شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 45 تحت أحد أفران حرق الأجساد البشرية في معسكر أوشفيتز النازي، دفنَ أحد أعضاء قوات أمن المعسكر ورقة كتب فيها «لا يمكن تصوّر أن يتمكّن أي شخصٍ من سرد الكيفية التي تحدث بها تجاربنا». بعد 17 عامًا من اكتشاف قوات الحلفاء للمعسكر، ستُكتشف هذه الورقة. وبعدها بعدة عقود سيعتمد عليها جورجيو أجامبين، كعادته في اللياذ بالوثائق النادرة ذات الدلالات الفائقة، في بناء رؤيته في كتابه «بقايا أوشفيتز: الشاهد والأرشيف». كان السؤال الملحّ بشأن مثل هذه التجارب المروّعة: كيف نتحدث عما جرى؟ إلى أي حدٍ أصلاً يجب أن نحكي ما حدث؟ العَود الأبدي لأوشفيتز سيكتب الناس عن هذا المنظر لمئات السنين، ومن رآه لن ينساه أبدًا. — مارثا جيلهورن – «هيمنجواي وجيلهورن» على خلاف أغلب الكتابات التي تمّت عن معسكر أوشفيتز، لم يهتمّ أجامبين برصد تفاصيل الحياة اليومية وروتينها، فهذا أمر تمت تغطيته بشكلٍ رائع بواسطة الكثيرين بالفعل، وإنما اهتم بالتركيز على نظرية الشهادة ذاتها، وممارسة هذه الشهادة. الشهادة التي تشكل نقطة التقاء وافية، بين المعرفة التاريخية، وبين الأخلاق التي تعرّضت لاختبار حاسم في تلك التجربة. هذه الأخلاق ترتبط بمجموعة من القيم الفارقة، من بينها قيمة «المسئولية» و«الشعور بالذنب». هذه القيم تتصارع عليها الأخلاق، والقانون، لدرجة أن تداخل القانون معها سيعطينا مفهومًا ملوثًا متشظيًا للمسئولية لا يمكن إصلاحه، والنتيجة المفترضة لمثل هذا التلوّث أن نحصل على «أخلاق عالية الأوشفيتزية»، وهي ما يلقينا في منطقة رمادية كريهة. ولتجاوز هذه المنطقة الرمادية، يستعين أجامبين بمقولات فالتر بنيامين حول «القضاء على ما هو غير مستحيل» في اللغة، ليصل في النهاية إلى تبديد كلّ هالةٍ من القدسية والسرية بغرض فهم ما حدث في أوشفيتز وما تبقى منه، وكسر جدار الصمت، وتفادي التورّط في الخطأ بسبب التبجيل الزائد لمعاناة الآخرين. وهذا التوجه منه سبّب لاحقًا هجومًا كبيرًا على الكتاب؛ لأنه ألغى فرادة تجربة «أوشفيتز»، وقال إنه من الممكن حدوث فظائع مماثلة، وعلينا أن نفهم أوشفيتز جيدًا كي يساعدنا هذا في فهم الفظائع المماثلة، الواقعة أو المحتملة. ولفهم ما جرى في أوشفيتز، كان عليه أن يتحصّل على الشهادات؛ لكن مِن أين له أن يحصل على شهادةٍ كاملة، تفسح لغتُها المجالَ لما ليس بلُغة؟! عباد الله السعداء إنني أخاف، لكني لا أخاف من الضرب ولا من الموت؛ أخاف أن أموت بين هؤلاء الناس. أريد بعد هذا الضرب المبرح أن أعود إلى السقيفة رقم خمسة. وأُسلِمَ الروح بين المرضى، فالموت بينهم سهل. ويخيل إلي أنه سيكون مريحًا. عيناي مغلقتان أرى الذين ينازعون الموت في زاوية السقيفة رقم خمسة. أريد أن أختلط بهم وأن أموت معهم. إنهم عباد الله السعداء. — جنكيز ضاغجي، السنوات الرهيبة جنكيز ضاغجي، ضابط قِرمي ضمن الجيش الروسي، أسرته القوات الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وأودعوه أحد معسكرات الاعتقال النازية، ودوّن جزءًا كبيرًا من تجربته في هذه الرواية، التي نشرها في 1956م. وهؤلاء الذين يصفهم بـ«عباد الله السعداء»، هم الذين ذكرهم لاحقًا في عام 1961م المحلل النفسي برونو بتلهايم الذي كان رهن الاعتقال في معسكر أوشفيتز النازي، باعتبارهم المسجونين الذين تنازلوا عن إرادتهم تنازلاً كاملاً، وأذعنوا، وتركوا للحرّاس تحديد وجودهم كله، ومن ثمّ أصبحوا أشبه بالكائنات الآلية (وكان يطلق عليهم المستسلمون)، وسرعان ما ماتوا بالفعل. يعلّق المعالج النفسي الشهير أنطوني ستور منوّهًا بجزئية الإرادة «ويبدو أن البقاء كان يعتمد على الاحتفاظ بمنطقة صغيرة يكون القرار فيها مِلكًا للسجين ذاته». ويأتي أجامبين، في كتابه «بقايا أوشفيتز: الشاهد والأرشيف»، 1998م، ليخصّص فصلاً كاملاً عن هؤلاء المستسلمين. المستسلم/«الخلصان» (Muselmann)، هو سجين وصل إلى حالة من الإحساس البدني واليأس