منذ أسابيع أعلنت سينما «زاوية» المتخصصة في عرض الأفلام المستقلة والأوروبية والمختلفة وما هو غير منتمٍ لفئة الأفلام الاستهلاكية والـ«Mainstream» عن عرض فيلم «The Nile Hilton Incident».

وبينما كنت أستعد لحضور الفيلم المنتظر، عرفنا أن السلطات المصرية قررت منع الفيلم من العرض التجاري في أي سينما في الجمهورية.

قامت بعض المساحات الثقافية بمحاولات لعرض الفيلم على نطاق أضيق، ربما كان أحدثها محاولة «بلكون لاونج هليوبليس» في الثامنة من مساء الخميس الماضي.

كنت أنوي الحضور، لكن منعني ضغط العمل، فقمت بتحميل الفيلم عبر أحد مواقع التورنت، وهو إجراء لا أقوم به إلا نادرًا وعلى استحياء لموقفي ضد القرصنة، ولعملي في مجال يتضرر منها للغاية.

صباح اليوم التالي، كنت على موعد مع خبرين، الأول، هو مداهمة قوات الشرطة لبلكون لاونج وفحص هويات الحضور وصرفهم من المكان مع طلب عدم عودتهم إليه مرة أخرى، والثاني، هو الحادث الإرهابي البشع الذي وقع في مسجد الروضة بقرية بئر العبد بالعريش وحصد أرواح المئات وأوقع عشرات المصابين.

أرجع مرة أخرى لليل الخميس الذي قضيته في مشاهدة الفيلم، لم أشاهد من قبل أعمالًا لـ «طارق صالح» مخرج العمل، لكني كنت متحمسًا جدًا لرؤية دور جديد للممثل – المولود بلبنان – «فارس فارس»، والذي شاهدته من قبل في دور ثري جدًا بالفيلم المثير والحائز على جائزة الأوسكار Zero Dark Thirty حين لعب شخصة «حكيم» المقاتل الباكستاني الذي يعاون الـCIA والقوات الخاصة الأمريكية في الإيقاع بالرجل الأخطر في العالم وقتها، أسامة بن لادن.



هذه قاهرة نعيش فيها كأغراب، هذا وطن غريب نعيش فيه كمقيم في غرفة فندق، يعبر فيه النزيل إلى جهة ما لبلد أخرى

حكيم كان يتحدث الإنجليزية والأوردية والعربية، وكان يتعامل مع بني جلدته من الباكستانيين لاستخراج معلومات تفيد العملية، ويمنعهم من أي شيء قد يعيق الوصول لهدفها، كان شديد الإخلاص للأمريكيين، وكان بالنسبة لهم موردًا Asset لا يقدر بثمن، كان نصف مرتزق ونصف شخص له رسالة، كان يبدو بلا جذور، وكان باهت الصورة وعصيًا على التصنيف، شخصية معقدة أجاد فارس فارس أداءها.

في «واقعة النيل هيلتون» يؤدي فارس دور «نور الدين» الشرطي المصري الفاسد ذي الخلفية المعقدة، يتقبل الرشوة من البائعين الجائلين ويتقاسمها مع أمناء الشرطة، ينفق على أبيه المريض ويحاول تدبير مصاريف عمليته الجراحية الباهظة، يسكن في حي شعبي داخل شقة متواضعة ومهملة للغاية، ويبدو غارقًا في حالة كئيبة تمثل مزيجًا من الحزن والانسحاب والوحدة إثر فقد زوجته التي خسرها في حادث سيارة، يحميه ويشجعه في فساده عمه الضابط الأعلى رتبة الذي يرأسه في قسم شرطة «قصر النيل».

