يا أمتي وجبَ الكفاحْ.. فدعي التشدُّقَ والصياحْ

ودعي التقاعُسَ، ليسَ يُنصَرُ من تقاعسَ واستراحْ

ودعي الرياءَ فقد تكلَّمَتِ المذابحُ والجِراحْ!





من شعر «يوسف القرضاوي»

نحن الآن في عام 2004، بعد مرور عامٍ على الغزو الأمريكي للعراق. كانت شوارع المدن العراقية في ذلك الوقت، لا سيّما في ما يُعرَف بالمثلث السنِّي، تنفجر بأعمال المقاومة الحربية ضد القوات الأمريكية وحلفائها.

المكان هو أستوديو برنامج «الشريعة والحياة» على قناة «الجزيرة»، على بعد بضعة كيلومترات من قاعدة العديد الأمريكية في قطر، مقر القيادة الأمريكية الوسطى، وواحدة من أهم القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط. الضيف الدائم للبرنامج آنذاك هو الشيخ «يوسف القرضاوي»، وأمام الشاشة شابٌ صغير عمره 15 عامًا، هو كاتب هذه السطور، الذي كانت يتخبّط في خطواته الأولى في فهم الدين والحياة، وتتناوشه سهام الأفكار المتضاربة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتعتصر قلبَه الغض المواقف المخزية للشيوخ الرسميين الذي يضبطون الدين على موجات الحكومات ومواقفها التابعة.

في تلك الحلقة، وجّه أحد المُتصلين من الجمهور سؤالًا صريحًا للشيخ حول أعمال المقاومة المسلَّحة ضد الاحتلال الأمريكي في العراق. توقَّعت -أو للدقة خشيت وأنا الذي بدأت أجد في أفكارِ الشيخ مُستراحًا فكريًا لي- أن يتهرَّب الشيخ أو محاوره من السؤال، أو يلتفّ حول الإجابة، لكن جاءت إجابة الشيخ قاطعة ليس فيها تردد، بأنَّ الجهاد المُسلَّح ضد المحتل الأمريكي في العراق فرض عيْن على كل عراقيٍّ وعراقية حتى زوال الاحتلال. دمعت عيني القاحلة عادةً، وتأثرت بصراحة الشيخ وجرأته، وأصبح له منذ ذلك الحين موقع في الصدارة بين من أثَّروا في فكري ووعي وعملي.

وزاد التفافي حول الشيخ عندما لعب دورًا رئيسًا عام 2004 في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي ضمَّ فيه ممثلين من كافة الفرق الإسلامية السنية والشيعية والصوفية، والمحسوبين على الخوارج مثل الإباضية، وانتسب إليه المئات من الرموز الإسلامية التي كنتُ أحترمها من أقطارٍ إسلامية عدة. واستمرَّت متابعة لبرنامج

«الشريعة والحياة

» على شاشة الجزيرة زادًا أسبوعيًا من الفكر والانغماس في الواقع.

في الربيع والخريف

يا قومِ إنَّ الأمرَ جِدٌّ …. قد مضىَ وقتُ المًزاحْ

ماعادَ يُجدينا البكاءً على الطُّلولِ أو النُّواحْ

لغةُ الكلامِ تعطَّلَتْ ….. إلا التكلُّمَ بالرِّماحْ

إنَّا نتوقُ لألسُنٍ بُكْمٍ على أيدٍ فِصاحْ





من شعر «يوسف القرضاوي»

ننتقل إلى مساء يوم الثاني من فبراير/شباط من عام 2011،  وهو يومٌ لا يُنسى في الذاكرة المصرية، حيث شهد ما عُرف بموقعة الجمل إبّان أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير. في ذلك اليوم شهد ميدان التحرير في قلب القاهرة اشتباكات دامية بعدما اقتحم الآلافُ من البلطجية على صهوة الجمال الميدانَ. كان للشيخ مداخلة شهيرة على قناة «الجزيرة» في هذا اليوم الدامي، هاجم فيها الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، كان أبرز كلماته فيها عارُ عليكَ أن تقتلَ شعبَك، وأيَّد الشيخ بقوة استمرار الثورة ومطالبها.

قدَّرتُ كثيرًا موقف الشيخ، فقد كانت الثورة تترنَّح بشدة في هذا اليوم، وخذلها أغلب العلماء المسلمين في مصر لا سيَّما من الأزاهرة والسلفيين، الذي اعتبروها خروجًا مذمومًا على الحاكم، فكان لدعم الشيخ الذي كان في ذروة شعبيته آنذاك ثقلٌ شعبيٌّ كبير. ومن جانبٍ آخر، اعتبرت موقفَ الشيخ ذلك الوقت العصيب لا يخلو من شجاعةٍ فردية، فقد كان يخاطر بعلاقةٍ متوترة بالفعل  بينه وبين النظام المصري، كان أقل ثمنٍ سيدفعه لو فشلت الثورة في ذلك الحين هو المنع التام من دخول مصر، ومصادرة ممتلكاته به، وليست بالقليلة.

