، وأصدر قائد قوات الاحتلال منشوراً يهدد بالمحاكمة والحبس كل من يعرف بوجود مؤامرة ولا يتقدم للإبلاغ عنها. رغم التهديد لم يتقدم أحد للإرشاد عن منفذي محاولة اغتيال السلطان. أخيراً، قبض الإنجليز على كيرة عام 1916، وأمضى بالسجن ثمانية أشهر، لكنهم فشلوا في إثبات التهمة عليه، وأستأجر والده الشيخ عبد الحي كيرة –من تجار فارسكور– محامياً إنجليزياً دفع له 1500 جنيه، وبرّأته المحكمة، ونجا من الإعدام بأعجوبة. [4] كيرة في الجهاز السري للثورة مع أولى خطوات الوفد لجمع التوكيلات بدأت البذور الأولى لتنظيمات ثورية تتولى تنظيم جمع التوقيعات. مع اشتعال الثورة تقدمت تلك التنظيمات الصفوف، وتحولت إلى لجان شعبية لتنظيم أعمال المقاومة في الأحياء والشوارع. وبعد إطلاق سراح سعد من مالطة وسفر الوفد من القاهرة إلى باريس في 11 أبريل/ نيسان تشكلت «لجنة الوفد المركزية»، فكان لها دوران: الأول علني وهو جمع التبرعات للوفد وإرسالها إليه، وإبلاغه جميع أخبار البلاد، وتلقي أخباره، وإذاعتها في الأمة [5]. والثاني سري: إذ تحولت إلى مظلة تجمع كل اللجان الشعبية، ووفر لها اندماجها مع هذه اللجان سيطرة على الأحداث، فكان هذا بداية أعمال التنظيم السري لثورة 1919، بقيادة ضابط متقاعد يدعى «عبد الرحمن فهمي»، عمل سكرتيراً للجنة [6]، فيما ظل دورها الثوري الفدائي خفياً، حتى أزيح الستار أخيراً عن دوره بفضل الوثائق التي كشفها الدكتور «محمد أنيس»، عام 1963، وهي عبارة عن مراسلات سرية بين عبد الرحمن فهمي من القاهرة وسعد زغلول في باريس. شكّل التنظيم السري لثورة 1919 ما سُمي المجلس الأعلى للاغتيالات. يُحدِّثنا «شفيق منصور»، العضو المشهور في تاريخ الحركة الفدائية، عن تكوين المجلس، فيقول في تقرير كتبه بعد سقوطه في قبضة السلطات الأمنية، إن المجلس حينما انضم إليه كان يتألف من: أحمد ماهر (1888-1945)، ومحمود فهمي النقراشي (1888-1948)، وعبد الرحمن الرافعي (1889-1966) (صاحب السلسلة التاريخية الشهيرة)، وضابط البوليس مصطفى حمدي، ومحمد شرارة، وحسن الشيشيني المدرس في كلية التجارة العليا والحقوق، وكان مستشاراً للمجلس [7]، وعبد اللطيف الصوفاني، وقد اتخذ المجلس من منزل الصوفاني مقراً له. [8] اتصل بعبد الحي كيرة الدكتور أحمد ماهر والنقراشي وحسن كامل الشيشيني وعبد الحليم البيلي، وضموه إلى الجهاز السري. ولأن كيرة كان خبيراً في الكيمياء، فقد اشترك في صنع القنابل التي ألقيت على معسكرات الإنجليز، وعلى «يوسف وهبة» رئيس الوزراء في 15 ديسمبر/كانون الأول 1919، و«إسماعيل سري» وزير الأشغال في 28 يناير/كانون الثاني 1920، و«محمد شفيق» وزير الأشغال في 22 فبراير/شباط 1920، و«حسين درويش» وزير الأوقاف في 8 مايو/أيار 1920، و«توفيق نسيم» رئيس الوزراء في 12 مايو/أيار 1920. لكن، كيف تمكّن كيرة من صناعة القنابل، بل وتصنيعها في معامل مدرسة الطب؟ نقرأ الإجابة في مذكرات «محمد يوسف» عضو الجهاز السري لثورة 1919 والمنشورة في «الكتاب الممنوع»: من الغريب أن كيرة لم يكن يحضر أي اجتماع سياسي في ثورة 1919، ولم يكن يظهر في المظاهرات، أو يشترك في الإضرابات، بل كان يحدث أن يُضرِب جميع طلبة الطب، ويخرج عبد الحي كيرة على إجماعهم، ويبقي في مدرسة الطب يعمل في معمل المدرسة. وكان أساتذة مدرسة الطب الإنجليز يتصوّرون أن هذا الطالب المجتهد مكب على الدراسة، ولا يؤمن بالوطنية، بينما كان هو في الواقع يبقى في الكلية ليصنع هو وزميله «محمد حلمي» الجيار القنابل التي يستعملها الجهاز السري في ثورة 1919. [9] لماذا ألقى الجهاز السري القنابل على الوزراء؟ بدءاً من نوفمبر/تشرين الثاني 1919، بدأ المجلس الأعلى للاغتيالات يمارس الاغتيال السياسي للوزراء الذين يقبلون بإمداد بريطانيا بنخبة تحل محلها في الإدارة، ويرفضون الاعتراف بالصيغة التمثيلية للوفد. تفصيل ما سبق، أنه في المقابلة الشهيرة التي جرت في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وجمعت سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي بين ممثل الاحتلال البريطاني، أعرب «ونجت» عن دهشته: كيف أن ثلاثة رجال يتحدثون عن أمر أمة بأسرها دون أن يكون لهم ما يخوّلهم صفة التحدث باسمها. لكي يثبتوا للبريطانيين كم هم ممثلون للشعب، وكم يستطيعون السيطرة على الجماهير، بما يثبت حاجة الاحتلال إليهم، بدأت حركة جمع التوكيلات، لكن الموقف البريطاني ظلّ على عناده، حتى اشتعلت الثورة في مارس 1919، على غير رغبة الوفد. لإجبار بريطانيا على الاعتراف بالصفة التمثيلية للوفد، شن الجهاز السري للثورة سلسلة من محاولات الاغتيال والإرهاب على النخبة الرسمية من الوزراء الذين يقبلون بالتعاون مع البريطانيين، ويحلون محلها في الإدارة. فدائية «دولت فهمي» في مذكراته المنشورة في «الكتاب الممنوع»، يحكي قصتها «عبد القادر شحاتة»، ومنه نعرف أن الجهاز السري للثورة كلّف كيرة باغتيال «محمد شفيق» وزير الري والأشغال بسبب موقفه من مشاريع للري يريدها الإنجليز في السودان. تمثلت هذه المشاريع في إنشاء سدين: الأول على النيل الأزرق لتوفير مياه لري 300 ألف فدان من أرض الجزيرة الواقعة عند تلاقي النيل الأبيض مع النيل الأزرق قريبة من الخرطوم. والسد الثاني يُقام عند «جبل الأولياء» على النيل الأبيض لتدبير المياه لمصر، لكنه يحجب عن أراضيها الطمي وهو مصدر خصوبتها. وذاع بين الناس تقرير لمهندس إنجليزي يُعارض المشروع يقول إن: هذه الأعمال ستضع مصر حتمًا تحت رحمة السودان، وستفقدها حريتها التي لم تفقدها منذ عهد مينا إذ يخنقها. [10] تدخّل الجهاز السري للثورة، وقرر إيقاف المشروع، واختار كيرة «عبد القادر شحاتة» لتنفيذ العملية، وهو الطالب بالمدرسة الإلهامية، ووالده أحد الفقهاء. في 22 فبراير/شباط 1920، وصلت سيارة الوزير إلى شارع عباس بالقرب من غمرة، فألقى شحاتة عليها قنبلة، بيّد أن السيارة تجاوزتها فلم تصُب بسوء. اقتفى راكب دراجة عربة الحنطور التي فر بها الجاني وزميله عباس حلمي. قُبض على الفدائيين مختبئين في مدرسة بنات قبطية. في التحقيق تعرف عليه محمد شفيق باشا. حاول المحققون معرفة أين كان يبيت ليلة الحادث، ولو عرفوا المكان لعرفوا بقية الجهاز السري للثورة. في محبسه، تلقى عبد القادر شحاتة رسالة تقول له أن يخبر المحققين بأنه بات ليلة الحادث في منزل سيدة اسمها «دولت فهمي»، ناظرة مدرسة الهلال الأحمر. حينما دخلت «دولت فهمي» غرفة المحقق مُكبّلة بالأغلال راحت لشحاته تُقبِّله وتناديه «يا حبيبي! يا حبيبي!»