تقع أحداث الفيلم على أعتاب ثورة يناير، عبر أيام معدودة ترصد حادث قتل لمغنية نصف ناجحة يجدها نور الدين غارقة في دمائها بغرفة فخمة بفندق «النيل هيلتون» ويجد أدلة تربط الجريمة برجل أعمال نافذ يقوم بحمايته جهاز «أمن الدولة» المصري، وعلى الرغم من تعليمات عمه بإغلاق القضية، إلا أن نور الدين يجد نفسه مدفوعًا لملاحقة رجل الأعمال ومحاولة فهم ما حدث، ويتقاطع مساره مع الشاهدة الوحيدة على الجريمة، وهي عاملة سودانية في الفندق قادها حظها العاثر لأن تكون على مقربة من غرفة القتيلة ليلة الحادث.

على الرغم من أن أغلب مشاهد الفيلم تم تصويرها بين «الدار البيضاء» بالمغرب و«برلين» في ألمانيا – لأسباب لا تخفى على القارئ الفطن بالطبع – إلا أنه يرصد بشكل عميق صراعات طبقات متعددة من السلطة الفاسدة في مصر: الشرطة، وأمن الدولة، ورأس المال، ورأس النظام السياسي.

يذكرني ذلك جدًا برواية «عمارة يعقوبيان» الذي تم تحويلها لفيلم سينمائي لاحقًا، إلا أنه ومن وجهة نظر فريق عمل أغلبه من الأجانب (تصوير «بيير إيم»، موسيقى «كريستر ليندر»، مونتاج «ثيس شميت»، وفريق إنتاج ضخم من غير المصريين أو العرب) قدم صورة طازجة ومغايرة للقاهرة عشية الثورة.

لديّ بشكل شخصي عشق خاص لرواية «جاتسبي العظيم» (1925) للكاتب الأمريكي «ف. سكوت فيتزجيرالد»، وزاد ولعي بها بعد تحويلها لفيلم (2013) من بطولة «توبي مجواير» و«ليوناردو دي كابريو».

الرواية تتحدث عن الجانب الخفي لمدينة نيويورك في عشرينات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، تنقل لنا أسرار مدينة موازية قذرة ومليئة بالفساد، وألعاب السلطة تلعب دور البطولة في خلفية أحداث درامية ظاهرها قصة حب مشبوبة وجريمتي قتل إحداها عبثية وغير مقصودة والأخرى بدافع شخصي هو نتيجة صراع طبقي مختفٍ خلف تألق المدينة الكوموبوليتانية الغنية والباهرة.

وكقاص وكروائي، كان لديّ حلم دائم بأن أكتب عملاً يرصد القاهرة وحياتها الخفية من نفس الزاوية، وحينما شاهدت «The Nile Hilton Incident» رأيت ملامح من ذلك العمل الذي أحلم به، ورأيت «جاتسبي» المصري متمثلًا في شخصية الكولونيل نور الدين. شخص هو جزء من فساد المدينة، ولا يستطيع الفكاك منه مهما حاول أن يبدأ من جديد، ويظل ذلك الماضي يلعنه حتى مماته.

صناع الفيلم استطاعوا التجوال بنا في أماكن قاهرية قد لا تمر بها في حياتك كمصري يعيش داخل هذه المدينة، الجيتوهات التي يعيش فيها المهاجرون السودانيون، وطبيعة الحياة القاسية التي يعيشونها، علب الليل التي يسكنها الفنانات المغمورات والأثرياء والسياسيون العرب والأجانب، الكومباوندات الحصينة التي يقطنها ذوو الحصانة من أفراد رأس النظام السياسي والمالي، وملاعب الجولف العظيمة التي يقضون فيها أوقاتهم، زنازين أقسام الشرطة وما يحدث بها، حيث لا يتم فقط تعذيب المتهمين، ولكن يتم تعذيب ضباط الشرطة أنفسهم إذا اقتضى الأمر وإذا تنافى سلوكهم مع مصالح النظام، ومصالح من يحميهم النظام.

