كنت قبل بضع سنوات قد نشرت مقطعًا لأحد النباتات تلتهم ضفدعًا، مُعلقًا بتهكم:

حتى النباتات مطلعتش نباتية.

بالطبع هنا لم أقدّم حُججًا عقلية، فلم أكن أعتبر أن فكرة «النباتية» تتعدى كونها أحد تلك الأنظمة الغذائية مثلها مثل أنظمة الاعتماد على المشروبات فقط لفترة ما، وغيرها مما عُرِف باسم الـ «ديتوكس»، وهكذا هو تصدير «النباتية» لعالمنا العربي من باب كونها نظامًا صحيًا.

وتحت ذريعة «الصحة» كان يتم طرح بعض الحُجج للدفاع عن النباتية، لكني أيضًا لم أكن أتعامل معها بتلك الجدية، فلو أن المرء قد ركَّز انتباهه تجاه معايير جودة الطعام الذي يأكله بشكل يومي فلن تنجو لا الخَضراوات، ولا الفاكهة -وما يدخلُ فيهما من كيماويات لزيادة حجمها وتكثيرها– ولا القهوة، ولا الزيت، ولا السكر، ولا المشروبات الغازية، ولا جُل الحلويات من البقالة، ولا سندوتش الفول مع المخلل من عربة الفول وهلمَّ جرًا.

ولا أُريد أن يُفهَم هذا الكلام بأي حالٍ من الأحوال على أنه دعوةٌ للإهمال في النظام الغذائي، كأننا نقول: بما أننا نُهمل في الأكل غير الحيواني، فما المانع في الإهمال في الأكل الحيواني أيضًا؟ فهذا ليس ما أريد قوله أبدًا. الشاهد كان فكرة التركيز الشديد على مبدأ النباتية في أنه هو الخلاص للنجاة من كل الآفات الغذائية، وليس جودة الطعام بحد ذاته.

ذلك لأني لا أرى نفسي نباتيًا فأُقلع عن سندوتش البطاطس بالتومية والمُخلَّل، أو طبق المعكرونة بالصلصة، أو طبق الحلويات مع كوب «قهوة سريعة الذوبان»، لأن مبدأ الالتزام بالأكل الصحِّي لم يكن يتمحور حول وجود منتجات حيوانية أم لا، بل بالتوازن في جودة الطعام نفسه، وما يدخل فيه من مكونات. كما يقول «مايكل موس»

صاحب كتاب «الملح والسكر والدهن»

إن عمالقة الطعام يعتمدون على هذه الثلاثية لجعلنا أكثر إدمانًا للطعام، وهذه الثلاثية ليست حكرًا على الأطعمة الحيوانية.

وحتى لا يتحول المقال إلى فقرة «المطبخ الصباحي»، فنُلخِّص
ما أريد قوله في عدم اقتناعي بأن التركيز على مبدأ النباتية متعلق فقط بفكرة
النظام الصحي المتوازن، أو المبالغة الشديدة في استعراض أضرار المنتجات الحيوانية
في ذاتها، وليس لاعتبارات مثل كمية الدهون والأملاح والاستهلاكية الشديدة فيهم.
فماذا قد تكون الأسباب الأخرى؟

طائفة النباتيين

من اللافت للانتباه الاهتمام الشديد بالنباتية من قِبل الملحدين واللا أدريين من باب الدفاع عن الحيوانات وتعرضها للقتل في سبيل إرضاء الإنسان. ففي

دراسة على 11 ألف شخص نباتي

، أجاب 47% منهم بأنهم «غير متدينين»، ولا نزعم بأن تلك النسبة هي مُمثَّلة عن أغلبية النباتيين حول العالم والذي يُقارب عددهم ما بين 550 إلى 950 مليون حول العالم، لكن دائمًا ما لفت انتباهي هذا الترابط ما بين النباتية وعدم الإيمان بدين، لأولئك الأشخاص الذين يُلقون المحاضرات ويقفون في الاحتجاجات والتظاهرات المُعلِنة امتعاضها عن تناول اللحوم والمنتجات الحيوانية.

لا يأتي مبدأ النباتية كنتيجة ضرورية لفكرة الداروينية أو التطور، بل يُعلن الكثير من النباتيين الملحدين عن اعتقادهم بعلو قيمة حياة الإنسان عن حياة أي حيوانٍ آخر. لكن التخلي عن الدين يتبعه تخلٍّ عن تلك النظرة في تسخير الكون للإنسان، المخلوقات ليست مخلوقة للإنسان، لكلٍ منها حياتُها الخاصة، ورغم أننا حيوانات في الأصل، إلا أنه يجب أن نترفّع عن قتل باقي الحيوانات ذات الجهاز العصبي القريب منّا بدافع التغذية، كمحاولة للتقليل من المُعاناة الموجودة في هذا الكون.

