منذ فترة
قصيرة انتهيت من قراءة كتاب «

اسمي بولا: نادية لطفي تحكي

»، وفيه تسرد لنا الجميلة نادية لطفي مشوارها الفني والإنساني وذكرياتها
ومواقفها مع كل من صادفتهم خلال رحلة العمر، من الطفولة وحتى قُبيل وفاتها؛
المثقفون والفنانون وبعض رجال السياسة.

للحظات قد نشعر بالغبطة تجاهها إزاء هذه الحياة الزاخرة بالمواقف والبشر والتي كانت تستحق أن تُسرد في صفحات كتاب منذ زمن، ولكن استوقفني ضمن الحكايات المؤثرة التي تحكيها بولا بمذكراتها، حكايتها مع صديقة عمرها الكاتبة «عنايات الزيّات». تروي عن ذكريات سعيدة وأيام مُبهِجة شهداها معًا، وتختم بالذكرى الأشد إيلامًا في حياة نادية لطفي، وهي واقعة انتحار صديقة عمرها عنايات الزيات.

تحكي لطفي
حكاية صديقة العمر الموهوبة عنايات وكيف لازمتها في سنوات الطفولة والصبا والشباب،
ولكن بدأت الشابة اليافعة (عنايات) تفقد ألوان الحياة حين وقعت في قبضة زوج أناني
يُعاملها بقسوة، وظروف اجتماعية مُحبطة وكثير من الرفض في بداية مشوارها الأدبي،
كل ذلك اجتمع للنيل من إرادة عنايات الزيات.

أصابتها لعنة الاكتئاب ذات ليلة بعد توالي خبرين كانا الأشد إيلامًا ضمن سنوات عمرها التي لم تتجاوز الثلاثين، الخبر الأول هو تمكن زوجها السابق من إثبات مرضها النفسي، فنجحت دعواه في ضم الطفل -ابنهما الوحيد– إلى وصايته بعيدًا عن أمه. والخبر الثاني كان رفض دار النشر التي كادت أن تنشر بها الزيات روايتها الأولى «

الحب والصمت

» قبول نشر الرواية؛ فعانت من مرارتين لم تحتملهما سويًا، الفراق والرفض؛ فنهش الاكتئاب ما استطاع إليه سبيلًا، وكانت الروح، فانتحرت بهدوء راقدة فوق سريرها.

تحكي نادية لطفي أنها بكتها كما لم تبكِ أحدًا من قبل، كانت بمثابة الأخت لها وفراق الأحبّاء دائمًا ما يُدرِّب الروح على الانكسار بقية الحياة.

بعد سرد حكاية عنايات، ومع تأمل بسيط جدًا نلحظ تكرار حالات الانتحار الخاصة بالكاتبات، بدايةً من أمهات الكتابة في القرن التاسع عشر، وأولهن «فرجينيا وولف» التي إلى هذا اليوم تتردد حكايتها الحزينة عن طريقة قتلها لنفسها. فرجينيا التي عبأت جيوب معطفها بالحجارة ونزلت الى النهر، وبعد أيام وجد زوجها جثتها تطفو في ناحية من النهر.

هل عبأت
هذه السيدة جيوبها بالحجارة فقط؟ أم رافقها إلى الموت الهموم المُصاحِبة لمرض الاكتئاب،
الذي يعمل بأيادٍ خفية على قتل أصحابه أو على الأخص صاحباته.

فالباحث
في الأمر سيجد تعرّض الإناث المبدعات بشكل واضح إلى السقوط في براثن هذا المرض،
والواضح أكثر في الأمر -بحسب ما أشارت إليه الكثير من الدراسات النفسية- هو سرعة
استجابة أصحاب الإبداع في الإصابة بمرض الاكتئاب بصورة عالية.

تلي «فرجينيا وولف»

الكثير من الكُتّاب والمبدعين

، كالكاتب الإنجليزي الشهير «أرنست هيمنجواي» الذي انتهى بتصويب البندقية إلى رأسه وإطلاق النار. وتوالت من بعدهم حالات انتحار عديدة وملحوظة قام بها الكثير من المبدعين من ضحايا الاكتئاب، لكن الحصة الأكبر كانت للمبدعات من النساء.

