لم يكن هذا أول تعامل لي مع موقع إضاءات، فأنا أنشر فيه قصص رعب مسلسلة منذ فترة طويلة، كما إنني نشرت مقالاً طويلاً اسمه (

بلهاء في الأوقيانوسية

) عن الكتب المفضلة لي في شبابي. غير أنني فطنت إلى أنها المرة الأولى منذ دهر سحيق التي لا أعمل فيها مع محمد هشام عُبيه. محمد هشام عُبيه كان هناك في عالمي دومًا ولا أذكر متى كانت البداية، لكنه عاشق صحافة .. (جورنالجي) بالمعنى الحرفي الذي تكلم عنه هيكل.. تفوح منه رائحة حبر الطباعة وملازم الورق. وقد تخلى عن فرص عديدة بسبب هذا العشق الموجع. الضحكة اللطيفة المميزة القادمة من قلبه، وشعورك بأنه لا توجد أي مشاكل قادرة على قهر هذا الرجل، وإصراره على أنه ريفي قادم من الدقهلية وأنه – لو ساءت الأمور جدًا – عائد إلى قريته حتمًا ليزرع الجرجير في الفدان الذي يملكه وينسى الصحافة. سمعت منه هذا التهديد مرارًا، ولم ينفذه قط لحسن حظ الصحافة وسوء حظ الجرجير، لكن الحقيقة الغريبة هي أنه ومنذ ذلك الحوار الذي أجراه معي، ونحن جالسان في ذلك المقهى على (المُرشّحة) في طنطا .. التي يصرون على اعتبارها كورنيشًا، وحتى الأسبوع الماضي، ظل دائمًا هو رئيسي المباشر في العمل! منذ أيام الدستور فالتحرير فموقع بص وطل .. حتى إنني كنت أخشى ملاحقته لي طلبًا لمقال أو فصل قصة متأخر، وأطلق عليه لقب (عُبيه المرعب).

اتصل بي عندما بدأ مشروع موقع اليوم الجديد، وكتب لي سطرًا واحدًا (ما تيجي بأه) فجئت بلا أسئلة كثيرة على طريقة فيروز. وراقبت حماسته مع كل اسم جديد يضاف للموقع، ثم بدء المشروع الورقي. هو مجامل جدًا وأعتقد أنه أسدى خدمة واحدة على الأقل لكل واحد عرفه على طريقة (الأب الروحي). شرفت بقراءة كل كتبه قبل نشرها، بدءا بـ«الإنسان أصله جوافة» حتى كتابه القادم الذي يصدر في معرض 2017 «بدون تأشيرة»، والذي يمثل تجربة مثيرة (جورنالجية) فعلاً. فجأة لم يعد هشام موجودًا في جريدة اليوم الجديد. لقد ترك المعماري البناية التي شيدها بحبّ وشغف. وقدر ما أحزنني هذا الخبر فقد قلت له – برغم غرابة التشبيه – إن الصحفي كالبكتيريا .. يتكاثر في أي وسط ورقي يوضع فيه، ويبدأ دائمًا من الرماد كالعنقاء. لم يعد هشام هنالك في «اليوم الجديد»، ويمكن القول إنه كان أهم سبب يبقيني هناك، ثم تلقيت عرضًا طيبًا من موقع إضاءات فقبلته لتبدأ مرحلة أخرى وتجربة جديدة في حياتي. تحياتي لعُبيه المرعب.. واحد من أفضل الأصدقاء الذين ظفرت بهم في رحلة حياتي، وأعرف أن تعاوننا لم ينته بعد. تحياتي لجريدة اليوم الجديد التي عرفت معها أيامًا باسمة، واستضافت بصدر رحب حشدًا من مقالاتي، برغم حدة بعضها أو سخفه، وأرجو أن يكتشف موقع إضاءات أنهم لم يخطئوا الاختيار.


بما أنه المقال الأول، فلسوف نتناول موضوعًا خفيفًا مسليًا ذا طابع طبي.

اعتدنا الأمراض التي تحمل اسم مكتشفها، على غرار مرض أديسون أو مرض ويلسون أو مرض باركنسون، لكن هناك أمراضًا تحمل اسم أول مريض توصف فيه! تصور أنك لا سمح الله صحوت من النوم بعين ثالثة وقدم حرشفية وأذن واحدة فقط مع ارتفاع في الحرارة، فلربما أطلق الطب على مرضك اسم (متلازمة الششماوي) مثلاً، وهي طريقة غريبة للخلود.