بعد 16 يومًا، وفي لحظة مكتظة بالمشاعر والتأثر -والحسرات الآن- خطب الشيخ القرضاوي

خطبة الجمعة الأولى

بعد رحيل مبارك من قلب ميدان التحرير، أمام مئات الآلاف من المحتفلين بالثورة، لا أنسى منها رسالته إلى الحكام العرب ألا يقفوا في وجه موجة ثورات الشعوب العربية، وأن ينحنوا لمطالبها بالإصلاح، وألا يواجهوها بالقوة. وبالطبع ذهبت تلك النصيحة أدراج الرياح في سنوات الخريف المتطاولة، ورأينا كيف دُمِّرت أو تخبَّطت دول الربيع العربي كافة، وفقد عشرات أو مئات الآلاف من الأبرياء أرواحًا كان يمكن حفظها.

انتقد كثيرون في سنوات ما بعد 2011 مواقف الشيخ القرضاوي الحادة ضد بعض الحكام العرب لا سيما في سوريا وليبيا، وإضفائه الشرعية على القتال المسلَّح ضد نظاميْهما، وإن تضمَّن الاستعانة بقوىً أجنبية، واعتبروا هذا تناقضًا منكورًا مع مبادئ الشيخ الإسلامية، ومواقفه السابقة قبل سنوات التي أشاد فيها مرحليًا بالأسد وبالقذافي.

شخصيًا تفهمت بعض تلك الانتقادات، لكن في المقابل رأيتُ أن الشيخ لم يتناقض بالكلية عندما تغيَّرت فتواه بتغيُر الحال، فالأسد والقذافي اللذيْن أشاد بهما الشيخ سابقًا في سياق مواجهتهما للهيمنة الأمريكية في بعض المواقف، لا يمكن أن يكون هذا هو نفس الموقف منهما بعد أن شرعا في الحفاظ على سلطتهما في مواجهة الثورة بالقصف والتدمير والتهجير، وكذلك الاستعانة في سبيل ذلك بقوى إقليمية ودولية في الحالة السورية.

وكما قال الشيخ في

لقائه مع المحاور علي الظفيري

في برنامج «المقابلة» على شاشة «الجزيرة»:

فالعالم المسلم هو جزءٌ من أمَّته المسلمة، لا يجوز أن يكونَ في وادٍ، وأمته في واد آخر، فالعالم في مقدمة الأمة.

لقد حمَّل البعض الشيخَ القرضاوي مسئولية مآسي انهيار الربيع العربي ودمائه، وأرى في هذا ظلمًا كبيرًا للرجل، فهو لم يصنع الحدث بشكلٍ مباشر، ولم يحرك الجماهير ابتداءً، ولم يواجهها انتهاءً، إنما أخذ ما رآه الموقف الشرعي والأخلاقي الواجب من حركة الجماهير، ومن رد فعل السلطة الغاشم على تلك الحركة، والإنصاف يلزمنا ألا نحمِّل الشيخ فوقَ ما ينبغي، فمسئولية الدم بالأساس على كل من ارتكب القتل وأصرًّ على تدمير الأوطان لإخضاعها.

معادلات الوسطية الصعبة

وما دام الإنسان مُؤلَّفا من قبضة الطين ونفخة الروح، أو بلفظ آخر: من الروح والبدن، فإن لروحه عليه حقًّا، ولبدنه عليه حقًّا، وعليه أن يُعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا يجوز أن يغفل عن جانبه الروحي حتى يصدأ ويظلم.





الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه «فقه الوسطية والتجديد في الإسلام».

قبل 20 عامًا، عثرت على كتاب «الحلال والحرام في الإسلام» الذي ألَّفه الشيخ في مطلع الستينيات، وكنتُ حينها صبيًا يحاول التديْن، متأثرًا -حتى العمق- بالسلفية الوهابية التي نشأتُ في أجوائها في سنواتي المبكرة في السعودية. وكان لقائمة المحرمَّات الطويلة، والأفكار التقليدية غير المُقنعة لعقلي الذي يميلُ لإطالة التأمل والتفكير، آثارًا نفسية مربكةً ومُكدِّرة لعلاقتي الناشئة بديني وبالواقع الذي أحياه. وكنت سمعت عن الكتاب لأول مرة من بعض الساخرين منه في السعودية الذي تندَّروا عليه.