مصطلح Vegetarian يُعبر عن أولئك الذين يُمكنهم أكل منتجات الألبان والبيض، مع الامتناع عن تناول اللحومِ والأسماك. أما Vegan فهو امتناع الشخص عن كل المنتجات الحيوانية، حتى التي لا يتعرض فيها الحيوان إلى القتل، ولذلك لأن الحيوانات تتعرض للمعاناة والتعذيب في سبيل هذه المنتجات.

أما المصطلح الذي نود استخدامه هنا هو «طائفة النباتيين» Vegan Cult وهو مصطلح للتعبير عن أن الأسس التي يقوم عليها هذا التوجه تستقي أفكارها بشكل أساسي من رفض الدين كمعيار ترجيحي، مثل الإلحاد واللا أدرية أو حتى علمنة الدين.

هناك بعض الأساسيات التي يجب أن نفهمها عمّا يُسمى بـ «طائفة
النباتية» لتوضيح الالتباس، منها:

  • عدم قتل الحيوانات هو النابع الأساسي لهذا المبدأ وليس النظام الغذائي المتوازن، فهو ليس اختيارًا شخصيًا، بل مبدأ أخلاقي سارٍ على كل البشر.
  • قتل الحيوانات بعضها بعضًا هو أمرٌ اضطراري، أما في الإنسان فهو اختياري.
  • الكائنات الحية من غير أصحاب الجهاز العصبي المعقد القريب من الإنسان لا مانع من قتلها، لأنها لا تُعاني المعاناة بمفهومنا البشري، من أمثال النباتات والفطريات والبكتيريا والديدان.
  • النظام الغذائي الحيواني حتى وإن كان أساسيًا في التاريخ البشري، إلا أنه ليس مُبررًا أخلاقيًا في الوقت الحالي.
  • تعذيب الحيوانات هو لازم من لوازم كوننا آكلي لحوم، وليس فقط متعلقًا بالشركات الرأسمالية التي تُعرِّض الحيوانات لشتى ألوان العذاب.
  • إن كانت حياة الإنسان تتوقف على أكل حيوانٍ ما (كمثال التيه في جزيرة معزولة)، فلا مانع من هذا.

من جوع الطعام إلى جوع المعنى

الأمر الذي يفشل فيه كل مُتبنٍ لمذهب يقوم في أسسه على رفض الدين هو تبرير تقديس قيمة «الحياة»… قيمة نبضات القلب… قيمة حياة أي كائن حي في هذا العالم الخالي بالضرورة من أي معنى أو غاية.

إنْ تنزَّلنا إلى الحُجج التي تُحاول إثبات عدم أخلاقية المُعاناة سواء للإنسان أو لغيره، فالأمر الذي لا تتحطم فيه تلك الحُجج هو عبء إثبات عدم أخلاقية القتل، وهو الأمر الذي يترفع عن الاعتراف به الكثير والكثير من الملحدين بدون أي مبرر عقلي. فيقول عالم النفس الشهير «جوردن بيترسون» إنَّ السبب المحوري في تجريم الانتحار هو الألم والمُعاناة التي تعود على من حوله، فالأمر يؤول في النهاية إلى مبدأ المُعاناة.

وعلى غرار مقطع النباتية آكلة اللحوم التهكمي الذي تحدثنا عنه في البداية، قدَّم «آليكس أوكونر» الملحد الشهير والمُدافع بشدة عن حقوق الحيوانات

مقطعًا ساخرًا بعنوان «لماذا أتناول لحم الكلاب»

، مستعرضًا العديد من الحُجج التي تُقال للنباتيين في إطار أنه لا يُمكنك الاعتراض على آكلي لحم الكلاب وفقًا لنفس الكلام. ونعترف بأن أغلب تلك الحُجج هي سخيفة ومُتهالكة بالفعل، ممّن قد أوضحناها في الفِقرة السابقة، لكنه أوقع نفسه في مأزقٍ أخلاقي.

مع اعتراف آليكس بأن الموت –لا المعاناة أثناء الموت أو القتل– لا يُمكن اعتباره شيئًا سلبيًا، لكنه تحفَّظ على نشر المقطع الذي يوضح فيه كل الأفكار بشكلٍ تفصيلي في ظل وفيات كورونا المستمرة، مراعاةً للحالة النفسية لمن فقدوا أحباءهم.