، واعترفت أن عبد القادر شحاتة هو عشيقها. حاول الإنجليز أن يغروا السيدة بالعدول عن شهادتها، لكنها رفضت تماماً، لتفشل مخططات السلطات البريطانية في معرفة الجهاز السري. حكمت المحكمة العسكرية البريطانية على عبد القادر شحاتة بالإعدام، ثم خُفِّف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وبعد مضي 4 سنوات أفرج عنه سعد زغلول في فبراير/شباط 1924. سأل عبد القادر شحاتة عن دولت فهمي؛ لقد عاشت معه أربع سنين في زنزانته، وأحس أنه يحبها، ولا بد أن يتزوجها، وأخيراً علم أن أهلها قتلوها بعدما عرفوا أن الفدائي بات ليلته في بيتها ليلة الحادث، بينما هو لم يرها إلا في غرفة النائب العام. [11] تصريح 28 فبراير 1922 مع توالي محاولات الاغتيال السياسي للوزراء الذين يقبلون بأن يحلوا محل الاحتلال في الإدارة، ومع استمرار ثورة الشارع، رفضت النخبة المصرية في نهايات عام 1921 تأليف وزارة إلا إذا غيّرت بريطانيا من خطتها السياسية إزاء مصر. بعد مفاوضات، جرى اتفاق على تشكيل وزارة برئاسة «عبد الخالق ثروت» يعقبها إعلان من جانب بريطانيا بإلغاء الحماية والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وإعادة وزارة الخارجية، وإنشاء برلمان، وتأليف حكومة دستورية، مع بقاء 4 تحفظات في يد بريطانيا: تأمين المواصلات البريطانية. الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي. حماية المصالح الأجنبية والأقليات. يبقى السودان كما هو خاضعاً لاتفاقيتي عام 1899. الإعلان البريطاني، الصادر في 28 فبراير/شباط 1922، رغم أنه يعلن إلغاء الحماية ويعترف بمصر دولة مستقلة فإن تحفظاته الأربعة تعطي بريطانيا كل ما كان يعطيه إعلان الحماية في 18 ديسمبر/كانون الأول 1914، بل يجعل وظيفة الحكومة المصرية تسهيل هذه الحماية عبر تشكيل حكومة وبرلمان. بعبارة أخرى: البريطانيون يريدون من الرسميين المصريين أن يحلوا محلهم في حماية المصالح البريطانية، وأن يقنعوا الأهالي بأنهم يتمتعون بالاستقلال، ولا يخضعون لحكم غازي أجنبي. علم الجهاز السري للثورة بالمفاوضات التي تجري بين البريطانيين وثروت، فقرر إجهاض الخطة باغتيال الوزير المصري. تقرر تنفيذ العملية يوم 26 يناير/كانون الثاني 1922، عند خروج ثروت من منزله بالدقي، متجهاً إلى المدينة، عبر كوبري الإنجليز (الجلاء)، بإلقاء حقيبة قنابل على سيارته. أخبار الخطة تسربت للبوليس عبر عميل يُدعى «مصطفي فرغل». قبض البوليس على الفدائيين وهم يقفون في انتظار رئيس الوزراء، وعثر في منازلهم على قنابل ومسدسات. [12] ذهب البوليس إلى مدرسة الطب للقبض على أحمد عبد الحي كيرة. فوجئ كيرة بالضباط الإنجليز أمامه، ولأنه سريع البديهة قال للضباط «أنتم تريدون أحمد عبد الحي كيرة، وأنا لست أحمد عبد الحي كيرة»، وإذا بطلبة المدرسة والمدرسين المصريين يشهدون بأن المقبوض عليه ليس هو أحمد عبد الحي كيرة. فتركه الضباط، وراحوا يفتشون مدرسة الطب عنه، وفي هذه اللحظة اختفى كيرة. [13] مغامرة كيرة للهروب إلى أوروبا رأى الجهاز السري للثورة أن يختفي كيرة من مصر، بالسفر إلى إيطاليا عن طريق