النفسي، تجعله متوحدًا مع الموت، وميّتًا قبل الموت، يقضي ما بقي له من حياته القصيرة جدًا على هامشٍ من حياة بلا إنسانية، حيث المساعدة والكرامة واحترام الذات كلمات عديمة الفائدة لا دلالة لها. والتسمية مشتقة بالأساس من لفظ «المسلم» في العربية، التي تعني تسليم النفس لإرادة الله دون قيد أو شرط. هذا المستسلم هو أكثر الشهود كمالاً؛ لأنه الوحيد الذي شهدَ أسوأ الأسوأ وأكمل التجربة حتى نهايتها ولمس قاع المعاناة، إلا أنه -كما يتحسّر أجامبين- لا يبقى على قيد الحياة بعدها ليخبرنا؛ لا يمكنه أن يشهد. أولئك الذين تتطلب قصصهم أن يرووا أكثر، لم يعيشوا ليحكوها، وإن عاشوا -فرَضًا- فأين تلك اللغة التي قد يؤدّون بها شهاداتهم على غور التجربة؟! ويبقى على عاتق الناجين أن يخبروا عن أولئك الذين قضَوا، أسماءهم وذاكراتهم، وما كان يجري معهم ظاهريًا. لكن شهادة الناجين مهما تذكروا فيها من التفاصيل، تظلّ شهادةً منقوصة. ولا يقدح نقصان شهادات الناجين في ضرورتها، ففي النهاية يشكّل اجتماع هذه الشهادات معًا إطارًا ممتلئًا بتفاصيل الصورة، وتستعيد التجربة حياتها ليجري التعامل معها بما يلزم ويليق. في شهادة الناجين استعادة للحياة، وفي تنازل المستسلم استلابٌ لها. وإن كانَ البعض يعتبر المستسلم مقاومًا سكونيًا اختار الانتقال إلى منطقة لا ينصاع فيها للأوامر ولا يؤثر في العقاب، فهناك في مقابله مَن يجدر أن نعتبره مقاومًا ديناميًا بطلاً. من أوشفيتز إلى القاهرة سيبقى دائمًا ناجٍ على قيد الحياة ليروي ما جرى. — حنا أرنت – أيخمان في القدس يحكي بريمو ليفي، أحد مؤرخي أوشفيتز، مقولةً لأحد ضباط إس إس يقول فيها «ربّما خسر النازيون الحرب ضد الحلفاء، ولكنا قوات إس إس قد ربحنا حربنا ضد الأسرى». الحرب التي كان يعنيها هذا الضابط العربيد حربٌ على الذاكرة، العدو الحقيقي فيها هو الألم. الألم حربٌ ضد الذاكرة، وهو يعلم جيدًا أنه كلما زادت جرعة الألم، كلما خسرت الذاكرة في هذه الحرب أرضًا؛ لذا لم يدّخروا جهدًا في إيصال المعاناة إلى أقصاها. ما تبقى من أوشفيتز بالنسبة للعديد من الناجين منه هو ماضٍ عائدٌ مرتقَب لم يحن بعد، يحملون داخلهم عارَ الأبرياء الذين عاشوا ليدلوا بشهاداتهم، عدا أن شهاداتهم مليئة بفجوات الذاكرة (ثقوب النسيان كما تسميها حنا أرنت)، التي يختفي فيها الخير والشر، ويعاد تغطية مكانهما بتوافه روايات مَن فعلوا بهم كل ذلك، وهم يجيدون أداء هذا الدور جيدًا، عبر تغيير أطر هذه الذكرى وظروف الحياة والظروف الاجتماعية، كما يحلل يان أسمن في «الذاكرة الحضارية»، بحيث يطغى النسيان والتجاهل، وتنزوي الذاكرة وتتعطل العدالة. في خبرة مجتمعنا المصري خلال العقود الأخيرة، وخاصة العِقد ما بين 2010 و 2020م، مررنا بنوازل سياسية وأمنية ووجودية رجراجة، بدءًا من انتفاضة يناير والعراك الذي جرى داخل أحشائها، وأحداث العباسية وماسبيرو ومحمد محمود، مرورًا بأحداث الانقلاب العسكري والحرس الجمهوري والمنصة ورابعة والنهضة، وصولاً إلى التحالفات المتقلّبة والصراعات الغامضة مع الإرهاب والصراعات داخل أجنحة السلطة والأجهزة السيادية، وانتهاءً بالمخاطر الوجودية الكبرى من وباءٍ وكوارث بيئية. أغلب ما لدينا عن هذه الأحداث مليء بفجوات الذكرى وثقوب النسيان؛ وربما يرجع ذلك بالأساس إلى ما شخّصه بيار كونيسا في «صُنع العدو»، من أن محاولات التعايش والتأقلم [بعد النوازل السياسية] – وفق هوى السُلطة وترتيبتها- من دون عملٍ للذاكرة أو العدالة أو كليهما معًا، تشكّل قيدًا لسياسةٍ عامةٍ معيشةٍ بصورة سيئة. قيد السياسة العامة هذا قد يكون حرمانًا من الحق في المعلومات، وحرمانًا من الحقّ في الذاكرة، وهي حقوق أصيلة؛ إلا أنها لا توافق هوى السُلطة وترتيباتها ولا تخدم أغراضها ومصالحها عادةً، كما يتهكّم تشارلز بيتز في كتابه «فكرة حقوق الإنسان». والمعادلة معروفة: «مَن يتحكّم في الماضي سيتحكّم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي» كما