الحُجة العقلية الوحيدة التي اعتمد عليها آليكس في «لماذا
أتناول لحم الكلاب» هو نفرة الغالبية من المشاهدين لتلك الفكرة فقط لا غير، وإلا
فما من مشكلة، فكل ما قاله –على سبيل التهكم– كان محاولة لتعميم ما يُمكن أكله من
حيوانات وما لا يُمكن أكله، وذلك لأن الاعتراض هو موجه لعملية قتل وتعذيب
الحيوانات، وليس نوعًا من الاشمئزاز من تناول حيوانٍ ما.

هناك بعض الدراسات التي

تربط ما بين النباتية وبين الاكتئاب

، فعلى سبيل المثال دراسة شملت ما يقرب من 15 ألف امرأة، أشارت إلى أن 30% من النباتيات يُعانين من الاكتئاب في مُقابل 20% من غير النباتيات. وهنا يجب التأكيد على أن الارتباط لا يعني السببية، لأنه يوجد أيضًا دراسات لم تجد تلك العلاقة بين الاكتئاب والنظام النباتي، فنحن لا نقول إن النظام النباتي يجعلك مُكتئبًا، بل ربما حتى يكون الأمرُ معكوسًا، فيتجه أصحاب الاكتئاب إلى النظام النباتي أو إلى مراعاة البيئة أو إلى التطوع لسد ذلك الفراغ الوجودي.

للأسف، فإن «طائفة النباتية» لا تُقدم للإنسان ذلك
المعنى والغاية بوجوده من خلال تقليل المُعاناة، لأنك ستجدها غير متسقة والمصدر
الذي تستقي منه مسلماتها.

ذبحٌ بلا ألم؟

قد تقول لي: تذكر التلازم ما بين القتل والمعاناة التي ذكرتها كأحد الأسس، ألا يُعتبر هذا دليلاً على عدم أخلاقية قتل الحيوانات؟

يعتمد الأشخاص من طائفة النباتيين على فكرة التعذيب
والألم، بما في ذلك الظروف المروّعة في الشركات من «مذابح جماعية» على حد وصفهم.
دعونا نسأل الآن هذا السؤال: هل يُصبح أخلاقيًا تربية الحيوانات في ظروف رحيمة، مع
تخديرهم أثناء القتل؟

مع نزع عامل الألم من المُعادلة، يقف أصحاب طائفة
النباتية أمام تلك المُعضلة.

ستقول: كلا الحل بسيط، هو أيضًا بتعميم تلك الفكرة لما يشمل الإنسان أيضًا، فهل ساعتها سيُصبح أخلاقيًا؟

الإجابة الصادمة هي «نعم»، فلا يزال عبء الإثبات موجودًا، ما المانع الأخلاقي من القتل في المقام الأول؟ أقصى رد يُمكن طرحه هو «سلب إيجابيات الحياة»، فإن القتل يمنع الإنسان من التلذذ بنعم الحياة، فهو بالتالي شيء سلبي. وأبسط رد على هذا هو في الجُملة ذاتها، مع استبدال كلمة واحدة لتُصبح «سلب معاناة الحياة».

فتحت سقف الإلحاد، فإن القتل هو الوسيلة الأكثر فاعِلية
لتقليل المُعاناة في هذا العالم، أكثر بكثير من التحول إلى النباتية، أو أن تجد
علاجًا للسرطان حتى. مظلة الدين كانت توفر الإجابات الحقيقية للكثير من المبادئ
التي لا نتخيل الاستغناء عنها.

عيد الأضحى النباتي

تأتي إجابتي المُفضلة عند سؤالي «لماذا أنت لست نباتيًا؟» بصورة مختصرة للغاية، ببساطة لأن الله أحل لنا تلك اللحوم. ساعتها يُبادرني قائلًا: لكن ماذا إنْ كنت تتحدث إلى غير مسلم؟ للمفاجاة، ستظل إجابتي كما هي، لأني (أنا) المسلم.

من العجيب أن ترى تصريحات بعض المسلمين «النباتيين»

بعزوفهم
عن الأضاحي

واستبدالها بتوزيع الأكل النباتي أو الأموال، ووصف ذبح الأضاحي
بأنه من الأمور «الجدلية» أو الشائكة في العيد والحج.

قال
رسول الله:

«إنَّ الله كَتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتُهم فأحسنوا الذبح، وليَحُد أحدكم شفرته، وليُرِحْ ذبيحته» رواه مسلم.

من السذاجة القول بأن الذبح لا ألم فيه، ولكنه لا يطغى على مبدأ إباحة تسخير الله لنا للحيوانات وما ننتفع بها من جلودها ولحومها وألبانها، نأكل منها ونُطعِم القانع المُتعفف عن السؤال، والمُعتر الذي يعتريك بسؤاله. وهذا المبدأ غير قابل للتعميم بإباحة قتل البشر للمنفعة، لأننا من البداية نُباين ما بين الإنسان والحيوان.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.