ليبيا. وفي ألمانيا يتقابل مع صديقه في الجهاز السري للثورة «محمود خليل النحاس»، ويحكي له ما كان في قصة هروبه، إذ ارتدى كيرة زي الأعراب، وأطلق لحيته، واتفق مع قبيلة من الأعراب لتسفيره عن طريق الصحراء إلى ليبيا في مقابل مبلغ معين، وقد طمع أفراد القافلة في نقود كيرة الذهبية، فدسوا السم له في الطعام، لكنه شعر فوراً أن الطعام مسموم، فامتنع عن تناول أي طعام معهم، واكتفى بتناول البيض طوال الطريق. ويستكمل كيرة: وعندما وصلت إلى ليبيا، وكانت مستعمرة إيطالية، بدأت أولاً بتعلم اللغة الإيطالية، وارتديت قبعة واسعة مما يرتديه تجار المواشي، ودخلت في عمليات بيع وشراء مواش بين إيطاليا وليبيا وتونس، مما حتّم سفري إلى إيطاليا لتوريد المواشي. وكان هذا دفعاً لأي شبهة أو شك في موضوعي، وسافرت من ليبيا إلى تونس، ثم إلى إيطاليا. وصل كيرة إلى إيطاليا، لكن المخابرات البريطانية كانت في أثره، فانتقل إلى فرنسا، فإذا بالبريطانيين يتعقبونه، فغادرها فوراً إلى ألمانيا، باعتبارها بلداً عدواً لبريطانيا، وكما تعلم كيرة الإيطالية بسهولة تعلم الألمانية بسهولة، وقيّد اسمه في جامعة برلين بكلية الطب للحصول على الدكتوراه. رغم الهجرة والاغتراب لم يبتعد كيرة عن العمل الفدائي، إذ وهو يدرس الطب في ألمانيا أرسل إليه الجهاز السري يكلفه باغتيال عبد الخالق ثروت، حينما يحضر مؤتمر لوزان في نوفمبر 1922. دافع الاغتيال نية ثروت في التصديق على كل ما تتنازل عنه تركيا من حقوقها في مصر لصالح بريطانيا. أعد كيرة وصديقه النحاس خطة لاغتيال عبد الخالق ثروت في الفندق الذي ينزل به أو أي مكان آخر قرب المؤتمر، لكن العملية لم تتم، إذ امتنع ثروت عن السفر، بعدما علم أن سعد زغلول أمر من منفاه في جبل طارق بإيفاد وفد برئاسة حسن حسيب باشا إلى لوزان ليقول في المؤتمر، إن ثروت باشا لا يتكلم باسم مصر. المخابرات البريطانية تتعقب كيرة أينما حل لم يهنأ كيرة بالاستقرار في ألمانيا، إذ خضعت الحكومة الألمانية لضغط بريطانيا، وأعطت كيرة مهلة 48 ساعة لمغادرة ألمانيا، فقرر كيرة الاختفاء من برلين، في مدينة ميونخ، ولأن المخابرات البريطانية كان في أثره في كل مكان، سافر كيرة إلى تركيا، وهناك يتفاوض معه الإنجليز ليكون شاهداً ملكاً ضد النقراشي والوفد، وينجو هو من حبل المشنقة. في نوفمبر/تشرين الثاني 1924، اغتالت جمعية «أولاد عنايت» قائد الجيش المصري/الإنجليزي في السودان «لي ستاك». وبعد العملية بأيام استقالت وزارة سعد زغلول. اتهم الإنجليز الوفد بالوقوف وراء العملية. قبضوا على قيادات في الوفد. تركزت الاتهامات على محمود فهمي النقراشي وأحمد ماهر، لكن الإنجليز كانوا يبحثون عن أدلة دامغة لإعدام النقراشي وماهر، وإعدام الوفد معهما، فحاولوا التواصل مع كيرة بإسطنبول. أرسلت المخابرات البريطانية أحد رجالها إلى إسطنبول للقبض على كيرة أو إقناعه بأنهم سيعفون عنه إذ قبل أن يشهد ضد النقراشي وماهر، ويذيع أخبار الجهاز السري لثورة 1919 [14]، لكن كيرة لم يكن بالذي يساوم. في 9 ديسمبر/كانون الأول 1924، أصدرت إدارة المخابرات البريطانية نشرة مطبوعة إلى جميع فروعها في العالم، يقول نصها: مطلوب القبض عليه حياً أو ميتاً. أحمد