تشكل طفولة الإنسان إحدى المحطات الرئيسة في مسيرته الحياتية، تاركة عبر أحداثها وتجاربها وخبراتها وتفاعلاتها أعمق البصمات وأبعدها غوراً في بنيان شخصيته، تأسيساً على ذلك، يمكن احتساب تلك الخبرات والتفاعلات بمنزلة قطب الرحى في عملية تحديد سيرورة تطور تلك الشخصية، وترسيم مسارات تشكلها. فإما أن تجعل منه كائنا اجتماعيا مستدخلًا معايير منظومته الثقافية متمثلاً أبجديتها، الأمر الذي يتجسد عبر شخصية متكيفة مع المحيط، متآلفة مع عناصره ،وإما أن تغرس فيه بذور التنافر والتوتر والاختلال، والتي تتفاعل فيما بينها مفضية إلى شخصية مضطربة معقدة تتنازعها تيارات الانحراف والاعتلال.



يعد «مفهوم الجيل» مفهومًا أساسيًا في دراسة الشباب كفئة اجتماعية مخصوصة، وفي تفسير الظواهر المرتبطة بالتطور التاريخي، وتحليل العوامل المحددة للتغيير الاجتماعي

في ضوء ذلك ينبغي إيلاء تلك المرحلة أقصى درجات العناية والحماية وإحاطة الأطفال خلالها بمناخات إيجابية صحية تضمن لهم النمو السليم المتكامل، لما لذلك من أثر واضح وملموس في صناعة الشخصية لدى المرحلة التي تليها وهي «مرحلة الشباب»، والتي ينبغي أن ينظر إليها صانع القرار بنظرة المستقبل حتى وهو منغمس في مشاكل الحاضر، أي يستحضر روح الشباب التي تتسم بالميل إلى التجديد والتطوير، لتتشكل من خلالها الرؤية الفلسفية والسوسيولوجية لجيل الشباب في فكر «الإدارة والقيادة» المنوطة بها التعامل مع النشء والشباب .

لذلك يعد «مفهوم الجيل» مفهوماً أساسياً في دراسة الشباب كفئة اجتماعية مخصوصة، وفي تفسير الظواهر المرتبطة بالتطور التاريخي، وتحليل العوامل المحددة للتغيير الاجتماعي، فكلمة «Generation» ذات أصل إغريقي وهي مصطلح أساسي في الفلسفة اليونانية، فالإغريق القدامى كانوا واعين بأن العلاقة بين الأعمار ليست بالضرورة متناغمة، وبالتالي كانوا متفطنين للنتائج الاجتماعية والسياسية للتعارض بين الأجيال ، «فأفلاطون» كان يرى في الصراع الجيلي قوة محركة للتغيير الاجتماعي،و«أرسطو» كان يفسر الثورات بالصراع بين الأبناء والآباء، وليس فقط بالصراع بين الطبقات.

كما اعتمدت الأجيال في الحضارات القديمة، خصوصاً في المجتمعات ذات التقاليد الشفهية، كأداة لقياس الزمن التاريخي وتفسير حركته، وكانت بالتالي محور التفكير في الحياة والموت والزمن.

ولقد استعمل «ابن خلدون» هذا المفهوم في بناء نظرية نشأة وانحلال الدولة التي اعتبر لها أعماراً طبيعية كما الأشخاص، وقدر الجيل بأربعين عاماً، ومن ثمة فإن عمر الدولة لا يزيد – في الغالب – على مائة وعشرين عاماً، على اعتبار أنها تمر بثلاثة أجيال هي جيل البداوة وجيل التحول إلى الحضارة ، وجيل الترف والانحلال والهرم .

ويمكن القول إن فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في أوروبا هي الفترة الرئيسية التي تبلور فيها مفهوم الجيل بمعناه الغربي وذلك نتيجة للتحولات التاريخية التي شهدتها المنطقة، والتي أفرزتها حركات اجتماعية قائمة بالأساس على العنصر الشبابي، إضافة إلى التيارات المتنامية التي بدأت تبحث عن نهج علمي لفهم التاريخ، وطرحت بالتالي مفهوم الجيل كأداة منهجية لقياس الزمن التاريخي .



