حينما تمتزج الرواية الفلسفية بالنفسية مع البوليسية، تعطينا منتوجًا أدبيًا ينعش العقول ويقتحم القلوب ويُربي الحسّ والشعور، وفي روايتنا تلك، رواية التلميذ، قد جمعت بين صنوف الرواية الثلاثة فأضحت غاية في الروعة الأدبية والفكرية.

وأما عن الكاتب، بول بورجيه، فلا أحسبه إلا أن يكون مطلعًا بشدة على دقائق علم النفس بشتّى أنواعه وأقسامه، وخبيرًا بمسائل الفلسفة وقواعد المنطق، ويمتلك من ملكة الرواية والكتابة الأدبية ما يفخر به أمام مجالس الأدباء ومحافل الروائيين. وقد قام بنقل الرواية إلى العربية عبد المجيد نافع.

رواية التلميذ هي رواية رائعة وشيّقة جدًا، ما إن استهللت في قراءتها حتى لم أستطع أن أقاوم الانفصال عنها، فرُحت أقرؤها كلها، دفعة واحدة، فنال منها عقلي ما دفعه إلى مراجعة الأفكار والمعتقدات، وأصاب منها فؤادي فتغلغل واضطرب بينا أتخيل ما ألمّ بأبطال الرواية من مصاعب ومآسي.


موضوع الرواية

في فرنسا، في أواخر القرن التاسع عشر، طغى الإلحاد على عقول الشباب والمفكّرين، وسادت الدعوات التي تحرّض على رفض كل ذي عقيدة ونبذ كل ذي دين، حتى ماعادوا ينظرون إلى الأديان إلا على أنها بضعة أفكار بالية قد مضت عليها الأيام وعفت عليها السنين، وفي ذلك ألّف بورجيه روايته؛ كي يحارب تلك الأفكار، ويهاجم ما زعموا من معتقدات فاسدة ودعوات صريحة لانتهاك الأخلاق ومعاشرة اللذات.

هذا ما قيل، لكن في رأيي، المبني على هذه الرواية -المنقّحة، كما سنبين لاحقًا- التي بين يديّ، فإن بورجيه قد عمد إلى توجيه ضرباته نحو العقيدة الأخلاقية والنفسية للملاحدة، حتى أنه لم يتكلم عن الإلحاد كاتجاه فكري إلا في بضعة أسطر بصورة سريعة وعفوية، لكنه طوال الرواية كان يعيد ويزيد في الهجوم على الأفكار التي تتضمن أنه لا وجود لما يسمى «ضميرًا»، وأنه مجرد وهم ومحض خيال، وأن الخير يتساوى والشر، وكذا الحق والباطل، والقبيح والسيئ، والإقدام والتخاذل، وقد سدد ضرباته فأصاب، وهجم هجمته فنال وانتصر.

إذن، يمكننا أن نقول بأنه سعى إلى أن يهاجم هذه الدعوى «السفسطائية» في صورتها الحديثة، فالسفسطائيون قد اشتهروا منذ ألفي عامٍ بقولهم بنسبية الخير والشر، فبروتاجوراس السفسطائي قد اشتهر بعبارته (الإنسان مقياس كل شيء)، ومنهم من شطح إلى الاعتقاد بأنهما يستويان كما يستوي الحق والباطل، والجمال والقبح، والرذيلة والفضيلة.


ناقل وليس مترجِم

اختار عبد المجيد نافع أن يكتب «نقلها إلى العربية» بدلاً من «ترجمها»، وهذا شيء يستحق أن يمدح عليه، فقد كان أمينًا، غير أني لا أحب التعديل في الترجمة كما فعل صاحبنا، فقد ذهب إلى «شيء من التصرف»، وقليل من الحذف؛ «لأنه أراد» أن يتفادى ما قد يصطدم مع الشعور الديني «وأن يتجافى» عما يمكن أن يتعارض والتقاليد القومية، أو يخدش حياء العذارى، أو يبعث السأم في النفوس.

وموضوع تنقيح الأدب من هذه الأمور هو جدّ طويل، قد تكلم فيه من تكلم من كبار الأدباء والمفكرين، وليس هذا موضع حديثنا هذا، ولكنني إنما وددت بشدة لو أرى كامل النص الأصلي، بحلوه ومره، بشرفه وانحطاطه، بجماله وقبحه، وأردت أن أطّلع خصوصًا على تلك «المسائل الفلسفية الجافة التي يستعصي فهمها على الذين لم يتوفروا على دراسة الفلسفة»، هذه الأخيرة قد تملّكني الفضول أن أتعرف عليها، ولو كنت أتقن الفرنسية لرجعت إلى الرواية الأصلية فأقرأها غير مرة.

