تمثل واقعة كربلاء حدا فاصلا في تاريخ المسلمين، فاختلفت وقائع التاريخ بعدها اختلافا بينا، نشأت فرق ومذاهب، وأخذت الصراعات على السلطة بعدا عقائديا. ولم يعد مفهوم «إخواننا بغوا علينا» الذي أطلقه سيدنا علي –كرم الله وجهه- (سنن البيهقي)، حاضرا في الخلافات البينية بين المسلمين، وحدث تحول ما في الوعي الجمعي للأمة. لقد عملت واقعة كربلاء كالبؤرة المقعرة فجمعت كل المفارقات التي سبقتها لتصنع منها حدا فاصلا في التاريخ والوعي والثقافة.


كربلاء بين سيدي شباب الجنة!



مثّل الحسن والحسين (رضي الله عنهما) فكرة قبول الاختلاف وتعدد الرؤى والطرح في الإسلام تمثيلا رائعا

عند الحديث عن سيديّ شباب الجنة «الحسن والحسين»، لا شك أننا أمام الحديث عن بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهما بضع من فاطمة، وفاطمة بضع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن النبي الكريم أحبهما، وأشرف على نشأتهما الأولى، واختار لهما اسميهما، وعقّ عنهما، وشهد لهما بالخيرية والهدى. ولا شك أن الحسن والحسين وعبد الله بن الزبير وأترابهم جاءوا نتاج المجتمع المسلم خالصا، فقد كانت ولادتهم جميعا بعد الهجرة للمدينة في طور تأسيس المجتمع والدولة، فلم يخالط نشأة أي منهم شائبة من شوائب الجاهلية.

ومع ذلك مثّلوا –لا سيما الحسن والحسين- فكرة قبول الاختلاف وتعدد الرؤى والطرح في الإسلام تمثيلا رائعا؛ فالحسن (رضي الله تعالى عنه) رفض مبدأ الصراع على السلطة رفضا قاطعا، وتنازل عن الخلافة طواعية لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وقال لمن لامه من محبيه وأتباع أبيه: «كرهت أن أقتلكم على الملك»، ثم نصح أخاه الحسين (رضي الله عنه) وهو على فراش الموت: «وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا – أهل البيت – النبوة والخلافة؛ فلا أعرفن ما استخفك سفهاء أهل الكوفة، فأخرجوك» (سير أعلام النبلاء ص 279)، وكأنه رضي الله عنه وأرضاه كان يرى واقعة كربلاء بنور من الله، وكان يرفضها رفضا قاطعا، ويحذر شقيقه منها تحذيرا بالغا.

أما الحسين (رضي الله تعالى عنه وأرضاه) فقد نشأ ثائرا، ولعله ورث بعض خصال الإقدام في الحرب من أبيه (كرّم الله وجهه) الذي أراد أن يسمه «حربا» كما أراد لشقيقه الحسن من قبل، ونهاه النبي عن ذلك. ولذلك لم يلتفت إلى وصايا شقيقه الحسن، لا فيما يخص أمر الخلافة المحسوم في رأي الحسن لغير الهاشميين، ولا في شأن الخروج إلى كربلاء، ولا في شأن منازعة بني أمية وأبنائهم، وكلها أمور حذره منها الحسن!


موقف أئمة العصر من الخروج إلى كربلاء

رفض أئمة العصر من الصحابة وأبناء الصحابة والتابعين موقف الحسين من الخروج إلى كربلاء وحذروه من ذلك. نصح الحسين كثير من الصحابة والتابعين بعدم الخروج كأخيه محمد بن الحنفية وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله وغيرهم.

لقي ابن الزبير الحسين بمكة فقال: «بلغني أنك تريد العراق، قال: أجل، قال: لا تفعل، فإنهم قتلة أبيك، الطاعنين بطن أخيك، وإن أتيتهم قتلوك». (المصنف 7/477)

خرج الحسين من مكة متوجهاً العراق فلحقه ابن عمر وناشده ألا يخرج فأبى الحسين، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: «أستودعك الله من قتيل!»

ابن الزبير رضي الله عنه كان معارضا ليزيد بن معاوية، لكنه لم يتفق مع الحسين في الخروج على يزيد، (الطبري في تاريخه 5/354).