بعد انتحار الكاتبة الإنجليزية «سيلفيا بلات» وهي لم تتجاوز الثلاثين بعد من عمرها، أثُيرت تساؤلات لا يمكن تجاهلها حول سبب نفاد طاقة الحياة سريعًا داخل المبدعين، وبالأخص المبدعات. هل يُساهِم الإبداع في تكوين «كلب أسود» صغير بداخل كل شخص، يكبر مع مرور الوقت ولا يمكن قتله بسهولة؟ ففي الغالب هو الذي يقضي على أصحابه دافعًا إياهم إلى اللجوء لأي وسيلة قتل، هاربين من آلامه.

فقبل عقود كثيرة، وقبل أن تصبح الكاتبات بهذا العدد الهائل في شتى بقاع الأرض، كتبت الإنجليزية «فرجينيا وولف» ما تعني به أن الكاتبات في عصرها –وكانوا قليلات حينئذ- ليس لديهن جدّات كاتبات، لا يوجد منْ سبقتهن واستطاعت أن تصبح مرجعًا لجيل فرجينيا ومثيلاتها في هذا الزمن. أمّا اليوم وقد تزايد عدد المُبدعات بشكل كبير، وأخذت النساء حصة في التعليم والنشر وممارسة الإبداع بحرية، نجد وكأن جدّتنا الكبرى «فرجينيا وولف» ومثيلاتها يراقبننا من مكان بعيد، يقرأن ما نكتبه، يُشِدن به أو يلقين النصح في بعضه، يبتسمن حين تفوز كاتبة بجائزة إبداعية أو تقوم بنشر كتاب جيد.

أرواح
الكاتبات تعود بعد عصور لتتلبّس في كاتبات جديدات، من جيلنا الحالي، والذي يشق
طريقه في عصور وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما تنزل أرواح المبدعات لتدخل في أجساد
جديدة، يتنزّل معهن –للأسف- مرض الاكتئاب الحاد، الذي يدفعهن الى إنهاء الحياة
هربًا من نباحه في آذانهن ليلًا نهارًا.

لا يقتصر
السؤال عن فتك الاكتئاب بأصحابه، بل عن هذا الارتباط الغريب بين الإبداع والمرض
النفسي بمختلف أنواعه، وتحديدًا الاكتئاب.

يؤكد
الدكتور «أيمن عامر»، أستاذ ورئيس قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة القاهرة، على
وجود علاقة وثيقة بين الإبداع والمرض النفسي، تظهر بأشكال مختلفة على المبدعين،
سواء أكانت سريعة تظهر مع صغر سن المُبدع –كمثال سيلفيا بلات وعنايات الزيات- أو
في مرحلة لاحقة من الإبداع وبعد مشوار حافل بالفن والنجاح -كفرجينيا وولف وهيمنجواي،
بل يذكر أمثلة عديدة لمبدعين رافقهم المرض النفسي طوال مشوار حياتهم حتى انتهوا سويًا،
ولا إجابة واضحة حتى اليوم عن السبب.

لماذا
يلتصق الاكتئاب بمعظم المبدعين؟ لماذا يمتص رغبة الحياة من داخلهم بقدرة ودأب أكثر
بكثير مما يفعله مع البشر العاديين؟ وهل كل مُبدِع عُرضة إلى أن يكبر الكلب الأسود
الصغير النائم داخله لتبدأ الحرب؟

لا إجابة
واضحة أو سبب مُحدد، لكن الأكيد فقط هو أن أرواح الكاتبات القدامى تعود من جديد،
نراها في كتابات نساء كثيرة في هذا العصر، ينظرن إلينا ويتمنين أن نرث إبداعهن
ونطوره ونُسهِم في نقله، وألا يطالنا مثل ما طالهن، كضريبة مفزعة لبذرة الإبداع
الموجودة بداخل الفنانين.

فالسلام
والرحمة لأرواح كل المبدعين… الذين قتلهم هذا المرض النفسي في كل الأزمنة والعصور.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.