صناع الفيلم أعطوا للقاهرة صوتًا لم أسمع في تفرده مثيلًا، فبمزيج صوتي غني ونقي للغاية وجدت نفسي أستمع لصوت عبد الحليم ونجاة الذي جاء مصاحبًا للشريط الصوتي للفيلم وكأنه استمع إليهم لأول مرة في حياتي، حتى موسيقى المهرجانات المدمجة في الفيلم كانت مختلفة، وأتى أداء أغنية «يا مسافر وحدك» دون موسيقى في الفيلم ليعكس قمة الدراما الصوتية المصاحبة للفيلم، أداء موتر هزني من الأعماق، ليؤكد حالة «اغتراب» عنيفة نعيش فيها.

هذه قاهرة نعيش فيها كأغراب، هذا وطن غريب نعيش فيه كمقيم في غرفة فندق، يعبر فيه النزيل إلى جهة ما، لبلد أخرى أو ليمضي حياته غريبًا ويعبر فقط إلى الموت.

هذه الغربة التي عبر عنها الفيلم رمزيا عبر أوتيل «الهيلتون»، وعبر شخصية «سلوى» المهاجرة السودانية، وعبر أغنية «يا مسافر وحدك» التي تكررت مرتين في الفيلم.



لن نعلم من هو المتسبب الحقيقي في كل الجرائم التي تقع إلا عندما يتم الاعتراف بنا كـ «أصحاب أصليين» لهذا الوطن

هذه الوحدة القاسية، شعرت بها مرة أخرى ثقيلة ومزعجة مع خبر مداهمة «بلكون لاونج». الطبيعي أن أستطيع في «وطني» أن أذهب إلى أي مكان وقتما أشاء لأشاهد ما أشاء، الغريب هو أن تداهمني الشرطة لأني أشاهد عمًلا سينمائيًا يستطيع أي «مواطن طبيعي» في أي «دولة طبيعية» ومحترمة أن يشاهده دون إزعاج، ودون أن يشعر أنه يأتي بعمل «غريب» وشائن ومُطَارد وإجرامي.

نفس «الغربة» شعرت بها مرة أخرى مع حادث بئر العبد البشع، حاولت أن أتخيل ذلك «الإرهابي» الذي قام بالجريمة مع مجموعته، من هو هذا الشخص «الغريب» بالضبط؟ هذا شخص في ريعان شبابه، أين كان يعيش فيما مضى من عمره، مع من كان يتعلم ويأكل ويشرب وينتقل، هذا شخص لم يأت إلينا من السماء، المفترض أنه كان يعيش معنا في هذا الوطن، لكن شيئا ما «غريبا» قام بتغييره ليصبح على هيئته الشاذة والقاتلة التي تدفعه لسفك دماء بني «وطنه».

من هذا الشخص؟ ألم تكن الدولة تعلم شيئًا عنه؟ هل كانت تغض السمع والنظر عنه لسبب ما؟ هل هو جزء من ذلك الصراع الخفي و«الغريب» بين طبقات السلطة الفاسدة في هذا الوطن، وأتى الوقت لكي يظهر من أجل غرض ما؟ كل ما يحدث «غريب» و«شاذ» وغير منطقي إطلاقًا، ولأننا «ضيوف» في غرفة أوتيل فلا سبيل لنا ولا حاجة لنا لنعلم ما يدور أصلًا، ولن نعلم ما يحدث ومن هو المتسبب الحقيقي في كل الجرائم التي تقع إلا عندما يتم الاعتراف بنا كـ «أصحاب أصليين» لهذا الوطن. دون ذلك فنحن لا نزال – جميعا – قاطنين كغرباء ومسافرين في غرفة الهيلتون في انتظار مصائرنا.

شعرت أثناء مشاهدتي للفيلم يوم الخميس بشيء منذر قادم، وعبرت أحداث الجمعة عن نذر أخرى تنبئ بوقوع أحداث أكبر لهذا الوطن، طوفان قادم لا سبيل لإيقافه.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.