شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 110 لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم المشتركة لدى التجربة البشرية، يتعرف البشر من خلاله على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز التاريخ. بهذه المقولة يوجه «ماريو بارغاس يوسا»، الأديب البيروفي الحاصل على جائزة نوبل، صفعة قاسية لأوجه الحاقدين على الأدب وقراءته بصفة عامة، وأدب الرواية بصفة خاصة، بذرائع واهية الكل يعرفها جيدًا. فجميع فروع العلوم الإنسانية كالفنون والفلسفة والتاريخ… إلخ لم تستطع أن تشكل جوهرًا للحالة الإنسانية مثلما فعل الأدب، فمن الأدب الجيد يمكنك الاطلاع على جميع هذه العلوم بكل بساطة. من هذه النقطة انطلق ماريو بارغاس يوسا بديلًا عن الكثير من المؤرخين يحكي لنا قصة أحد الطغاة الذين عاشوا معنا في هذا العالم في روايته الأشهر، والتي تعتبر درة أعماله الأدبية «حفلة التيس». يحكي لنا يوسا قصة الديكتاتور «رافائيل تروخيو»، حاكم جمهورية الدومينيكان في الفترة من 1930 م وحتى 1961 م. في ثلاثة خطوط تفرقت في الأزمان واتحدت في الراوي العليم الذي يفرض نفسه كواحد من أبطال الرواية، وتقاطع اثنان منها في نفس الحدث، بينما ظل الأخير موازيًا لهما مبتعدًا عنهما في فترة زمنية تزيد على الثلاثين عامًا تدور فيها أحداث الرواية. في الخط الزمني الأول نتعرف على «أورانيا كابرال» التي تعود إلى بلدها الدومينيكان بعد هجرة دامت خمسة وثلاثين عامًا، تعود وهي محملة بكثير من المشاعر السلبية تجاه هذه الأرض. هل أحسنتِ صنعًا بالعودة؟ ستندمين يا أورانيا، تبددين أسبوعًا إجازة في الجزيرة التي أقسمتِ ألا تعودي إليها أبدًا. أهي أعراض انحطاط؟ أهي عاطفة خريفية؟ أم أنه الفضول، وأظن ذلك.. أن تثبتي قدرتك على التجول في هذا البلد الغريب دون أن يثير فيكِ ذلك الحزن أو الحنين أو الحقد أو المرارة أو السخط. في هذا الخط الزمني من الرواية نتعرف أيضًا على والد «أورانيا»، وهو «أوغسطين كابرال» الذي كان يشغل العديد من المناصب المهمة والحساسة في عهد الديكتاتور «تروخيو». وبخاصية «الفلاش باك» التي أجاد استخدامها يوسا ببراعة منقطعة النظير، تعود أورانيا بالزمن إلى الوراء وتحكي لنا بعضًا من الأحداث التي دارت في زمن هذا الطاغية. في الخط الزمني الثاني نقابل الديكتاتور نفسه رافائيل تروخيو، ويقربنا يوسا أكثر في هذا الخط من هذا الديكتاتور، يضعه تحت المنظار كاشفًا لقرائه خبايا حكمه لهذا البلد الضعيف جمهورية الدومينكان.. كيف كان يحكم هذا الشعب؟ كيف كان يتعامل مع مرءوسيه وحاشيته؟ كيف كانت حياته الخاصة؟ كل هذه الأحداث نتعرف عليها في هذا الخط الزمني. في الخط الثالث نتعرف على مجموعة من المتمردين عقدوا العزم على اغتيال هذا الديكتاتور، كل واحد منهم له دافعه الخاص وثأره الشخصي من هذا المستبد. ويمكن تقسيم الخط الثاني والخط الثالث كتأريخ لفترتين من هذا الحكم، وهما: فترة ما قبل اغتيال تروخيو، وفترة ما بعد اغتياله. قد يعتقد البعض هنا أن هذا حرق للأحداث، ولكن القارئ يعرف مسبقًا أن هذا الديكتاتور سوف يُقتل، لكن كقطع بازل مفككة، يجمعها يوسا من هذه الخطوط مكونًا أحداث الرواية، متنقلًا بسلاسة بين أبطالها، يغوص في أعماق شخصياتهم كاشفًا لنا ما يعتمل بداخلهم على مدى الأحداث. وهي واحدة من جماليات هذا العمل، سهولة الانتقال من سرد الراوي العليم بكل بواطن العمل إلى حوارات أبطاله، إلى المونولوج الداخلي والحوار النفسي لكل شخصية من شخصيات العمل، والتي على الرغم من كثرتها لم يفقد يوسا أبدًا زمام تأثيرها على مدى الأحدث. يصنع يوسا توليفة مبهرة للغاية في رواياته، وهي مهما ازداد في سرد أحداث قد تبدو عادية للغاية فإنه لا يقع في فخ الإسهاب، ولا يشعر قارئه بأي ملل يذكر أثناء الأحداث، حتى وإن كانت هادئة جدًا. الرواية مليئة بالمؤامرات والدسائس والأنظمة السياسية، مما يجعل الكثيرين يضعونها في تصنيف الأدب السياسي، ولكنها أيضًا رواية نفسية بامتياز. علاقة هذا الديكتاتور بشعبه وكيف كان يصرف أمورهم ويحكمهم بقبضة من فولاذ، علاقة هذا الشعب بحاكمهم المستبد، كيف كان يذلهم ويهينهم إلى أقصى دركات النفس البشرية، وبرغم هذا كان يأتيه شعبه طواعية مؤيدين له حتى ولو كان هذا على حساب شرفهم وشرف أسرهم، حتى المقربين منه من أعوانه في الحكم لم يسلموا من هذه الأساليب المهينة في الحكم، هذه العلاقة التي جعلت الشعب يعتبر تروخيو إلهًا يطاع تحت أي ظرف من الظروف. ولما كان اغتيال هذا الحاكم المستبد أمرًا واقعًا لا مفر منه، فعله أحد المتمردين عن اقتناع ديني بأنه يؤدي خدمة للوطن، وسيغفر له الرب خطيئة قتل نفس بشرية. والرب ينظر بعين الرضا إلى تصفية الوحش جسديًا إذا كان في ذلك خلاص الشعب.. كان يشعر بطمأنينة روحية لم يشعر بها منذ وقت طويل، سيقتل الوحش، والرب وكنيسته سيغفران له، فتلوثه بالدم سيغسل الدم الذي جعله الوحش يسيل في وطنه. تتعرض رواية «حفلة التيس» إلى بعض الإشكاليات، إحداها هي أنه عندما يتجه الكاتب إلى كتابة التاريخ، هل يتحرى الدقة في الأحداث ويسردها كما حدثت في الواقع، أم يحق له التغيير قليلًا ويضع لمسته الفنية في العمل حتى يكون للعمل طابع درامي أكثر؟ انقسم العديد بين هذين المذهبين في كتابة الرواية التاريخية، ويبدو أن يوسا من المؤيدين وبقوة للمذهب الثاني، فبرغم أن الرواية مبنية على أحداث حقيقية، فإن هناك بعضًا من أحداثها ينبغي لنا أن نقف معها وقفة قصيرة. واحدة من هذه الأحداث هي كون الديكتاتور تروخيو يحب مضاجعة العذراوات، يعشق أن يكون الغازي الأول لهذه الأراضي البريئة، وربما وضع يوسا هذه التفصيلة في الرواية التي لا نكاد نجزم بصحتها من عدمها، لربما أراد أن يبرز للقارئ نقطة ضعف لهذا الطاغية تروخيو، فهذا المستبد الذي يخشى شعبه مجرد نظرة غاضبة من عينيه لا يستطيع أن يضاجع فتاة. لا يستطيع أيضًا أن يسيطر على مثانته وعضلات البروستاتا التي غالبًا ما تضعه في بعض المواقف المحرجة بسبب هذا السلس البولي الذي يسيل لا إراديًا بين فخذيه ملوثًا بنطاله، وهذه أيضًا تفصيلة لا يمكننا أن نجزم بصحتها وهي أن تروخيو كان مصابًا بمرض التبول اللاإرادي. وعلى العموم يخبرنا يوسا أنه ما من إنسان مهما كانت قوته وجبروته، كُتب له الكمال في الصفات البشرية، فهذا من ضرب الخيال. يمكننا أيضًا أن نرى أن يوسا لم يستغل أحقيته في التغيير في أحداث واقعية، وتغلب عليه مشاعره في أن يقدم الجانب السيئ فقط من ديكتاتورية تورخيو، فنجده يلزم الحياد، وبنظرة فوقية بعيدة كل البعد عن أي أهواء شخصية يعرض لنا أيضًا الجانب الجيد من هذا المستبد، ويرينا كيف أنه نهض بجمهورية الدومينيكان اقتصاديًا، واجتماعيًا… إلخ. إشكالية أخرى وأختم بها هذه القراءة، وهي واحدة قد يتأذى منها الكثير من الأخلاقيين أو من قراء الأدب النظيف، وهي المشاهد الجنسية في الرواية. كعادة يوسا في مشاهده هو لا يضع هذه المشاهد جزافًا أو بدون مبرر، أو أنه يتحدث عن الجنس بغرض تحريك شهوات البعض أثناء القراءة، ولكن نجده يرفع من مكانة هذا الفعل، ويسمو به إلى درجات روحية، يجعله مؤشرًا للحياة. رباه.. قدم لي هذه النعمة، إنني بحاجة إلى مجامعة يولاندا إستريل كما يجب هذه الليلة. لكي أعرف أنني لستُ ميتًا وأنني لست عجوزًا، وأنه يمكنني مواصلة الحلول محلك في مهمة السير قدمًا ببلد الأنذال الشيطاني هذا. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً احذر النوبات القلبية: هل مُشاهدة المباريات تضر بصحتك؟ كيف تبحث إسرائيل عن أسراها في غزة؟ وحوش وإلكترونيات تتحكم في البشر: كيف تنبأ الفن بالمستقبل؟ تديين المعارك بدلًا من تسييسها: من الخاسر في تلك اللعبة؟ شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram عبد الرحمن نصر Follow Author المقالة السابقة نساء في حياة «دوستويفسكي» المقالة التالية كيف جعلني «Friends» أخسر أخي؟ قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك ابن جبير: عين أندلسية على مدن البحر المتوسط 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك في سوريا: الأمل أصدق إنباءً من السيف 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تورط الطبيب والمريض في معركة «لن ينجو أحد»؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ثورة أبو صلاح (سيناريو تخيلي) 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الغربة في الأوطان العربية وهجرة الكفاءات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مدخل حول الفلسفة البنيوية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك شيرين أبو عاقلة ودوائر الصراع التي تخنق الصهيونية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك العلمانية: محور الصراع الحقيقي في الشرق الأوسط 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «الشريط الوردي»: 10 نصائح للوقاية من سرطان الثدي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ويكيليكس وسنودن: مناضلون أم عملاء للاستخبارات الروسية؟ 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.