رغم صدوره منذ عام 1991، يعد

فيلم «فقط بالأمس» «Only Yesterday»

الأقل حظًا بين أفلام استديو جيبلي من حيث الانتشار؛ حينها رفضت شركة والت ديزني توزيع الفيلم بسبب احتوائه على مشاهد تتحدث صراحةً عن الدورة الشهرية لدى الفتيات الصغيرات، وقررت أنها لن توزعه إلا بتبديل هذه المشاهد أو حذفها. لكن العقد المبرم لتوزيع أفلام استديو جيبلي تضمن بندًا حاسمًا يمنع ديزني من حذف أي مشهد من مشاهد الأفلام. وعليه، ظلّ الفيلم خارج نطاق أفلام الأنيميشن اليابانية الشهيرة المدبلجة باللغة الإنجليزية.

في عام 2016 احتفالاً بالذكرى الـ 25 للفيلم، تم إطلاق نسخة مدبلجة للفيلم بالإنجليزية بعد أن اشترت شركة

جي كيدس

الأمريكية حقوق توزيع الفيلم. حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا وقتها، لدرجة أن علّق بعض النقاد أن للفيلم نصيبًا من اسمه، وكأنه صُنِع «فقط بالأمس».

بطلات جيبلي

اعتدنا في أفلام استديو جيبلي أن ندخل عوالم مدهشة ونحظى بمغامرات مثيرة، ونرتبط ببطلاته. اهتم دومًا صناع الأفلام في استديو جيبلي على خلق شخصيات نسائية شجاعة ومثيرة للاهتمام، غير سطحية بل تتطور على مدار الأحداث، من خلال البحث والتجربة من أجل اكتشاف نفسها بدون النزعة المعتادة في الأفلام الأمريكية، والتي تميل بالضرورة في أغلب الوقت إلى كسر القوالب بحدة، والتمرد على تقاليد المجتمع، والخروج عن الأسرة.

إحدى هولاء البطلات هي تايكو، بطلة الفيلم الأقل ذيعًا الأكثر بقاءً، فتاة في الـ 27 من عمرها تعمل في إحدى الوظائف المكتبية بإحدى الشركات الكبيرة. في واحدة من رحلاتها السنوية إلى الريف لحضور موسم قطف زهور العُصفر، تستدعي ذكريات طفولتها، وكأن نسختها الطفلة ترافقها في رحلتها.

الفيلم مقتبس من إحدى سلاسل المانجا (Manga) -القصص المصورة اليابانية- والتي تدور حول فتاة صغيرة. ها هنا عبقرية المخرج الياباني «إيزاو تاكاهاتا»، أحد مؤسسي استديو جيبلي، ومخرج واحد من أعظم الأفلام عن مآسي الحرب جامعًا بين القسوة والبراءة «قبر اليراعات» «Grave Of The Fireflies»، تظهر جلية في كتابته لشخصية تايكو الشابة، ودمجها مع الأحداث المأخوذة من القصة المصورة لخلق حياة كاملة من ماضي وحاضر لشخصية تايكو.

في «فقط بالأمس» تجد نفسك متوحدًا مع تايكو في مختلف صراعاتها؛ مع المجتمع التقليدي الذي يحثها باستمرار على الاستقرار والزواج لأنها «تكبر في السن»، وفي مواجهة حياة المدينة الصاخبة والرأسمالية التي تحكمها، حتى ذكرياتها كطفلة التي تلاحقها متراوحة بين ذكريات سعيدة وحزينة. بعد مرور كل هذه الأعوام نرى كيف تستحضر تايكو هذه الذكريات وتحكيها، كأنها تنظر للأحداث مرة أخرى وتتقبلها بشكل أهدأ وأكثر رحابة رغم أثرها عليها آنذاك، وكأنّ كلتيهما تايكو الطفلة وتايكو الشابة ترشدان بعضهما البعض إلى الطريق الصحيح.

دراما واقعية مرسومة باليد

«فقط بالأمس» كان تجربة مختلفة ونقلة نوعية في صناعة أفلام الرسوم المتحركة، والتي أتت كتلبية لميل استديو جيبلي في هذا الوقت، وتاكاهاتا مخرج الفيلم خاصةً في إنتاج نوع جديد من أفلام الأنيمشن يتناول دراما إنسانية مباشرة اعتدنا أن نراها في أعمال سينمائية حية يظهر أبطالها على الشاشات، بعيدًا عن العوالم المسحورة والكائنات الخيالية والفازنتازيا، التي يشتهر الاستديو بإنتاجها. استهدف تاكاهاتا بفيلمه النساء البالغات، لكن لدى عرضه أثبت مكانته ونجاحه لدى المراهقين من كلا الجنسين على حد سواء.

