الإسماعيلية هي طائفة من الشيعة الإماميَّة، وهي
مُنْتَسِبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وتتَّفِق مع الشيعة الاثني عشريةَ في
الأئمة حتى جعفر الصادق؛ فتقول الاثنا عشرية أنَّ الإمام من بعده هو موسى الكاظم
[1]، أما الإسماعيلية؛ فيرون أنَّ «الإمامَ بعد جعفر إسماعيلُ نصًّا عليه
باتِّفاقٍ من أولاده» [2]. لقد كان ظهور الفرقة الإسماعيلية إذن -فيما يرى
بطروشوفسكي- مرتبطًا بالانقسام الذي حدث بين صفوف الشيعة في أواسط القرنِ الثاني
الهجري. [3]

يرى حسن الشافعي أن الفلسفة الإسماعيلية تقوم على «التشكيك
في العقل، وأنه قابل للخطأ والصواب، ولذا لا ينبغي الاعتماد عليه في أمر الدين
الذي يتطلَّب اليقين» [4]. ما الحل إذن من وجهة نظرهم؟ لقد كان من الضروري عندهم «الاعتماد
على مصدر آخر، وهو الإمام المعصوم». [5]

وقد عَدَّهُم الغزاليُّ من بين أصناف الطالبين،
وعرَّفَهم بأنهم الذين «يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس من
الإمامِ المعصوم» [6]، وأنَّ حُجَّتَهم الأساس هي «دعواهم: الحاجة إلى التعليم
والمُعَلِّم، ودعواهم: لا يصلح كلُّ معلم، بل لا بد من معلم مخصوص». [7]

انقسمت معتقدات الإسماعيلية إلى قسمين: الأولى ظاهرية،
ويُقْصَدُ بها التعاليم المُتَدَاوَلَة بين العامة، والثانية باطنية تُقْتَصَرُ
معرفتُها على عدد مختار من الطائفة [8]، «وتُعَدُّ تلك التعاليم والمعتقدات
الباطنية تفسيرًا أو تأويلًا لتلك التعاليم الظاهرية» [9]؛ لذا اشتهروا بلقب الباطنيَّة،
ولقد «لزمهم هذا اللقب لحكمهم أنَّ لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلًا» [10]، أو
لأنَّه «ليس هناك ظاهر إلا وله باطن، وليس هناك باطن بدون ظاهر» [11]، ويرى محمد
أبو زهرة أنهم سُمُّوا بهذا الاسم أيضًا؛ لأنهم اتَّجَهُوا «إلى الاستخفاء عن
الناس الذي كان وليد الاضطهاد أولًا، ثم صار حالًا نفسيةً عند طوائف منهم». [12]

إنَّ الفكر الإسماعيليّ مشيج من الكلام والفلسفة، دون أن يكونَ واحدًا منهما، إنه علم الباطن، وغايَته حقيقة الوحي، التي تُعَلَّمُ بالرجوع إلى الإمام [المعصوم] وحده. [13]





دانييل دو سميت.

كيف تَصَوَّرَ الإسماعيليُّون العالَم؟

يرى جولدتسهير أنَّ الإسماعيليَّة في تصوُّرِها عن العالَم
قد تأثَّرَتْ كثيرًا بنظرية الفيض الأفلاطونيَّة، وأنها استنبطتْ من هذه الفلسفة
أعمقَ نتائجها [14]؛ فما هي نظرية الفيض تلك؟ إنها «نظرية فلسفية تحاول أن تفسِّرَ
العلاقةَ بين الإله الواحد والعالم المُتَكَثِّر» [15]، ليس عن طريق الخلق
والإيجاد، ولكن عن طريق فكرة الصدور التي صاغها أفلوطين؛ فـ «الله يعقل ذاته،
وعقلُه لذاته علة صدور العالم عنه». [16]

يتصور القائلون بالفيضِ إذن الواحدَ (الله) ساكنًا يصدر
عنه العالَم «دون حركة، دون مَيل، دون إرادة» [17]، ويتصوَّرونَ العالَم «إشعاعًا
آتيًا منه وهو ساكن، كما يتولَّدُ من الشمس الضوءُ الساطعُ المحيطُ بها وهي ساكنة
دائمًا» [18]، وهذا ما يدعوه يوسف كرم بمنهج أفلوطينَ النازل في تعامله مع الله.

لقد اكتشفَتِ الإسماعيليةُ أيضًا الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، وقبلوها، وأخذوا كثيرًا من آرائها، ولكن ليس بصورة مباشرةٍ، إنما بعد أن تناقلتْها وأضافتْ إليها كثيرٌ من الأيدي. [19]





بطروشوفسكي.