الاصطفاف الكربلائي؟

تبين مما سبق أن فضلاء الصحابة وأبنائهم وخيار التابعين، لم يصطفوا مع الحسين –رضي الله عنه- وهو سبط النبي صلى الله عليه وسلم، وله بشارة بأنه أحد سيدي شباب الجنة، حينما خالفوه في مبدأ الخروج، أو وجهة الخروج أو توقيته، ولم يُلزمهم الاجتهاد السياسي الثوري لعظيم من عظماء الأمة، ولم يخرجوا معه ولو من باب الاصطفاف، وتكثير السواد، وهم يعلمون ولا شك أن المفاضلة بين الخليفة يزيد بن معاوية والحسين بن علي، تُرجّح كافة الحسين في فضل الصحبة والنسب وخيرية المسلك والسيرة.

لكنهم امتنعوا من الاصطفاف مع اجتهاد سياسي رأوه غير ناجع أو بالغ الغاية.. ثم قُتل الحسين رضي الله عنه، كما اتفق العلماء –مظلوما- لأنه ترك المطالبة بالبيعة على الخلافة، ودعا خصومه إلى إحدى ثلاث تحقن بها الدماء، أن يعود إلى مكة، أو يخرج إلى الثغور مجاهدا، أو يذهب إلى يزيد مبايعا (سير أعلام النبلاء ص311). لكنهم أبَوا إلا أن يقتلوه، دون أن يمكنوه من لقاء يزيد للمصالحة أو الاتفاق!!

كان قتل الحسين إذن ظُلما بيّنا، ومع ذلك لم يصطف الصحابة ولا أبناء الصحابة ولا التابعين في مواجهة قتلة الحسين، ولم يثيروها ثورة عمياء ولا فتنة مضلّة، ولم يتاجروا بدماء المغدورين، ولا يذكر لنا التاريخ كيف طالب أولياء الدم -الذي سال كثيرا وشريفا ونبيلا في كربلاء- بالقصاص من قتلة الحسين ورفاقه!

فإن كان الحسين رضي الله عنه لم يرَ من حقه فرض الاصطفاف على رفاق الإيمان وأئمة العصر في خروجه، ولا هم اصطفّوا ثائرين ضد قاتليه، فهل يرى أحد من الصالحين بعد الحسين أنه أحق وأولى باصطفاف الأمة معه في اجتهاد سياسي يصيب ويخطئ؟!


بين كربلاء وأصحاب الأخدود

لا شك أن القارئ –الإنسان- لوقائع وأحداث ملحمة كربلاء، يتأثر بالغ التأثر، للوحشية التي واجه بها خصوم الحسين جماعته صغيرة العدد والعدة، لا سيما وقد قتلوا الذكور جميعا، ولم يكن هناك أي تكافؤ يجعل منها معركة، وإنما تقترب الأحداث إلى وصف المذبحة البشعة، لا سيما بعد عرض الحسين الذي كان بمثابة تسليم كريم يحقن به دماء البقية الباقية من أهل بيته.

ولا شك أن فجيعة سفك الدماء، ووصف المذبحة يصنع حالة أسطورية تتوحد مع القصة الملحمية، وتجعل وعي عامة المتلقين يتشربّها باعتبارها ملحمة الصمود والكرامة والفداء؛ فتعيش أسطورة في نفوس الناس، رغم أنها لم تكن كذلك، ثم يبنى عليها فكرا يقترب من رسوخ العقيدة الدينية، خاصة إذا تم إقرانها بحادثة عظيمة خلدّها القرآن الكريم –كتاب الإسلام الخالد- وهي حادثة الأخدود.

وحتى لا تأخذ الملحمة الكربلائية هذا البعد العقائدي في نفوس المسلمين، لابد من التذكير بالفرق الجوهري بين صراع أصحاب الأخدود، وصراع أصحاب كربلاء؛ الصراع الأول كان صراع عقيدة بامتياز، صراع يصفه القرآن الكريم بقوله تعالى: «وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد» (الأخدود: 8). وفي الحديث أن الملك كان يأمر المرأة: «ارجعي عن دينك وإلا رميناك في النار»، المعركة كلها كانت معركة عقيدة، ومعركة العقيدة معركة مقدّسة تستحق أن يُخلدّها القرآن الكريم مثلا على أن كل ما في الأرض يُقدّم فداء لتمسك المؤمن بعقيدته.

أمّا الصراع في ملحمة كربلاء فقد كان صراعا سياسيا، كان اجتهادا لم يحظَ حتى بإجماع الأمة أو أئمتها، كان صراعا لخصه الحسن رضي الله عنه بقوله: «كرهت أن أقتلكم على الملك»، فهيهات أن ننسج على غرار خلود أصحاب الأخدود خلودا آخر، لا يتفق وطبيعة الصراع، ولا صفة المتصارعين، ولا منطق الأحداث، فطبيعة الصراع العقائدي صفرية، فإما الإيمان أو الكفر. وعند المؤمن تصبح المعادلة إما الإيمان أو الشهادة.. أما الصراع السياسي فتحكمه معادلة غير صفرية دائما وفق نظرية التعايش والتداول والتدافع.