حسن عبد الحي كيرة، في إسطنبول أو في أوروبا. كان طالباً في مدرسة الطب في مصر. مُتهماً في قضية قنبلة عبد الخالق ثروت باشا في مصر. فرّ من القاهرة في عام 1922، مُكلف بالقيام باغتيالات في الخارج. خطير في الاغتيالات السياسية، عمره: 28 أو 29 سنة. العينان: سوداوان. الرموش: خفيفة. اللون: أسمر. عريض الصدر. قصير القامة. آثار حروق على خده الأيمن. ذو شارب خفيف أسود. [15] لغز في الحياة ولغز في الاستشهاد يروي الأستاذ «يحيي حقي»، وكان يعمل وقتها موظفاً في القنصلية المصرية بإسطنبول، فصول المطاردة المثيرة بين الفدائي المصري والمخابرات البريطانية في تركيا، فيقول في كتابه «رجال في الظل»: كان لا بد لي ولا مناص من أن أسعى إليه لأعرفه، وكيف لا أفعل واسمه يرن في أذني رنين أسماء أبطال الأساطير. ولكن شاء إليّ سوء الحظ أنني كنت حينئذ موظفاً بالقنصلية، وعبد الحي يتفادى المكان وأهله تفاديه الوباء. الاحتلال الإنجليزي كان لا يزال رابضاً على مصر، فكنت لا ألقاه إلا صدفة، فأقطع عليه الطريق. إنه يعرفني ويراني ولكنه يتجاهلني، فلا أترك يده بعد المصافحة، لأن أبقيها في يدي وأقول له إن لي صداقة حميمة ببعض أقاربه وبلدياته، وأذكرهم بالاسم، وألح عليه إلحاحاً شديداً أن يمشى معي ولو خطوتين، أن يضرب لي موعداً لنأكل معاً، كل هذا وهو يستنقذ بإصرار يده من كلبشات يدي، يشكرني بابتسامة كلها حياء، ورأسه مطرق إلى الأرض، ثم يعتذر قائلاً: قريباً إن شاء الله. ظل هذا حالي معه أربع سنوات. يستكمل حقي: حاولت أن أعرف أين يسكن لأرسل له خطاباًـ ولا أقول لأزوره– فلم أنجح، وقيل لي إنه يسكن بمفرده في ثلاث شقق كل منها في حي بعيد عن آخر، وأنه يتخذ في كل شقة اسماً مختلفاً، ولا ينام في فراش واحد ليلتين متتابعتين. كيف كان يحلو له ـ في هذا الحذر الدائم ـ أكل أو شرب، أو تهنأ له سِنة من النوم؟ كيف يستطيع إنسان أن يعيش دون أن يأمن لأحد؟ كل منْ يلقاه عدو محتمل، يندس بين الناس بعيداً عن كل الناس، قلبه حرّم على نفسه الاستجابة لعاطفة. رأيت في عبد الحي كيرة صورة مُجسّمة لهذا العذاب الذي فاق عذاب جهنم الحمراء. بقي يحيي حقي في شغفه لمقابلة ومتابعة أخبار كيرة حتى جاءت النهاية المجيدة. عُثر على كيرة مقتولاً بطعنة خنجر. جثته ملقاة في حفرة بجوار سور إسطنبول العتيق، بجانبها عود من ثقاب منطفئ. جرى التحقيق مهرولاً، فلم يُستدل على الفاعل، ولا كيف حدثت الجريمة. يختم حقي حديثه عن البطل فيقول: ترى من هو هذا العدو الذي نجح أخيراً في الظفر به؟ كيف قُدِّر للحذر أن يؤتي من مأمنه؟ لا أحد يعلم. هذا سر طواه قبره. عبد الحي كيره كما عرفته كان لغزاً في حياته، وهو في موته أشد إلغازاً. لم يمت أحمد عبد الحي كيرة، وكان له من اسمه نصيب. المراجع مصطفى أمين، الكتاب الممنوع: أسرار ثورة 1919، ج 2، (القاهرة: كتاب اليوم، العدد 55، أكتوبر 1991) ص 370. مصطفي أمين، الكتاب الممنوع: أسرار ثورة 1919، ج 1، (القاهرة: دار المعارف، ب. ت)، ص 181. مذكرات سعد زغلول، ج 5، الهيئة العامة للكتاب، ص 173. وانظر أيضاً: لطيفة محمد سالم، مصر في الحرب العالمية الأولي، (القاهرة: دار الشروق)، ص 406. الكتاب الممنوع، ج 2، ص 