والآن، كيف صاغ الإسماعيليُّون نظريَّة الفيض في سياقهم الفكري؟

يشرح الشهرستاني لنا تصوُّرَهم عن العالَم؛ إذ يرونَ
أنَّ اللهَ أبْدَعَ بالأمرِ العقلَ الأوَّل، أو ما يُمْكِنُ أن يُسَمَّى بالعقل
الفعَّال، وهذا العقل كُلِّيٌّ وتامّ بالفعل الإلهيّ، وهو قديم (أزلي لا أول له)؛
لأنَّه صادر عن الواحد (الله) مباشرةً، وعن طريق العقل الأول أُبْدِعَتِ النفسُ
الكلية، أو العقل المُنْفَعِل بالعقل الفعَّال، وهذه النفس ليستْ كاملةً؛ لأنها لم
تصدر عن الواحد مباشرة، بل هي مجرد انفعالٍ عن العقل الأول (الفعَّال).

ما الذي حدث بعد ذلك؟

إن النفس الكلية (المُنْفَعِلَة عن العقل الأول الفعَّال)
تشعر بنقصها ذلك، وتعرف أنها نتيجة لمُنْتِج؛ فلا تلبث أن تشتاقَ إلى الكمال؛
فتتحرك من نقصانها إلى كمالها، وحتى تتحركَ؛ فإنها تحتاج إلى آلة تتحرك من خلالها،
وهذه الآلة كانتِ الأفلاكَ الإلهيَّة التي تتحرَّكُ حركةً دائريَّةً بتدبير من النفس
الكلية.

ولقد تسببت الحركةُ الدائريةُ للأفلاكِ الإلهيةِ في حدوث
الطبائعِ البسيطة التي تحرَّكَتْ حركةً مستقيمة بفعلِ النفس أيضًا، ومن هذه
الطبائعِ البسيطة تركَّبَتِ المُركَّبَاتُ من المعادن، والنبات، والحيوان،
والإنسان، وغير ذلك. وكان الإنسانُ من بين هذه الموجودات متميزًا باستعدادٍ خاصّ
لتلقي الفيض الإلهي.

والسؤال هنا: كيف ربطَ الإسماعيليون بين هذا التخطيط
الفلَكِيّ وفكرة الإمام المعصوم؟

إنهم يرون أنه كما يكون في العالَمِ العلوي عقل كُلِّيّ (فعَّال)،
ونفس كُلِّيَّة (مُنْفَعِلَة)؛ فإنه ينبغي أن يكون في العالَم الأرضي عقل كُلِّيّ
مُشَخَّص (يعني في شخص)، ويكون فعَّالًا أيضًا، ونفس كُلِّيَّة مُشَخَّصَة، وتكون
منفعلة كذلك.

ويرون أنَّ العقل المُشَخَّص (الفعَّال) هو النبي، وأنَّ النفس المُشَخَّصة (المُنْفَعِلَة) هي الإمام المعصوم أو الوصيّ. ولأنَّ النفس المُشَخَّصة ناقصة؛ فإنها تسعى نحو كمال العقل المُشَخَّص إلى أنْ تتحد به؛ فتبلغ تمامَها، وبالنبي والوصي تتحرك النفوسُ والأشخاص بالشرائع في كل زمان في حركة دائرية على سبعة سبعة حتى يُنْتَهَى إلى الدور الأخير، وحينئذٍ تقوم القيامة، وتسقط الشرائع جميعها، ولا يُحْتاج إلى وصيّ أو نبيّ. [20] وبذلك تنفي الإسماعيليَّة فكرةَ الكشف التي يقول بها كثير من الصوفيَّة؛ فينكرون إمكان المعرفة المباشرة، ويقولون بفكرة الوسائطِ بديلًا عنها. [21]

في سبيل تنظيم العلاقة بين عالَم الإنسان، وعالم الكائنات العلوية قال الإسماعيلية بفكرة التجليات الإلهية على الأرض في الأئمة. [22]





حسين مروة.

النزعة المادية لدى التصوُّر الإسماعيلي للعالَم

يُقِرُّ حسين مروة بأنَّ التصور الإسماعيلي للعالم تصور
مثالي وغيبي في نواحٍ كثيرة منه، ولكنه -كما جرتْ عادتُه- يُحاوِلُ تلمُّسَ
الميولَ الماديَّة للفرق والطوائف الإسلامية التي يبحث فيها.