يرجع هذا النجاح إلى الاهتمام بكل التفاصيل كبيرة كانت
أو صغيرة، محورية أو ثانوية. كذكريات تايكو حول طفولتها، علاقاتها بأخواتها اللاتي
يكبرنها بسنوات عديدة وحبهن لفرقة «البيتلز»، صديقاتها في المدرسة، أول شرارة حب
طفولي، الدورة الشهرية كحدث محوري تمر به تايكو وزميلاتها في المدرسة، عدم حبها
لمادة الرياضيات وما سببته من ارتباك لها، تنقيتها للخضروات التي تحبها دون أخرى
من طبق الغداء، حبها للريف منذ الطفولة، حتى البرامج التليفزيونية الشهيرة التي
كانت تعرض وقتها وتحب تايكو كطفلة مشاهدتها.

كل هذا جعل الفيلم ينجح في تخطى فكرتنا التلقليدية عنه كفيلم أنيميشن. عبقرية تاكاهاتا جعلتنا نتوحّد مع حيرة تايكو وتساؤلاتها ومشاعرها، كأننا نشاهد أحداثًا حقيقية ونسترجع ذكريات حدثت بالفعل لإحدى الفتيات الصغيرات.

إحدى هذه التفاصيل الملفتة للنظر هو اجتماع أسرة تايكو وهي طفلة حول ثمرة الأناناس، وكأنها جسم غريب لا يعرفون كيفية التعامل معه، ورد فعلهم عند أكلها في واحد من أجمل وأكثر مشاهد الفيلم طبيعية.

بالرجوع إلى اليابان

وقتها في الستينيات (1966)، كانت الفاكهة الطازجة المستوردة غير شائعة في الأسواق وباهظة الثمن، فكانت معرفة أغلب اليابانين بالأناناس تتوقف عند الفاكهة المقطعة لحلقات سابحة في محلول سكري خفيف ومعلبة في صفيحة معدنية.

الخروج عن نمط الرسوم التقليدية

أما عن الجانب التقني، كان فيلم «فقط بالأمس» من أوائل أفلام الأنيميشن التي لم تكتفِ بنمط الرسم التقليدي للشخصيات، بل اعتمدوا على رسم أدق بخطوط أكثر للتعبير عن حركة عضلات الوجه وإيماءاته كالابتسام أو الاقتضاب. كما مزج الفيلم بين الأسلوبين التقليدي (في مرحلة طفولة تايكو) والأقرب للواقعية (في مرحلة شبابها).

عندما تعود تايكو بذاكرتها نشاهد رسوم المانجا التقليدية للشخصيات، والألوان الهادئة، والخلفيات ضبابية التفاصيل رغم ثرائها، وكأن تاكاهاتا يجعلنا نستحضر مع تايكو ذكرى بعيدة موليين كل انتباهنا للحدث لا ما يحيط به. على عكس أحداث الحاضر نجد الألوان زاهية وأكثر تشبعًا، والخلفيات أكثر حدة وتفاصيلها أكثر وضوحًا، وملامح الشخصيات وتعبيراتها أكثر دقة وحياة.

كان من الضروري لتاكاها أن تكون كل المشاهد بالفيلم أقرب ما تكون إلى الحقيقة حتى أدق التفاصيل أو أكثرها تخصصًا كعملية قطف زهور العصفر نفسها. لذا قبل عام من إصدار الفيلم، توجه تاكاهاتا في

رحلة بحث

مع عدد من فريق عمله إلى منطقة ريفية في مدينة «ياجاماتا» مشابهة للمكان الذي تدور به أحداث الفيلم، وتواصلوا مع أحد المزارعين لتعليمهم كيف يحصدون العصفر. سُجلت كاملة على شريط فيديو، واعتمد عليها الرسامون في تصوير جمال المناظر الطبيعية بشكل عام إلى جانب حقول العُصفر.

رغم كل الاختلافات الاجتماعية والثقافية، قد تشعر بعض النساء أن فيلم «فقط بالأمس» يعبر عنهن من خلال شخصية تايكو، وأنه يمثل قضية نسائية تتخطى الحدود الجغرافية، حيث جميعنا كنساء موضوعات في قالب مُعد مُسبقًا من أجلنا -وإن اختلف مسماه أو شكله- نواجه المشكلات والتساؤلات ذاتها التي تدور حول معرفتنا لأنفسنا واكتشافنا لحقيقتها.

فربما لم يخطر على بال تاكاهاتا أنه بعد كل هذه السنوات ستظل مشاكل الزواج والعمل والأحلام تطاردنا. لكن يبقى النجاح الذي حققه الفيلم لدى كل من شاهدو رجالاً أو نساءً شاهدًا دليلاً على عبقرية تاكاهاتا الخالدة، رغم فراقه لنا في 2018، في تقديم قصة إنسانية صادقة يشعر الكل معها أنها تعبر عنه بشكل أو بآخر.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.