قرأت الكتاب في نصف يومٍ، وشعرت بما يعنيه حرفيًا ومجازًا وصف (إثلاج الصدر)، وعظُم في قلبي وعقلي الإسلامُ كدينٍ وسط بين سمو الروح ومطالب النفس، ونصيبيْ الجد واللهو. وهكذا صالحَني الشيخُ على نفسي، بأسلوب عميق البساطة لم يُعجزْني استيعابه كطفلٍ يتفتحُ وعيُه. ولما تكاثفت قراءاتي لاحقًا، وتحوَّرت شخصيتي وأفكاري وتجاربي طورًا بعد طور، لم يزدني ذلك إلا اقتناعًا بأكثر ما سطَّره الشيخ في هذا الكتاب وسواه مما قرأته له لاحقًا.


ولعلَّ أهم ما يُمكُنْ تعلُّمَه من الشيخ هو اتخاذ المواقف المركبَّة، التي تتناسب مع تعقيد الحياة والأفكار، بعيدًا عن قوالب الأبيض الناصع والأسود الحالك. فمثلًا في الموقف من الحضارة الغربية، لم يتردَّد الشيخ في الإشادة بكثير من منجزاتها في الحريات والديمقراطية والتصنيع والتقدم، ومدَّ يد التعاون والإعجاب لكل دعاة الحق والحرية في الغرب.

الغرب كله ليس شيئًا واحدًا، من الظلم أن نقولَ إنَّ الغربيين كلهم صليبيون، أو الغربيون كلهم أعداء لنا. لا بد أن نُصنّف الناس كما علّمنا القرآن.





الشيخ القرضاوي في إحدى حلقات برنامج «الشريعة والحياة» على قناة «الجزيرة»، في سياق إشادته بموقف كثير من الغربيين الرافض للحرب ضد العراق عام 2003.

في المقابل، ينتقل الشيخ إلى لهجة صراعية حادة عندما يناقش قضية الهيمنة الغربية على مقدرات الأمة الإسلامية السياسية والفكرية والاقتصادية. ولا يتردد في دعم المقاومة العربية والإسلامية ضد الاحتلال والتطبيع، ويدفع ثمن هذا من مواقف غربية حادة ضده، وصلت إلى حد منعه من دخول العديد من البلدان كالولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا.

عادَ الصليبيونَ ثانيةً *** وجالوا في البِطاحْ

عاثوا فسادًا في الديارِ *** أنَّها كلأٌ مباحْ

عادوا يريقونَ الدماء *** لا حياءَ من افتضاحْ

وفي قضية السنة والشيعة، وإبان العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف عام 2006، كان الشيخ في صدارة

من واجهوا المواقف الطائفية

التي صدرت لا سيّما في الخليج العربي ضد حزب الله اللبناني، وإصدار الفتاوى لاستنكار دعمه ماديًا ومعنويًا في هذه الحرب، وأشاد بمقاومة حزب الله ضد إسرائيل. لكنه لم يترددْ أن يأخذ الموقف المعاكس تمامًا عندما تدخّل حزب الله عسكريًا دعمًا لنظام الأسد ضد الثورة السورية، وشارك في قمع الشعب السوري وتهجيره،

فوصفه الشيخ بحزب الشيطان

، وخاطر بالرصيد الذي قد بناه على مدار سنوات من الانفتاح مع الشيعة، وأصبح في نظر الملايين منهم (مفتي الناتو) و(الشيخ المتأمرك).

خاتمة

ليس هدفي من هذه السطور أن أضفي على تراث الشيخ القرضاوي مثالية سحرية، فهو تراث بشري يعج بالاجتهادات الصائبة والخاطئة، لا سيّما وقد مدَّ الله في عمر صاحبه ما يقارب القرن من الزمن، بلغ خلالها من العمر وطاقة الذهن والعقل عتيًّا، واقتحم خلالها العديد والعديد من المناطق الفكرية والسياسية الشائكة، فمن البديهيُّ أن تُثارَ حولَه زوابع من المواقف الحادة المتباينة من ذروة المدح إلى هُوَّة القدح. وشخصيًا كان لي نصيبٌ من مثل هذا النقد للشيخ العزيز رغم أثره الإيجابي الكبير في نشأتي وأفكاري وتفاعلي مع الدين والدنيا.

كلُّ ما آمله، ألا تؤدي التنازعات السياسية والفكرية حول الشيخ، التي بدتْ حاضرةً بقوة في لحظة وفاته، إلى حرمان كثيرين من الاستفادة بالتراث التجديدي الوسطي للشيخ، الذي أسهم بقدرٍ بارز في تخفيف غربة الشريعة الإسلامية في الحياة الحديثة، وفي كسر موجات الغلو الديني المختلفة، والاقتداء به كذلك في تحمل ضريبة الموقف مهما كانت باهظة، وإن لم يعنِ هذا الاتفاق الكلي معه في كافة مواقفه.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.