والحق أن «الناقل» قد صاغ الرواية في قالب أدبي رائع، وأسلوب روائي ونهج لغوي بارع، فاستمتعت وأنا أجول في صفحات الرواية، فانتشى خاطري من المقطوعات النثرية، وتذوقت الأدب في أسمى مواضعه وأجمل معانيه، ونلاحظ أنه قد نحا إلى استخدام العديد من المصطلحات والأساليب والتشبيهات القرآنية خلال صياغته، وهذا أضفى طابعًا «عربيًا» على الرواية.

وقد قال في مقدمته قولاً لشدّ ما أعجبني، فكتب: «وما التحليق في سماء البلاغة إلا أن يكتب الكاتب ليفهم النفس، وما الإسفاف والابتذال إلا أن تضل، في شعاب ما يكتبه، العقول»، وعندما قرأت قوله هذا ضحكت وما زلت أبتسم بينما أقتبسه الآن؛ ربما لأنني كلما قرأته تجلت في ذهني صورة عباس العقاد بقلمه المصقول وأسلوبه اللغوي الذي ينحو إلى العسر والتعقيد.


كانط متمثّلٌ في سكست

وعندما أراد الكاتب أن يصف الفيلسوف، أدريان سكست، الذي كان من أبطال الرواية، ما حسبته إلا وقد وصف، بدقة، فيلسوفنا الألماني، كانط، ذلك الرجل الذي لم يكن يسافر خارج بلدته والذي عاش حياته لم يغيّر أو يبدّل أثاث منزله، ولم يحرّك كرسيًا أو سريرًا، وكان يعيش حياته بانتظام قد يضاهي في انتظامه حركة عقارب الساعة أو حركة الشمس والقمر، وما يكاد يتغير شيء من دقائق الروتين الذي يعيشه أو يتبدّل أمر قد اعتاد عليه حتى يعتريه القلق ويصيبه الاضطراب والجنون.

وها هنا قصة لطيفة، فقد اعتاد إمانويل كانط، الفيلسوف الألماني، أن يأتي كل صباح إلى شرفته الخلفية حتى يكتب ما يمليه عليه ذهنه، يكتب وهو يطالع قبة كنيسة ضخمة ويستلذّ الشمس بينا تغشاه بأشعتها الدافئة.

فحين يكتب تكون عيناه على الورق، وحين يرفع عينيه فهي على تلك القبة. إلا أنه قد حدث ذات يوم أن وضع جاره بضع أشجار في حديقة منزله قد أزاحت الشمس عنه وغطت القبة التي اعتاد أن يراها وهو يكتب، فاعتراه القلق والاضطراب والشديد، لكن لحسن الحظ كان جاره من المعجبين به وبفلسفته، فرجع عما فعل، وعاد فيلسوفنا إلى روتينه المعتاد وقد رجع إلى سكونه ورشده.

هكذا شابه كانط أدريان سكست أشد الشبه، وربما شذّ عنه في أن الأول لم يكن مهتما إلى هذا الحد بالفلسفة التي تشتمل على النظر في النفس ونوازعها ورغباتها على عكس الأخير الذي اهتم بفروع الفلسفة الأخرى.


الحقيقة والحقيقة فقط

وصحت عزيمته على ألا يتزوج، ولا يغشى الأندية الخاصة، ولا يختلف إلى الاجتماعات العامة، ولا يطمح إلى ألقاب الشرف، ولا يرنو إلى الوظائف، ولا يجري وراء الشهرة، بل يكون شعاره في الحياة هو التنقيب عن الحقيقة.

هذا ما جاء في وصف شخصية أدريان سكست، وقد أحببت حقًا وفاءه الواضح إلى الحقيقة، وسعيه الدؤوب في طلبها وسلك دروبها، لكنه فجأة أضحى دوجماطيقيًا يهاب الحقيقة عندما تكون على حساب أفكاره وآرائه، فعندما جاءته أم «جرسلو» بالكراسة التي أوضحت له تهافت نظرياته وهزل آرائه وسذاجة ما أفنى عمره في الدفاع عنه، قال غاضبًا:

«آه، لماذا جاءتني الأم بتلك الكراسة؟». وعلى إثر ذلك قد دخل في موجة عظيمة من الاضطراب والقلق، لكن لم يوضح الكاتب هل تراجع عن آرائه في النهاية أم ذهب يستمسك بها رغم ما ألمّ به من ضلال حجتها.


التأمل، الكثير من التأمل

ولشد ما كان أبي يحب الريف الذي نشأ فيه!، وكثيرًا ما اصطحبني في غداوته ورواحته، فإذا جاء إلى جبل عُني بدراسة تكوين الأرض، وإذا اقتطف زهرة تعرّف اسمها، ودرس طبيعتها، وإذا التقط حشرة اشتغل بدرس فصيلتها، وتكوينها الخَلْقي، وكان يحدّثني حديث ذلك كله.