يذكر جورج أورويل في روايته 1984. وبالمقابل، فإن محاولة التعايش والتأقلم التي ينوّه بها كونيسا، تأتي محمّلة بتراكمات الصدمة، وأعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة، وخاصةً أعراض «التجنب» للأشياء والأفكار والمشاعر والأماكن وكل ما هو مرتبط بالحدث، كمحاولة طبيعية لتفادي الألم النفسي والذهني. وهو ما يلزم منه التناسي عمدًا أو النسيان قسرًا، وتتسع رقعة الناسين والمتناسين لتشكّل فجوةً في الذاكرة وثقبًا للنسيان وبقعة عمياء في الوعي الجمعي. والنتيجة أننا نصل إلى نماذج وصل بها التعايش والتأقلم إلى أقصاه فيما يشبه حالة «مستسلم أوشفيتز»، أو في أحسن الأحوال ناجون يكتنفهم العار والخجل والاستياء والانسحاق واللا يقين (الذي ينخر في رسالتهم التاريخية والشخصية، وأدوارهم الحياتية الطبيعية) كما يقول أجامبين، يدفنون معهم الذاكرة والخبرة. لكن عادة النوازل السياسية أن تتكرّر؛ وبما أنها كذلك، فمن الأفضل للناس حينئذٍ أن يجدوا في ذاكرتهم ما يعينهم على التعامل معها، ولن يتحقّق لهم ذلك طالما قطع جيلٌ أو شريحةٌ من المجتمع تيارَ الذاكرة وقصّر في أداءِ مسئوليته الفردية والتزامه الجماعي تجاه ثقافة التذكّر، والحقّ في الذاكرة. خطورة الذاكرة هنا أنها حق أساسي لا ينبغي التفريط فيه، وأنها كما يقول يان أسمن، «لا تستعيد الماضي وتعيد بناءه وتركيبه وحسب، وإنما تنظم أيضًا خبرة الحاضر والمستقبل»، وتعيدُ إلى مَن فقدوا بعض ذاكرتهم تحت وطأة التجربة بعضَ الاعتبار والجدارة الإنسانية. أكثركم ناجون أبرياء؛ وعلى كل ناجٍ أن يؤدّي شهادته، ولا يحقرنّ من شهادته شيئًا جرى، حتى وإن مرّ مرورًا عابرًا بجوار مذبحة. المراجع «بقايا أوشفيتز: الشاهد والأرشيف». الإنسان المستباح الثالث، جورجيو أجامبين، 1998م. «الذاكرة الحضارية»، يان أسمن، 1977م. «ذاكرة القهر»، بسمة عبد العزيز، 2014م. «صنع العدو: كيف تقتل بضمير مرتاح»، بيار كونيسا، 2011م. «السنوات الرهيبة»، جنكيز ضاغجي، 1956م. «فن العلاج النفسي»، أنطوني ستور، نقلاً عن كتاب «القلب النابض» لبرونو بتلهايم 1961م. «التاريخ والحقيقة: بين مفاهيم الضمير والذاكرة والعدالة الانتقالية»، مريم أبو غازي ومنة المصري، 2015م. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً أساطير من درب التبانة — قصة قصيرة ريادة «الأميرة فاطمة» في مجانية التعليم جوزيه ساراماجو: تحطيم الأساليب التقليدية للكتابة مُحيي إسماعيل: المُتفلسف الذي أعاد اكتشافه الشباب شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram محمد السيد أبو ريان Follow Author المقالة السابقة أوقاف محمد علي ومخصصات تكية مكة في أيام الشوربة والتوسعة المقالة التالية وقفية جزيرة «طاش أوز» شرق المتوسط قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك عن جيل لا يخشى الزومبي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الرمز Rx في الروشتة: هل فكرت يومًا ماذا يعني؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك إلى متى لن نؤتى من العلم إلا قليلًا؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الثقافتان والثورة العلمية: أو كيف تأكل «الانتلجنسيا» نفسها؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أبي والفقد 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ثورة 1919 وسياسات العدوان على الهوية والذاكرة الجماعية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الإدارة بالأهداف في وقفيات الأميرة فاطمة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «شجرة البؤس»: هذه الشخصيات حقيقية جدًا 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك حضور التصوف في حياتي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الأمر السار يا عزيزي أنه قد تحطم كل شيء 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.