إنَّ أولَ ما يلفت نظره هو أنّ تصورَهم عن العالم يجمع
ما بين الأنطولوجي (البحث في أصل ومعنى الوجود)، والإبستمولوجي (البحث في أصل
وإمكانية المعرفة)؛ ففي التخطيط الذي أقاموه بَحْثٌ في عملية إيجاد العالم كيف
كانت، كما أنه بَحْثٌ في عملية الفيض المعرفي كيف تكون؛ فـ «الله يبدع العقل
الأول، وهذا يُنْتِجُ النفسَ، ثم هذه تَتَّجِهُ بحركتها نحو الكمال؛ فتحدث الأفلاك
السماوية، وتحركها بحركة دورية تُؤدِّي إلى حدوث المُرَكَّبَات (المعادن، النبات،
الحيوان، الإنسان)، وتَنْتَهِي هذه العملية بكاملها إلى الإنسان بوجهين لعملية
واحدة: وجه إيجاد له أولًا، ووجه فيض لأنوار المعرفة عليه ثانيًا». [23]

وثاني ما يلفت انتباه حسين مروة هو قولهم: إنَّ العقل
الأول قديم (أزلي لا أول له)، وهو قديم بقدم الله، ولعلَّ هذا يؤدِّي إلى القول
بقدم العالَم نفسه، وهذا يكشف -في نظره- عن «ميل مادِّيّ عفوي» [24] في ثنايا
الفلسفة الإسماعيلية.

أما ثالث ما يلفت نظره؛ فهو كلامهم عن أنَّ أصل المادة
الطبائعُ البسيطة؛ فهي في تخطيطهم الأنطولوجي أصلُ الكائنات الماديَّة، وفي الوقت
نفسه نرى وجودها يرتبط ارتباطًا تامًّا بالحركة الدورية للأفلاك السماوية، وكأنَّ
الفكر الإسماعيلي ينظر إلى الحركة كـ «مبدأ لوَحدة العالم» [25]، «شاملٍ لمختلف
أشكال الوجود الماديّ» [26]، وكـ «أسلوب لوجود المادة». [27]

إنَّ الرؤية المادية للحركة في هذا التخطيط الشامل للعالَم، مُغَلَّفَة بنظرة مثالية غائيَّة؛ فإن حاجة النفس الكلية إلى الحركة هنا، إنما هي نتيجةُ حاجتها إلى الكمال؛ فهي تتجه إذن على نحو غائيّ.





حسين مروة.


المراجع



  1. تاريخ المذاهب الإسلاميَّة، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، 2009، ص 60.
  2. الملل والنِّحَل، الشهرستاني، مكتبة نزار مصطفى البان، الطبعة الثانية 2007، ص 107.
  3. الإسلام في إيران، بطروفشسكي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص 243.
  4. المدخل إلى دراسة علم الكلام، حسن الشافعي، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة 2013، ص 89.
  5. المرجع السابق، ص 89.
  6. مجموعة رسائل الإمام الغزالي – المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال، دار الكتب العلمية، الطبعة السادسة 2013، ص 31.
  7. المرجع السابق، ص 49.
  8. الإسلام في إيران، بطروفشسكي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص 251.
  9. المرجع السابق، ص 251.
  10. الملل والنِّحَل، الشهرستاني، مكتبة نزار مصطفى البان، الطبعة الثانية 2007، ص 123.
  11. الإسلام في إيران، بطروفشسكي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص 251.
  12. تاريخ المذاهب الإسلاميَّة، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، 2009، ص 61.
  13. المرجع في تاريخ علم الكلام، تحرير: زابنيه شميتكه – ترجمة: أسامة شفيع السيد – تقديم: حسن الشافعي، مركز نماء، الطبعة الأولى 2018، ص 566.
  14. العقيدة والشريعة في الإسلام – تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، إيجناس جولدتسهير، نقله إلى العربية: محمد يوسف موسى – علي حسن عبد القادر – عبد العزيز عبد الحق – تقديم: محمد عوني عبد الرؤوف، مكتبة الأسرة 2014، ص 239.
  15. موسوعة الفلسفة الإسلامية، إشراف: محمود حمدي زقزوق، نظرية الفيض، تأليف: منى أحمد أبو زيد، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 2010، ص 971.
  16. المرجع السابق، ص 972.
  17. تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مكتبة الأسرة 2017، ص 316.
  18. المرجع السابق، ص 316.
  19. الإسلام في إيران بتصرف بسيط بالحذف، بطروفشسكي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص 253.
  20. الملل والنِّحَل، الشهرستاني، مكتبة نزار مصطفى البان، الطبعة الثانية 2007، ص 124.
  21. النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية (تبلور الفلسفة – التصوف – إخوان الصفا)، المجلد الثالث، حسين مروة، دار الفارابي، الطبعة الثالثة 2016، ص 138.
  22. المرجع السابق، ص 140.
  23. المرجع السابق، ص 140.
  24. المرجع السابق، ص 141.
  25. المرجع السابق، ص 142.
  26. المرجع السابق، ص 142.
  27. المرجع السابق، ص 142.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.