371. عبد العزيز رفاعي، ثورة مصر سنة 1919، ص 140. محمد أنيس، دراسات في وثائق ثورة 1919 المراسلات السرية بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي، الجزء الأول، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولي، 1963، ص 11. محمود متولي، مصر وقضايا الاغتيالات السياسية، ص 194. وانظر أيضاً: سيد عبد الرازق، محمود فهمي النقراشي ودوره في السياسة المصرية وحل جماعة الإخوان المسلمين، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1995)، ص 91. وانظر: جيهان عليّ سالم، أحمد ماهر ونضاله الوطني والسياسي، دار الكتب والوثائق القومية، سلسلة مصر النهضة، العدد 92، 2013، ص 48. وانظر: عبد العزيز رفاعي، ثورة مصر سنة 1919 دراسة تاريخية تحليلية 1914-1923، الطبعة الأولي (القاهرة: دار الكاتب العربي، بدون تاريخ)، ص 114. زكريا سليمان بيومي، الحزب الوطني ودوره في السياسة المصرية 1907-1953، (القاهرة: الفاروقية لتوكيلات الطباعة، 1981)، ص 121. الكتاب الممنوع، ج 2، ص 374-375. أحمد شفيق، حوليات مصر السياسية، ص 577، 578. مذكرات عبد الرحمن فهمي: 2، ص 364: 370. مذكرات عبد القادر شحاته، منشورة في الكتاب الممنوع، ج 1، صفحات من 166: 175. الأهرام، 50 عاماً على ثورة 1919، ص 512. أحمد شفيق، حوليات، تمهيد 2، ص 532. مذكرات محمود خليل النحاس، عضو الجهاز السري للثورة، منشورة في الكتاب الممنوع، ج 1، ص 185. مصطفي أمين، الكتاب الممنوع، الجزء الثاني، ص 202. مرجع سابق، ص 370. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً هكذا تحدثت «رضوى عاشور» 7 روايات عربية انطلقت إلى العالمية ياسر برهامي: التطور الطبيعي للفقه الاستبدادي في «مجتمع السوق»: كل شيء للبيع! شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram سيد حامد Follow Author المقالة السابقة حين يَحِل الليل – قصة قصيرة لـ«جي دي موباسان» المقالة التالية فيلم «The Dark Knight»: المشروع الأخلاقي لـ «كريستوفر نولان» قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك تهميش العقل في عصر «التريند» وصراع الأيديولوجيات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لماذا يجب أن تُكتب وتُقرأ الفلسفة كرسالة؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مدخل للتعرف على علمي النحو والصرف 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «أولاد حارتنا»: رحلة نجيب محفوظ مع الرمزيات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الدولة العثمانية والقوى الأوروبية وإدارة الأزمة المصرية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «لوليتا»: فراشة «نابوكوف» المفقودة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك دُمية «إبسن» تتحدث عن نفسها 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك محمد بن السليم: «شيرلوك هولمز» الأندلس 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الأصول الجينية القديمة للمصريين 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عائشة – قصة قصيرة 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.