منهج الإسلام في تجنب حرب الإبادة (تجنب المعادلة الصفرية)



كان قتل الحسين ظُلما بيّنا، ومع ذلك لم يصطف الصحابة ولا التابعين في مواجهة قتلة الحسين، ولم يثيروها ثورة عمياء ولا فتنة مضلّة، ولم يتاجروا بدماء المغدورين



ما زال بين المسلمين من يعتبر كربلاء رمز الفداء، ومنهم من يكرر وقائعها كل فترة مقدما نفس المبررات، ومتجاهلا نفس المحاذير، ثم يرجو أن تتغير النتائج

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا»، ولقد حرص الإسلام حرصا عظيما على نجاة أبنائه من الإبادة، ولعل هذه هي طبيعة الرسالات السماوية ذات البُعد الحضاري التي تقيم أمة وتُنشأ حضارة؛ فحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على توجيه المستضعفين من المسلمين إلى الهجرة، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة التي لا يُظلم عند ملكها أحد، نجاة بهم من التنكيل والاضطهاد والإبادة. ولم يكن من ورائها التخطيط لإقامة مجتمع أو دولة، حيث لم يهاجر إليها النبي، ولا خطط لذلك. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، ومن فوق سبع سماوات أذن الحق تبارك وتعالى للمستضعفين من أمثال عمار بن ياسر رضي الله عنه أن يتقول مقالة الكفر وهو مطمئن بالإيمان، لينجو بنفسه «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (النحل:106)، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن عادوا فعد».

وخالد بن الوليد سيف الله المسلول ينسحب بالجيش من غزو مؤتة حفاظا على حياة المسلمين، ثم يصفهم النبي بالكُرّار إن شاء الله. وقال أمير المؤمنين عمر: «أنا فئة كل مسلم»، ونعى قطع الجسر بحرب العراق وقال: «رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة». وحبس المثنى بن حارثة عبد الله بن المرثد الذي قطع الجسر على الفرات وعزّره، وضربه وربطه على فعلته التي أغرقت نحو ألفين من المسلمين، درس آخر في النجاة بالنفس وبالمسلمين يضربه الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي الذي يصمد أمام هرقل الروم رافضا كل مساومة حتى يقرر هرقل إلقاءه في قدر الزيت المغلي، فلا يرمش للصحابي الجليل جفن، لكن عندما تعرض له فرصة لإنقاذ حياة جملة من أسارى المسلمين مقابل تقبيل رأس هرقل الروم، يفعل، ثم يعود بالأسرى إلى المدينة فيقبل عمر رأسه..

هذا هو منهج الإسلام في توفير الحماية لأبنائه والنجاة بهم من موارد الهلاك؛ فمنهجنا لا كربلائية فيه، حتى الحسين نفسه رضي الله عنه بطل واقعة كربلاء، هو نفسه تنازل عن سبب خروجه لطلب البيعة- أو الاستجابة لبيعة أهل الكوفة- وعرض على مقاتليه خطة النجاة الشريفة بما فيها أن يوقفوه بين يدي خصمه يزيد، فلم تكن تضحية الحسين تضحية هوجاء بلا عقل، لكن الظالمون تجاوزوا المدى في غيهم.

مضت واقعة كربلاء بظلالها وملابستها، لكنها تركت شرخا هائلا في جدار الأمة الواحدة كما أرادها الخالق سبحانه وتعالى «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» (الأنبياء 92)، فانشطرت الأمة انشطارا تعاظم مع الزمن ولم ينجبر، ثم تسلل فكر النواح الكربلائي الملحمي كفيروس أصاب وعي الأمة، فلفتها عن حقائق التاريخ ووقائعه.

فما زال بين المسلمين من يعتبر كربلاء رمز الفداء، ومنهم من يكرر وقائعها كل فترة مقدما نفس المبررات، ومتجاهلا نفس المحاذير، ثم يرجو أن تتغير النتائج، ولست أدري كيف تتغير النتائج إن لم تتغير المدخلات والمقدمات! أما آن لنا أن نتخلص من فيروس الكربلائية نحو وعي معاصر يعود إلى منابع المنهج الإسلامي الصافية قبل أن يكدر صفوها الكربلائية والكربلائيون؟!



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.