«ناقة صالحة»، حينما تقرأ الاسم تظن أن هناك رمزًا ما. قبل اقتناء الرواية قد تظن أن هناك إسقاطًا لقصة نبي الله صالح وناقته، وأن هناك ربطًا لأحداث قوم صالح بتلك الرواية. ربما تدور أحداث الرواية عن قوم طغاة يقتلون البراءة والنقاء مثلًا؛ لكن ولا أي من تلك التكهنات صحيح. ما أن تُمسك بالرواية وتتناول صفحاتها الأولى ستعرف أن الأمر أبسط من ذلك بكثير، وأن العنوان مباشر وواضح وضوح الشمس في كبد السماء: هناك ناقة، وهناك صالحة؛ ليس أكثر.

بعدما تجتاز لغز العنوان وتظن أنك فطن وأن الأمر يسير ستصطدم بعقبة أخرى: ألا وهي اللغة. في بادئ الأمر ظننت الكاتب يستخدم لغة قبائلية أو بدوية أو ما شابه؛ فصرت أبحث عن معاني بعض الكلمات في معجم عربي، وكانت المفاجأة أنها كلمات عربية فصيحة! أيُّ عربية تلك التي لا أعرف وقد كنت أظنني أستطيع فهم جميع مستويات اللغة المستخدمة في النصوص المُعاصرة وحتى القديمة، إلى أن قرأت «ناقة صالحة» التي ذكرتني لغتها بلغة المعلقات التي تبدو عتيقة مهجورة هناك على أستار الكعبة منذ ما يزيد على الألف عام؛ لكن رغم غرابتها تبدو جذابة، وقورة، تشبه بيئتها الصحراوية الجافة والثرية في نفس الوقت. اللغة رغم صعوبتها بعض الشيء لكنها تضيف للنص أجواء مميزة، وكأنك تستمع لأهل البادية بحق.

صالحة وناقتها

صالحة بنت أبيها، أو ناقشة الحناء، كلها مسميات لفتاة استثنائية، هي كما وصفها حبيبها وابن خالها دخيل:

أحببت حماقاتها وقت ترتكب فعلًا مجنونًا ثم تلوذ متكورة بخيمتها، ولتشتعل الدنيا بالخارج. أحببت غباءها وقت يلتبس عليها فهم أي شيء حتى مشاعرها؛ تطلق جنون ضحكاتها إذا ما داهمها خوف أو حل بها كرب، وتذرف الدمع سخيًا في فورة فرح. أحببت وجهًا ما رأيت مثله قط، يؤاخي بين ملامح النحيب دمعًا وتقطيبة حاجبين، وبين ثغر يكركر. أحببت فيها ثيابها المشجرة المزهرة؛ كما لو أنها تستعيض بالربيع ثوبًا في الصيوف القائظة.

هي فتاة مليئة بالتناقضات تجمع بين الرقة والخشونة معًا. كان لصالحة ناقة تُحبها وتشبهها لحد كبير؛ فصالحة التي ماتت عنها والدتها فور إنجابها وناقتها كذلك ماتت أمها بعد ولادتها. صارت صالحة تتعامل مع ناقتها على أنها مرآتها وأصبح من الصعب التفريق بينهما حتى حينما أراد والدها أن يجعل لضحى ناقة صالحة أمًا بديلة أشفقت صالحة على مفارقة رفيقتها؛ ولكن لحسن حظها كانت الأم البديلة ناقة دخيل، ابن خال صالحة، والذي كان يُكن لها حبًا عظيمًا لكن دون إفصاح.

ربما كان هذا هو اللقاء الوحيد واضح الملامح بين صالحة ودخيل، حينما ذهبا لإجراء عملية معقدة لتضليل مشاعر الناقة الأم التي فقدت صغيرها وإيهامها أن ناقة صالحة هي ابنتها. بعد ذلك اللقاء لم يلتقِ دخيل وصالحة، ولكنه صبرها بأنها ستراه «في عيون الإبل»، كانت الإبل هي تيمة قصة حبهما؛ وربما لذلك زاد تعلق صالحة بناقتها لأنها ترى في عينيها دخيل، ولأنها ابنة بالتبني لناقته.

ككل القصص التقليدية لا يتزوج دخيل بصالحة ويزوجها أبوها لابن عمها لأنه كما يقال «الخال خليّ والعم وليّ». يفر دخيل بعيدًا ويترك قبيلته ودياره لأن واشيًا نظم قصيدة يهجو فيها والد صالحة ونسبها لدخيل. وهكذا انتهت قصة دخيل وصالحة.

