شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 70 أحاول اختطافك من بين كتاب وآخر، لكي تعيش قريباً منا أنا وابنتك… لكنك لست معنا… أعرف أنه يوماً ما سترحل… الريح دائماً تدفع عيونك جانباً… لكن، امنحني يوماً… كما لو أنه اليوم الأخير، امنحني هذا اليوم. — الزوجة آنا. بحثاً عن الزمن المفقود في فيلم المخرج اليوناني «ثيودور أنجليوبوليس» Eternity and a Day ، نرى فكرة البحث عن هذا الزمن المفقود، العمر الذي فات البطل الشاعر «ألكسندر»، الذي يتذكر حياته التي أمضاها في عزلة وانفصال عن العالم وعما حوله، منغمراً في الكتابة، بينما هو يستعد لدخول المستشفى في اليوم التالي، بسبب مرض خبيث يهدد حياته، يبدأ في عيش هذا الزمن في يوم واحد. رحلة تأملية في يوم واحد يجب أن يشمل حياة ألكسندر التي فُقدت، في شوارع ثيسالونيكي نرى الماضي والحاضر يتداخلان، الذاكرة تتقاطع مع الواقع، كل شيء يتجسد أمام عينه كما لو أنه يحدث الآن، في تأمل مركب محرك للمشاعر على نحو حاد، تأمل في الكثير من الأمور، في اللغة والموت والموهبة والحياة والذاكرة والأسرة والحب والصداقة. يبدأ الشاعر ألكسندر في البحث عن ماضيه، بعد أن تقع تحت يديه مجموعة من الرسائل التي تركتها له زوجته «آنا» تعبر من خلالها عن كم أحبته، وكم كان مسجوناً في عالمه الورقي، الذي بدا لألكسندر مزيفاً في النهاية. ألكسندر، شخص يريد أن يعيش الحياة كلها في يوم واحد، تحديداً يريد أن يبحث عن الحب من جديد، فيذهب لابنته، ولكن يدرك مدى الغربة بينه وبينها، الغربة… ذلك المرض والخواء الداخلي الذي يصيبه ويهدد حياته أكثر من مرضه الخبيث، فماذا يفعل حيال ذلك الكم الهائل من ذكرياته الذي يتدفق؟ تأخذ علاقته بزوجته شكلاً جديداً، في هيئة علاقته بصبي ألباني مهاجر غير شرعي، نرى أن كل الاهتمام والاكتراث الذي حرم ألكسندر زوجته وابنته منه، في يوم واحد يفيض به على ذلك الطفل الصغير، الذي لم يكن يعرفه، ولكن تقاطعت مصائرهم بشكل غير مرتب في أحد صولاته في شوارع ثيسالونيكي. التاريخ: حجر الأساس في محاولة مني للفهم، فإنني أحقق أفلاماً مبنية على التاريخ، أو تأملات في التاريخ. بالنسبة لي، من الطبيعي أن أحفر في الماضي الخاص من أجل توضيح وتحديد قصتي الخاصة ضمن تاريخ المكان. (1) تلك كلمات ثيو أنجلوبوليس. من يتتبع أفلامه، يجد أنه دوماً يشير إلى جزء من تاريخ اليونان فيها، والتاريخ تلك المرة كان شاعراً يشتري الكلمات… ليكتب قصيدة! أنجليوبوليس يوحِّد بين الشخصي والسياسي، فذكريات البطل بشأن الحياة العائلية تندمج مع مراحل أساسية من التاريخ اليوناني المعاصر، متأملاً في قصة الشاعر سولوموس الذي كتب النشيد الوطني ووحَّد اللغة اليونانية الحديثة. ألكسندر في حياته صنع من نفسه امتداداً لحياة هذا الشاعر، الذي كان يشتري الكلمات ليكتب قصيدة لم يكملها، مشروع ألكسندر الأدبي الهام كان أن يكمل تلك القصيدة. نجد هذا التناظر بين حياتيهما، ذلك الشاعر الذي عاش في إيطاليا، وبعد سماعه عن نضال بلاده ضد المستعمرين الأتراك، عاد ليشارك في النضال، وما كان يملك سلاحاً للنضال سوى الكتابة. ثم عاد لبلده اليونان لا يتقن اللغة جيداً، لذلك كان يشتري المفردات التي لم يسمع بها من قبله، والتي تثير مخيلته الشعرية برنينها وفرادتها. وألكسندر الذي تماهى تماماً مع الشاعر فلعب نفس اللعبة الذي كان يأتي له بالكلمات ثم يدفع له في المقابل مالاً. التوتر في سرد الحدث، جعل الماضي متصلاً بالحاضر، والتاريخ محور الحدث. فذلك الشاعر الذي يحتضر، يؤجل استعداداته للموت من أجل الاهتمام بقضية أحد الأطفال من مهاجري البلقان غير الشرعيين الذين دمرتهم الحروب، تلك العلاقة تفضي به إلى فهم أفضل لمنفاه الداخلي الخاص، بصفته راصداً مُشوَّشاً لوطنه ولحياته الشخصية في الوقت نفسه، تلك العلاقة تقرِّبه أكثر من القصيدة التي لم يكملها سولوموس، والتي يحاول ألكسندر أن يسبر أغوارها. زيارة مادية إلى الماضي اتبع ثيو أنجليوبوليس في سرد القصة طريقة عبقرية، تجسيد المعنوي بشكل مادي، كيف للذكرى أن تتحول لمكان يمكن أن يزوره الأبطال؟ «التخوم، بالنسبة لي، ليست مفاهيم جغرافية. إنها ببساطة انقسامات بين هنا وهناك، بين الماضي والحاضر، وفي هذا الفيلم، هي مسألة الانقسام بين الحياة والموت. إذا كان هناك رجل يحتضر، وهذا يومه الأخير، فكيف تقضي يومك الأخير؟ هل تتأمل الحياة التي عشتها أم تسمح لنفسك بأن تنساق… تنكشف أمام كل المصادفات… تتعقب شخصاً ما… تفتح نافذة… تلتقي شخصاً لا تعرفه… تفتح نفسك لكل ما يحدث، للمجيء غير المتوقع، للذي لا يرتبط لكن في النهاية يتضح أنه يرتبط؟ الزمن في فيلمي هو الثيمة الرئيسية، وكما يقول هرقليطس: (ما هو الزمن؟ الزمن طفل يلهو بالحصى على حافة البحر). شخصيات فيلمي يسافرون عبر الزمان والمكان كما لو أن الزمن والمكان لا يوجدان، السؤال الأهم: كم سيدوم الغد؟ والإجابة هي: الأبدية ويوم واحد». (2) تلك كلمات ثيو أنجلوبوليس. الملحوظ فيها أنه استخدم كلمة «تخوم»، مشيراً بها إلى الحد الفاصل بين الحياة والموت، ولنكن أدق، الحد الفاصل بين الذكرى والحاضر، فحاضر ألكسندر هو الموت، وماضيه هو الحياة التي فوتها. وهو يسافر بينهما، يعبرهما في يوم واحد، يوصِل ماضيه بحاضره في ساعات قليلة، فلا تعجب حينما تجده يخرج إلى بالكون شقة ابنته، فيجد حياته الماضية تتصل وتتجسد أمامه كأنه يحياها الآن، فلا تعجب حين تجده يجلس في حافلة مع الشاعر سولوموس الذي توفى قبله بأكثر من مائة عام، ولا عجب حينما تجده حاضراً بشخصه الآن في ماضيه، يراقص زوجته، يحادث أمه وابنته، لم يلجأ ثيو إلى أسلوب Flashback وتجسيد ألكسندر بشخص آخر يمثله كشاب، ولكن ألكسندر الحالي الذي عاين الموت فرجع متشبثاً بالحياة، هو الذي يعبر في كل لحظاته حياته بنفسه، كأنها حية وكأنه يحياها من جديد. تقنية أنجلوبوليس تقوم على حركات مركبة للكاميرا، ولقطات طويلة آسرة تستدعي التأمل، ثمة تباين في الإضاءة واللون بين أحداث الماضي والحاضر، أما الانتقالات الزمنية فهي بسيطة أخَّاذة متدفقة سلسة، حيث يتحرك البطل بحرية داخل وخارج ماضيه، ويحيا من جديد لحظات السعادة التي كان نسيها أو استخف بها في الماضي. ثلاث كلمات حينما شعر الفتى الألباني بمدى حزن ألكسندر، رغب في مواساته، فذهب وألقى بنفسه وسط أناس يتحدثون، والتقطت أذنه بعض الكلمات فعاد بها ليعطيها لألكسندر كي يكمل قصيدته، ثلاث كلمات أعطاها الصبي لألكسندر، كانت هي انعكاساً لذاته وحياته: قلب الزهرة… الغريب… ساعة متأخرة جداً في الليل. (3) تلك الكلمات الثلاث، تربط ثلاثة مصائر سوياً، بين الشاعر سولوموس الذي كان يشتري الكلمات، والبطل ألكسندر الذي يكمل قصيدة سولوموس، وثيو المخرج، الذي التقط الكلمات الثلاث أيضاً من قاع اللغة، وبنى من خلالها شخصية البطل، فكلمة «قلب الزهرة» هي كلمة التقطتها أذنه مُصادفةً على الشاطئ في ثيسالونيكي، وهي كلمة تستخدمها الجدات للتعبير عن إحساس الطفل حين ينام في حضن أمه. وحين نحاول أن نستخلص من حياة ألكسندر، نجدها تعبيراً عن ذلك الشعور الحميمي الذي كان يشعره مع أمه أو حبيبته حينما كان يعود لماضيه ويقضي اللحظات معهم. وكلمة «الغريب» المشتقة من أحد الكلمات اليونانية شديدة القدم ولم تعد مستخدمة، قد حصل عليها من بحار مسن، وما تعنيه ليست المعنى المتعارف عليه للغربة، ولكنها تستخدم للتعبير عن الشخص الذي ينبع شعوره بالغربة من داخله. وهي تعبر عن الشق الوجودي من القصة، حالة الروح، ألكسندر الذي أصبح يشعر بحالة من الغربة في الحياة، بعدما فوَّت لحظاته وماضيه. أما كلمة «ساعة متأخرة جداً في الليل» فهي الزمن، الزمن الذي انقضى في حياته دون أن يشعر به، والزمن الذي قضاه مع الصبي، الذي حان وقت رحيله في ساعة متأخرة جداً من الليل. ذلك الصبي ينتهي الفيلم، وما يحار فيه المرء حقيقةً، ماهية الصبي، هل هو فقط صورة تعبر عن حدث تاريخي معاصر لأثر تلك الحروب الأهلية في البلقان على الأطفال وتشردهم، حتى تؤول بهم النهاية لمجرد سلع تشتريها الأسر الغنية التي حُرمت نعمة الولد، أما أنه انعكاس لألكسندر في طفولته. ففي مفتتح الفيلم كما نراه طفلاً متعلقاً بأصدقائه، يهرب من نداء أمه منذ البداية. أم أن هذا الطفل ملك الموت؟ الذي يقود ألكسندر عبر متاهة متشابكة من الماضي والحاضر، متيحاً له التوصل إلى تفاهم مع حقيقة أن مهنته غالباً أفضت به إلى إهمال عائلته وحياته؟ أما أنه شعلة الضوء التي استخدمها ألكسندر لتنير طريق البحث داخل ذاته، يظهر ذلك جلياً في مشهد الحدود، حينما يذهب مع الصبي ويُحدِّقان في السياج سوياً، بالطبع الحدود ليست تلك صوَّرتها في الواقع، ذلك التخم المسور بالأسلاك الشائكة، الذي يحاول الأشخاص عبوره، إنما هو التخم الكائن داخل ألكسندر نفسه، ومن يحاولون العبور هم الأشخاص الذين نسيهم وأهملهم ألكسندر في قيعان ذاته طيلة حياته. والصبي يساعده فحسب على مواجهة صراعه الداخلي، أو إعطائه مبرراً للسفر عبر اللحظات الرئيسية في حياتي، ولتذكر تلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع زوجته. في النهاية يرفض ألكسندر الدخول إلى المستشفى، يرفض مساره الطبيعي، وكأنه اكتفى أن عاش الحياة على وجوهها في يوم واحد، يساوي الأبد. وعليه أن يُسلِّم جبينه إلى الموت. ينتهي الفيلم بمشهد ألكسندر محدقاً في الأفق، صوت البحر يعلو فوق كل شيء، تتردد في أذني وأذنه أبيات «بدر شاكر السياب» في قصيدته « العودة لجيكور »: وانخطفت روحي، وصاح القطارْ ورقرقت في مقلتي الدموعْ سحابةً تحملني، ثم سار يا شمس أيامي، أما من رجوع؟ مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. المراجع أمين صالح، “عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي: براءة التحديقة الأولى”، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2009، ص 39. المرجع السابق، ص 364. المرجع السابق، ص 371. قد يعجبك أيضاً علماني أم إسلامي: كيف يتشكّل مستقبل الدستور السوداني؟ آه… وآه: عوالم أخرى وراء الحرفين «القولبة»: أخطر مما نتصور رحلة عمرو دياب: من رصيف نمرة خمسة إلى القاهرة ونيلها شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram مصطفى علي Follow Author المقالة السابقة الكائن القلق: الإنسان بين الماهية الجزئية والكلية المقالة التالية رسائل من كولومبيا: الطريق إلى ماكوندو قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك رواية «ممر بِهلر»: عن الحياة التي نريدها 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك نبوءة «صامويل هنتنجتون» تتحقق في كأس العالم في قطر 2022 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحرب العالمية الثالثة: لا تخافوا ولكن كونوا مرعوبين 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «Rio Bravo»: الرجل القوي في مواجهة العالم 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك المدن المتخيلة في السرد العربي القديم: مدينة إرم نموذجًا 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك خط زمني: نضال المرأة في إيران ضد الحجاب الإلزامي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رفع الأثقال: ليس مُجرد بناء للعضلات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لماذا هجر الشباب العربي تياراته الإسلامية؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عبقرية «نابليون بونابرت» بعيون «ليو تولستوي» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كأنها حرة — قصة قصيرة 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.