يفتش الإنسان عن الحقيقة في كل نقب، فإذا كشفت له عن جسدها العاري، فقأ عينيه من فرط الجنون. قبيحةٌ هي. قبيحٌ وجهها. قبيحةٌ عينها الجاحظة. قبيحةٌ ضحكتها الخبيثة، التي تكشف عن فجوة سوداء تقيح رعبًا. قبيحةٌ جلدتها الصفراء المترهلة. ما ثَمَّ غير العدم. الويل… الويل لنا من وجود منحته الألم. ما ثَمَّ غير العجز… عدم… عدم.

طرقت الأفكار رأسه بينما يذرع الغرفة بحركة مترددة في الممر الضيق بين سريره في جهة، وفي الأخرى مكتبه الذي تكوّمت فوقه بضعة كتب وقصاصات ورق. الغرفة مظلمة، إلا من أثر شعاع باهت أتاها من مصباح الإنارة في الطريق، وتسلّل –خَجِلًا- من خلل الفرجة الضيّقة بين مصراعي النافذة شبه المغلقة. فلم يلبث أن غاص في قلب الظلام وتبدّد. وفي قلب الظلام والبرد وجد ذاته، أو وجدهما في ذاته، وفي قلبه هو. وأحس الظلام لزجًا يلتصق به، فاقترب من النافذة، وشهق عميقًا.

قبالته، على رصيف، كان رجل يُدخِّن في بطء شديد سيجارة، ويُقلِّب ناظره في الصمت والسكون حواليه. وعلى النافذة عنكبوت صغير، كاد الظلام يستره، لولا الضوء الحيّي. حكّ لحيته الخشنة، وهو يتابع حركة العنكبوت على العارضة الخشبية. أرسل البصر تجاه الرجل، فوجده لم يزل يُحدِّق في الفراغ، ثم أرجعه فوجد العنكبوت لم يزل يضطرب كأنما يبحث عن شيء. وودّ لو أن لكل منهما -الرجل والعنكبوت- غاية يقصد إليها. وابتسم هازئًا، أمِن نفسه أم من سواها؟ لم يعرف. ورفع يده اليمنى فوق الكائن الضئيل، يريد سحقه، وقد تسلّطت عليه رغبة لم يجد لها دافعًا، أو هكذا ظن. وأبقى يده معلقة، يُشاهد العنكبوت بانتباه بالغ. ثم طرح عنه الفكرة؛ فقد تلاشت رغبته في سحق العنكبوت كأنما ما جاءته أصلًا. وتركه لحاله دون أن يحوِّل عينيه عنه حتى اختفى.

خُيِّل
إليه القلق يفيض مما أحاط به، أو يفيض من نفسه فيغمر الموجودات، ويصبغها بصبغته ممتقعة
اللون. وفكّر: ما القلق من إدراك الإنسان حريته؟

إنما
إدراكه أن لا سلطة له على شيء، لا العالم، ولا نفسه. فإن تكن حرية، فلتكن سورة
جنون، ولتكن عبثًا، ولتكن ثورة ضد الطبيعة، والتاريخ، وضد منْ لا ضد له، بل ثورة
الإنسان ضد نفسه. وعلم تفاهة أفكاره، فلوى شفتيه ممتعضًا. لكنه بحال لن يتراجع عما
انتوى، فقد كُتب مصيره؛ كتبه بيده، بل بدمه.

مثقلًا بالملل ارتمى في سريره، وأغمض عينيه. الظلام أشد وطأة خلف جفنيه المضمومين. اختنق، ففتح عينيه. تولته الدهشة لما وجد الجدران تضيق عليه. ضحك من أوهامه. تولاه الفزع. ها هو العالم ينكمش. ضحك. أحس الخوف يلعق -في تلذذ- سلسلته الظهرية، فتجمّد لثوانٍ حسبها زمنًا طويلًا. تلفّت يبحث عن الباب من داخل الدوامة التي أخذته إليها. أوشك أن يتقيأ، وظنّ أنه إن فعل فسيخرج مع القيء بقايا أفكاره، بعدما أفسدت جوفه، وكان ما كان. غثيان عنيف. تتلوى أمعاؤه. تتقلص، ويتقلص العالم معها. يقترب كل شيء، يتجه نحوه، عدا الباب، يبتعد.

حمل
جسده إلى خارج السرير، وتقدم يجر قدميه عبر الدوار، ويتصبب عرقًا. قطع طريقه نحو الباب،
فوصله وقد تمكن منه الإعياء. دفع الباب، واندفع لاهثًا خارج كابوسه المرعب ذاك.

دهم
الضوء عينيه، فشعر فيهما بوخز خفيف، حتى اعتادتا الضوء. كانت أمه مُضجعة على أريكة
أمام التلفاز، نصف نائمة، أو مشغولة بهم من همومها، فلم تنتبه له إلا حين وقف
أمامها مُنقبض الوجه. التقطت جسده الذي تركه يسقط إلى حضنها، فضمته. وبكى. ودّ لو
يبوح بسر ثقل عليه، فحرمه النوم. ما استطاع الإفضاء بسره، فحدّث نفسه قائلًا:

لا لضيقي بالحياة، ولا لأنها فوق الاحتمال، ولا لأني ما عدت أحتمل الإنسان، ورائحة الإنسان النتنة. الحق أني ضيّق بالحياة، وأنها فوق احتمالي، والحق أني ما بت أحتمل الناس، ولا أحتمل نفسي فألجأ إليها منهم. إنما لغير هذا؛ كنبي وحق لا شيء. إن هي إلا ثورة مقدسة، وعبث. نحو الجنون والفوضى. لكم تعوزنا الفوضى. لو أنك ستفهمين.

مسحت بيدها على رأسه، ونظرت إليه في تحنان، كأنها سمعت أفكاره. بين حطام العالم. من عينيها يطل الأمل. انتزع جسده من حضنها، وحدّق فيها بعينين لا تنطقان. لا أمل، ولا خلاص. أراد أن يصرخ بهما. خلاصه فيما اختار لنفسه، في الحرية، خلاصه وعذابه معًا. ركع عند قدميها، قبلهما في عجب منها. انتفض فجأة، وهرع خارجًا، والدمع يسيل من مآقيه. ردّد يهذي كالمحموم:

الإنسان أكبر من أي شيء

الإنسان أكبر من كل شيء

الآن أو أبدًا

ليكن لي ما لإله

حر كإله

بل أكثر



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.