من أشهر تلك الأمراض مرض لو جريج.. هذا هو المرض الذي أصاب العالم الرياضي ستيفن هوكنج، أو ما يسمونه (مرض العصب المحرك). والاسم يُنسب للاعب البيزبول الأمريكي الشهير الذي تدهور أداؤه في اللعب في الثلاثينيات، وتم تشخيصه بمرض العصب المحرك في مايو كلينيك. وهو المرض الذي وصفه طبيب الأعصاب الفرنسي الأعظم شاركوه منذ قرنين تقريبًا. وقد توفي لو جريج بعد ثلاثة أعوام من التشخيص.

هارتناب مرض آخر يسبب ما يشبه البلاجرا.. خلل في امتصاص التريبتوفان .. الاسم هو لقب أسرة بريطانية أصيب معظم أفرادها عام 1956 بمرض غريب يؤدي لالتهاب في الجلد وفقدان ذاكرة وفقدان للأحماض الأمينية في البول.

مدام مورتيمر كانت مصابة بمرض جلدي غريب عبارة عن بقع حمراء على الوجه والجسد، وقد رآها الطبيب البارع هتشنسون فوصف مرضها، وأطلق عليه (مرض مورتيمر).

هناك شخصيات وهمية أو أدبية استعمل اسمها لوصف أمراض؛ ومنها مثلاً مرض بيكويك.. لو كنت قد قرأت أوراق بكويك لتشارلز ديكنز فأنت تعرف شخصية جو البدين عسر الأنفاس محتقن الوجه، وهي شخصية خالدة أخرى لدى ديكنز الذي وصفه موم بأن رواياته (معرض ممتع للنماذج البشرية الغريبة). هنا نقص أكسجين أدى لزيادة في الكريات الحمراء. ما دمنا مع ديكنز فلابد من تذكر (متلازمة هافيشام) التي تنسب لمس هافيشام العروس العجوز المخبولة التي فر عريسها يوم الزفاف وظلت تحتفظ بقاعة الأفراح كما هي. يطلقون أحيانًا على المرض اسم متلازمة ديوجين أو بليوشكين. الاسم الأخير من شخصيات جوجول في (أرواح ميتة). هذا اضطراب نفسي سلوكي يظهر في سن متأخرة، حيث يميل المريض للارتياب فيمن حوله، مع العدوانية والإهمال في مظهره وينسى العادات الصحية ويهوى جمع القمامة والتفاهات. ترى كم مس هافيشام تعرفها في شارعك أو بين جيرانك؟

هناك متلازمة منخاوزن التي تحمل اسم أكبر فشّار في التاريخ .. وهو أبو لمعة الألماني، كناية عن المريض الذي يهوى المستشفيات ويحير الأطباء بأعراض لا علاقة بينها، لدرجة أنهم قد يجرون له جراحة استكشافية.

هناك نوع آخر من أسماء الأمراض، تصف المرض الذي وصفه نفس الطبيب الذي مات به. بالتالي هو نوع من التخليد الحقيقي:

الريكتسيا نسبة لهوارد ريكتس الذي قتله نفس المسبب الذي وصفه؛ والذي ينقل التيفوس وحمى جبال روكي المبرقشة. الطبيب تومسن وصف بدقة مرض وهن العضلات الذي أصابه ثم قتله فيما بعد.

الطبيب اللاتيني كاريون حقن نفسه ببكتريا البارتونللا ليصاب بحمى أورويا .. ويثبت أن هذه البكتيريا هي سبب الداء، ثم مات بها. البوريليا كذلك بكتيريا تسبب الحمى الراجعة وقد فتكت بالطبيب الذي اكتشفها، وسميت باسمه.

هناك أمثلة كثيرة لأشخاص يسهل أن تطلق اسمهم على أمراض معينة في المجتمع المصري، لكن إعطاء أمثلة سيؤدي بالمرء إلى السجن بتهمة القذف حتمًا. مرض توريت الذي يجعل المرء بذيئًا جدًا، يمكن بسهولة أن يحمل عدة أسماء. كذلك مرض منخاوزن الذي يجعلك كذوبًا يمكن أن نعطيه عدة أسماء من الإعلاميين.. ألزايمر مرض النسيان يمكن أن نطلق عليه اسم أي مواطن مصري بدءًا بي شخصيًا. لا شك أن هناك متلازمة من الفشل الكلوي والانيميا والالتهاب الكبدي سي يمكن أن تطلق عليها اسم أول شخص تقابله في الشارع.

هذا هو أول مقال لي في موقع إضاءات، فإن لم يرق لك فأنا أعدك بأن أحاول أكثر في المرة القادمة.