صالح زوج صالحة يُكِنّ لها حبًا عظيمًا ولدخيل حقدًا دفينًا حتى في غيابه؛ حتى إن الشكوك تخامره ويذهب بعيدًا إلى أن طفله ليس من صلبه، رغم أن صالحة لم تلقَ ابن خالها سوى ثلاث مرات في عمرها كله، وكانت آخر مرة منذ زمن بعيد. رغم كل الحب الذي يكنه صالح لصالحة إلا أنه يعاملها بجفاء وهي كذلك؛ لكن ما أن تستغرق في النوم أو تدّعي ذلك تراه طفلًا وديعًا ينظر لأمه بتقديس وحب. ترفض صالحة هذه الزيجة وهذا الحب، وحتى طفلها ترفضه، وظلت طويلًا تلفظه من حضنها وكأنها تتبرأ منه.

بعد أعوام تبدو وكأنها ساكنة، يحدث ما يحرك مياه حياة صالحة ويذكرها بنفسها قديمًا، ويعيدها لنقش الحناء التي كانت قد قاطعتها منذ تزوجت صالحًا؛ ثأرًا لحب دخيل للحناء في يديها، فلم تخضبهما من بعده. كان دخيل يحب نقش صالحة للحناء في يدها وليست أي حناء، وكانت صالحة عسراء لا تجيد فعل أي شيء بيدها اليمنى فكانت تترك أمر خضاب يدها اليسرى لأخرى، وحده دخيل لاحظ ذلك وأخبرها أنه يحب نقش الحناء في يدها اليمنى.

تجتر صالحة شريط ذكرياتها هذا حينما تصبح أمام قرار اللحاق بزوجها حيث ذهب،
وحيث يوجد دخيل. أهو الخوف على زوجها أم الشوق للقيا دخيل الذي دفعها لخوض مضارب
الصحراء وحدها ورضيعها، ومعها ناقتها وضحى ورضيعها كذلك. وضحى تشبه صالحة في كل
شيء حتى وإن كان قاسيًا، إلا في تلك المرة حينما تدهم رضيع صالحة بقدميها وتثكل
صالحة وتحتفظ هي بأمومتها؛ لكن صالحة لن تتركها تفارقها في حزنها هذه المرة وتنحر
صغيرها أمام عينيها كما دهمت هي رضيعها أمام عينيها!

الصحراء كما لم نعرفها من قبل

صحراء سعود السنعوسي غير أي صحراء قرأنا عنها من قبل؛ فهي لا تشبه مثلًا صحراء بهاء طاهر في «

واحة الغروب

»، صحراء بهاء طاهر كانت بعيني غريب فر إليها هربًا من نفسه واتخذ منها منفى، أما صحراء سعود السنعوسي فصحراء عارف مُقيم ترى فيها الوطن والألفة.

في «ناقة صالحة» توجد صحراء غير تلك التي نعرفها وغير الصورة التي تتوارد في أذهاننا حينما نسمع لفظة صحراء. الصحراء لمن جهلها متاهة، ولهيب شمس، ووحشة ليل، أما في «ناقة صالحة» فالصحراء دافئة كحضن أم، مُلهمة كمقطوعة موسيقية عتيقة، مؤنسة كرفيق مخلص. سكان البادية رغم خشونة حياتهم يمتلكون قلوبًا كبيرة ومشاعر فياضة ويشهد بذلك تاريخ العرب الطويل وأدبهم الجليل في الغزل والشوق؛ لكن حبهم ليس كحب أهل الحضر، فحبهم قاس كظروفهم لا وصل فيه، ولا طول نظر، ولا أمل.

دخيل في «ناقة صالحة» يُمثل الرجل البدوي المثالي؛ فهو العارف بكل مضارب الرعي وكل مقومات حياة البادية، وهو كذلك الشاب العاشق رقيق القلب حيي النفس عفيف الروح الذي برغم حبه لابنة خاله لم يفصح بذلك أبدًا ولم يرفع عينه في عينها سوى مرة واحدة، كان يعشقها بروحه لا بجسده.

هذه الرواية تقربنا إلى حد كبير لحياة البادية، وتجعلنا نراها مألوفة كمدننا التي نحيا فيها؛ فنرى السفر في الصحراء وشق دروبها ليس بتلك الصعوبة، فصالحة امرأة وحيدة ضعيفة خاضته وحدها، نرى أجواءها القاسية يمكن أن تكون حانية عن الكثير من مدننا الصاخبة. كذلك ثياب أهل البادية التي ننظر لها بعين غير فاحصة، ونراهم جميعًا متشابهي في كل البوادي؛ إلى أن نعلم من تلك الرواية أنه في الدولة الواحدة وفي الصحراء الواحدة لكل قبيلة طريقة معينة في ارتداء العقال، وكيف يميزون هم ذلك بسهولة ونحن لا نفعل.