فلقد أحسست -أول مرة خرجنا فيها معًا للرياضة





أنها هي وحدها التي تشعر، حقيقةً، بجمال الريف وروعته، بربوعه الجميلة، وتلك البحيرة الصغيرة، وما يحيط بها من غابات، والبراكين النائية، وسماء الخريف البديعة الرائعة. وما إن راعها جمال الطبيعة حتى ألقت بنفسها في ثنايا صمت عميق، حتى يُخيّل إليك أنها فنيت في بهجة الوجود، فقد كانت لها خاصة الشعراء، والعاشقات، تفنى فيما يمس قلبها، ويهز عوطفها.

ربما نفتقد جميعًا إلى «الخاصة» التي ميزت كلاً من شارلوت ووالد روبير جارسلو، هذه الميزة التي تدفعنا إلى تأمل الكون وظواهره وقوانينه.


صعوبة دراسة النفس البشرية

من هذا القول يتبين لنا كيف هو صعب أن تدرس حالة من الحالات من ملاحظة نزعاتها، وكم هو عسير وغير عادل أن تحكم على أحد من الناس من جراء أفعاله، وهذا يدعّم، بشدة، قانون النسبية -أقصد النسبية المعرفية أو الفلسفية ولا أقصد النظرية الفيزيائية-، فلو كانت بيننا صداقة أو معرفة، فأنت تراني كـ«محمود بالنسبة إلى مُحمد»، وليس محمود كما هو محمود، وهكذا يراني صديقي الآخر «محمود بالنسبة إلى حسن»، فمهما فعلت فستبقى تراني محمود بالنسبة لك أنت، بالنسبة إلى ذهنك أنت، ولن تستطيع أبدًا أن تراني محمود كما أنا محمود.

وما يزيد الأمر صعوبة وتعقيدًا هو أن معظمنا، إن لم يكن كلنا، نجد صعوبة في التعبير عن مشاعرنا بالطريقة الصحيحة، أو بالطريقة التي توضح ما بداخلنا حقيقة، وما إن نظن أننا قد عبّرنا عما يختلج في أنفسنا، حتى نرى الآخرين وقد فهموا شيئًا آخر غير الذي فينا، شيئًا مغايرًا تمامًا لما يمر بنا.

وفي هذا يخبرنا الفيلسوف الإيرلندي، جورج بيركلي، أننا ندرك العالم كما يتسنى لنا إدراكه، وكما تتيح لنا حواسنا وصفه والشعور به، غير أنه في حقيقة الأمر ليس كما نراه.

وإذا أردنا أن ننظر إلى هذه الملاحظة نظرة لاهوتية -دينية- فسنقول بأن من لديه الحق في الحكم على الآخرين من مشاهدة أفعالهم هو فقط الله، فهو الوحيد الذي يعلم السر وأخفى، وهو الوحيد الذي يعرف حقيقة ما ألمّ بك وما يجترح في نفسك.


النهاية التراجيدية

كل من قرأ الرواية لا يستطيع أن ينكر بأن النهاية كانت حزينة، لا، بل لقد كانت غاية في الحزن والألم، لكنها «عادلة» و«منطقية» وهما الصفتان التي لم تشتمل عليهما معظم الروايات التي تحمل النهايات الحزينة التي عادة ما نقرأها في روايات أخرى. والحقيقة أنني قد تفاجأت، فبعد أن هدأت الأمور وأخذت العدالة مجراها ورحت أفكر كيف سيفعل «بيير جرسلو» و«أدريان سكست»، حتى حدث ما حدث، وأريد أن أشير إلى أن الكاتب قد برع في وصف مشهده الأخير أيّما براعة.


بثلاثة جنيهات فقط

كان سبينوزا يباهي بأنه يدرس المشاعر الإنسانية، كما يدرس الرياضي رسومه الهندسية، فأما العالِم النفسي العصري فينبغي له أن يدرسها كما يدرس المزيج الكيميائي في آنية التقطير، مع هذا الفارق الذي يدعو إلى الأسف، ويبعث الأسى، وهو أن وعاء النفس البشرية ليس شفافًا ولا قابلاً للتصرف، كما هو وعاء التقطير في معمل الكيمياء.

والآن، هل تصدّق أن هذه الرواية الرائعة قد جاءت هدية مع العدد 104 من مجلة الواحة، والتي تباع بثلاثة جنيهات فقط؟!، وجدير بالذكر أن المجلة يكون معها واحد من هذه الروائع يأتي مع كل عدد شهري، ستجدها تباع لدى باعة الصحف والمجلات.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.