يرى كارل منهايم أن مفهوم الجيل أساسي ويستمد أهميته من الإمكانات التي يتيحها لتحليل تشكل الحركات الاجتماعية والفكرية وفهم التحولات المتسارعة في المجتمع

وليس بخلاف أن التفكير في مسألة الأجيال متأثر إلى أبعد الحدود بأطروحات «أوجست كونت Auguste Comte» و«وليام ديلتي William Dithey» في القرن التاسع عشر، أما في القرن العشرين فقد توجت جميعها بنظرية المفكر الألماني «كارل منهايم Karl Mannheim». وتندرج مقاربة «أوجست كونت» لهذا الموضوع في إطار الأسس التي وضعها لفلسفة التاريخ ونظرية العلوم. فتاريخ المجتمعات –عنده- قائم على قوانين مرتبطة أساساً بالطبيعة البشرية، وشروط تطورها ويتنزل تعاقب الأجيال في إطار مشروع نظري يقيم علاقة تناغم بين التاريخ العام للمجتمعات وتاريخ الأفكار، والعلوم، وعلى هذا الأساس تتطابق مراحل حياة جيل ما مع مراحل التطور الاجتماعي على النحو التالي : الطفولة = الإقطاع، المراهقة = الثورة، النضج = الوضعية.

وبغض النظر عن أهمية بقية النظريات ،فإن أبرزها تبقى في نظرنا نظرية المفكر الألماني كارل منهايم التي تضمنها كتابه «مشكلة الأجيال The problem of Generations»، فهو يرى أن مفهوم الجيل أساسي ويستمد أهميته من الإمكانات التي يتيحها لتحليل تشكل الحركات الاجتماعية والفكرية وفهم التحولات المتسارعة في المجتمع. ويؤكد أن علم الاجتماع مؤهل أكثر من غيره من الاختصاصات لتناول هذا المفهوم وتحليله وإثرائه واستخراج أشكال وعناصر وأسس «ظاهرة الأجيال» في إطار البحث عن القوى المحركة للمصير الاجتماعي.

وعند دراستنا لـ «واقع العلاقة بين المدرسة والأسرة» في أي مجتمع من المجتمعات، قد نجد أن مراحل تطور وظائف المدرسة والأسرة وعلاقتها بتربية الأجيال قد تتقارب مع «الوحدة الجيلية» التي تستمد عناصرها من مفهوم الوضع الطبقي الذي يقصد به بشكل عام :«وضعية متجانسة لمجموعة من الأفراد في إطار بنية اقتصادية ونظام سلطة لمجتمع ما يتحدد وفقها مصيرهم الجماعي ( البروليتاريا ، الأعراف ، مثلاً…) ولا يمكن لهم الخروج من هذه الوضعية إلا عبر تحول اجتماعي فردي – جماعي ..»، وذلك في إطار وضعية متجانسة للشرائح العمرية المتقاربة في فضاء اجتماعي تاريخي ، وذلك في ضوء عدد من المحددات ذات الصلة بالعوامل البنيوية التي تشكل ظاهرة الجيل، ومنها الظهور المستمر لفاعلين ثقافيين جدد واختفاء العاملين الثقافيين القدامى، بما يضمن استمرارية المجتمع من خلال «عملية التشبيب الاجتماعي»، أي الانطلاق من جديد بطاقة حيوية جديدة لبناء مصير جديد مبني على تجارب جديدة في إطار اجتماعي وفكري معين يربط بين أفراد جيل واحد، وعبر التناقل المستمر للإرث الثقافي .

وهذا يؤكد الوظائف الحيوية والهامة لكل من المدرسة والأسرة، وعلاقتهما بتربية الأجيال باعتبارهما من أهم العوامل الرئيسية التي تتشكل من خلالها اللبنات الأولى لهويتهم المعرفية والثقافية، وذلك تبعاً لمدى وعي المجتمع بالأدوار والوظائف المنوطة بهما من خلال التجديد الثقافي والتطور الإنساني، في ظل التحولات التاريخية التي تشهدها تلك المجتمعات وعلاقتها بالعوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في السياق الاجتماعي لمراحل تطور «سوسيولوجيا الأجيال Sociology of Generations»، في إطار مقاربات سوسيولوجية حول مفهوم الجيل حيث أن ما يُميز جيلاً ما ليس العوامل الداخلية التي تربط بين أفراده، وإنما هو وجود عامل خارجي يعطي للجيل هويته، وهو ما يطلق عليه «الحدث المولد»، أي الإشكالية التاريخية التي تولد جيلاً معيناً وتعطية ذاتيته، وتحدد معاصرته، وتشكل ذاكرته الجماعية .



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.