خدعة مُضاعفة

في أحد مقالات الراحل أحمد خالد توفيق في كتابه «اللغز وراء السطور» بعنوان: «

دعني أخدعك.. دعني أنخدع»

، يحكي عن ماهية العلاقة بين القارئ والكاتب وأنه يتم اتفاق ضمني بينهما، أنني أعلم أنك ستخدعني وستصنع لي عالمًا ما، بشخوص ما، وأحداث ما كلها من نسج خيالك؛ لكنني سأتأثر بهم وسأنفعل وأتفاعل مع خيالك وكأنه حقيقة. هذا أمر مفهوم بالنسبة لكل قراء الأدب.

سعود السنعوسي في نصه الذي بين يدينا تمرد على هذه القاعدة وخدعنا حقًا؛ لدرجة أنك قد تظن بنفسك البلاهة وتعيد قراءة النص وتضرب كفًا بكف: ما هذا؟ هذا ما لم نتفق عليه. هذه الخدعة الروائية في نهاية العمل لا تضيف له أي شيء من الناحية الأدبية، لكنها وسيلة من وسائل الكاتب في التمرد على النص وعلى نهايات الروايات التي تنحصر بين مفتوحة ومغلقة. على كل خداع الكاتب لقارئه مثل كذب الطفل على أمه ما يلبث أن ينكشف. الخدعة الروائية في «ناقة صالحة» كانت قاسية هذه المرة، لكن ما أن تفطن للأمر ستبتسم رغمًا عنك وستصر على أن تنخدع، لكن خدعة النص الأولى التي ذكرها أحمد خالد توفيق وتنسى خدعتك الكبرى!

كويت سعود السنعوسي

في الكتابة حلمتُ أن أحكي وطني بكل وجوهه المتناقضة، ذاكرة زرقاء لوطن أصفر، سواحل وصحراء وأشجار نخيل عطشى، وبيوت شيَّدتها الشَّمس من الطين، سُفُن خشبية عتيقة تتسلَّق جبال الموج إلى الهند وأفريقيا، وقوافل جِمال تجوب الصَّحراء أبداً، وأسواق قديمة لها روائح زفر الأسماك والتوابل والعطور العربية والبخور. بالكتابة أحلمُ أن تكون لي «كويت» تخصُّني، مثل سودان الطيب صالح، وقاهرة نجيب محفوظ، وهند طاغور، وداغستان رسول حمزاتوف، ويابان كاواباتا، وكولومبيا غارسيا ماركيز، وباريس فيكتور هوغو.

أحفظ بلادي من النسيان وهي ترتدي كل يومٍ ثوبًا جديدًا من «الكونكريت» الصامت البارد.

في الكتابة أحارب النسيان والموت، لأني أخاف أن أَنسى أو أُنسى، فالكتابة تمنحني فرصة مُخاطبة الأحياء بعد موتي، يتعرفون من خلالي إلى زمن بعيد.





سعود السنعوسي

في «ناقة صالحة» ترى جانبًا من كويت سعود السنعوسي الذي طالما حلم بأن يريه لنا؛ فنحن لا نعرف عنها ولا عن دول الخليج سوى النفط، والكثير من النقود، وحياة مرفهة تدفع للكسل والتخمة.

صحيح أن بلاده ليست بحضارة وتراث قاهرة نجيب محفوظ، وليست بتنوع هند طاغور؛ لكنها تملك من الجمال ما يعلمه وحده، هي أيضًا فيها ما فيها من أزمات ومشاكل كبقية دول العالم، لكننا لم نكن نعلم ذلك من قبل. استطاع سعود بعينه المُحبة، المُلمة بطبيعة وطنه ومجتمعه، أن ينقل لنا صورة كاملة عمن تكون الكويت، وكيف كانت، ويكتبها لكي يراها كيف ستكون أو كما يُحب أن تكون.

في «ناقة صالحة» نلمس الرمال بأناملنا، وننيخ الناقة مع صالحة، ونشرف من بعيد على عملية الولادة المتعسرة المفتعلة لناقة دخيل بأعين فضولية مذهولة، ونرى صحراء الكويت لأول مرة.

سعود السنعوسي كاتب مليء بوطنه يحمله معه في كل رواياته، وينثره على الورق وصورته في كل من أوراقه لا تشبه الأخرى، بهذا القدر من التنوع والجمال يمكننا أن نرى الكويت في أدب سعود السنعوسي.