منذ اللحظة التي فكر فيها قادة الصهيونية في تأسيس «دولتهم» لم تغب الممارسات العدوانية والوحشية والإرهابية لتحقيق أهدافهم الاستعمارية على حساب الشعب الفلسطيني، فقد كانت فلسطين دولة تابعة للدولة العثمانية عندما بدأت تصل إليها عصابات المهاجرين الصهاينة، وكان يعيش فيها المسلمون جنبًا إلى جنب مع اليهود والمسيحيين دون تفرقة على أساس الدين.

ولكن بعد الحرب العالمية الأولى، خضعت فلسطين للاحتلال البريطاني بصيغة الانتداب التي أقرتها عصبة الأمم، وتوالت عليها موجات الهجرة اليهودية المكثفة أملاً في وفاء السلطة البريطانية بوعد بلفور الخاص بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، ولجأت العصابات الصهيونية لكل أساليب العدوان للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وإقامة مستعمرات صهيونية على أنقاض القرى الفلسطينية التي سلبت بالقوة بعد الطرد القسري الممنهج لسكانها الفلسطينيين.

تاريخ من الإرهاب

وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، تزايدت وتنوعت عمليات العصابات الصهيوينة للاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية مما وضع سلطات الاحتلال البريطاني في مأزق كبير، وحاولت التصدي لهذه العصابات ولكنها كانت تفشل دائمًا، حتى جاء قرار الأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 الخاص بتقسيم فلسطين لدولتين واحدة يهودية والأخرى فلسطينية، وكان هذا القرار بمثابة الإشارة التي أطلقت العنان للممارسات الوحشية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأراضي ووضعها تحت سيطرة العصابات الصهيونية.

ارتكبت العديد من المذابح بحق المواطنين الفلسطينيين العزل مثلما حدث في مجزرة دير ياسين في 19 أبريل/نيسان 1948. وفي تبريره للمذبحة، قال مناحم بيجن عضو عصابة الآرجون الصهيونية ورئيس الوزراء فيما بعد «ننتوي أن نهاجم ونحتل ونحتفظ إلى أن نحصل على أرض فلسطين وشرق الأردن كلها لنجعلها إسرائيل الكبرى وهذا الهجوم هو الخطوة الأولى»، وكانت هذه المذابح مقدمة للإعلان عن تأسيس دولة الكيان الصهيوني في مساء يوم 14 مايو/آيار 1948.

أسفرت هذه المذابح عن تشريد ما يقرب من مليون فلسطيني بسبب انتمائه العرقي، ومُحيت أكثر من أربعمائة قرية من الوجود، وزرعت فوق رمادها أشجار أو بنيت قرى بأسماء جديدة ذات صبغة توراتية لتحل محل الأسماء العربية، وعاش الفلسطينيون ممن لم يشملهم الاقتلاع المباشر في حياة بؤس كامل تحت الهيمنة الصهيونية، التي دأبت دعايتها السوداء على وصفهم بأنهم مخربون إذا حاولوا مقاومة تردي أحوالهم المعيشية، وفيما بعد أطلق عليهم إرهابيين لمطالبتهم بالحق في تقرير المصير، وأنهم قد باعوا أرضهم وللأسف لا تزال هذه الدعاية تلقى الآن صداها في أنحاء العالم وبين بعض العرب أيضًا.

تجاهل القرارات الدولية

طوال تاريخها، اتبعت العصابات الصهيونية منهجًا يتجاهل كافة القرارات الدولية بما فيها قرار تقسيم فلسطين، فقد أقدمت على الاستيلاء على مدنية القدس التي لم تكن ضمن قرار التقسيم فورًا بعد قبول عضويتها في الأمم المتحدة في 11 مايو/آيار 1949، وقامت بنقل مكاتب الحكومة إلى القدس مباشرة، وأعلنت ضمها لأراضيها في عام 1980 بعد توقيع اتفاقية السلام مع مصر في عام 1979، واستمرت إسرائيل في تجاهلها للاعتراضات الدولية على ممارساتها التوسعية والعنصرية، فأعلنت ضمها لهضبة الجولان السورية المحتلة في أعقاب حرب يونيو/حزيران 1967، كما أعلنت في العام قبل الماضي مدينة القدس عاصمة لها،وأقرت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس.

بمرور الوقت والسنوات، استمرت حالة الخنق والحصار للشعب الفلسطيني على أراضيه وفي دول اللجوء، ولا يكاد يمر يوم بدون انتهاكات جسيمة للحقوق الفلسطينية عبر التوسع في بناء المستوطنات غير الشرعية على أراضي الضفة الغربية أو المعاملة العنصرية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية ويمثلون خمس عدد سكان إسرائيل، ويعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية بلا حقوق متساوية مع اليهود رغم المزاعم الإسرائيلية بالتزام الديمقراطية والمساواة بين مواطنيها.

في هذه الأجواء، تأتي الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لإسرائيل بمناسبة تشكيل الحكومة الإسرائيلية رقم 36 عبر تاريخها العدواني والتوسعي، لتعطي الضوء الأخضر الأمريكي لصدور قرار جديد يقضي تمامًا على مشروع إقامة دولة فلسطينية مستقلة طبقًا لما عرضته الإدارة الأمريكية فيما سمي بـ «صفقة القرن» في شهر يناير/كانون الثاني الماضي.

هذا القرار الذي اتفق زعيما الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الجديدة على اتخاذه بضم مناطق المستوطنات بالضفة الغربية للأراضي الإسرائيلية، في خطوة أحادية تلقى معارضة واضحة من الجانب الفلسطيني باعتبارها تتعارض مع كافة القرارات الدولية ذات الصلة التي تحظر إقامة المستوطنات على الأراضي المحتلة، وتهدد بالقضاء على إمكانية تأسيس دولة فلسطينية حقيقية في ظل الاستيلاء على أراضيها وتطويقها بالمستعمرات، بما يجعل حياة الفلسطينيين جحيمًا لا يمكن العيش فيه بسبب الحصار وعزل المدن والقرى الفلسطينية عن بعضها البعض، وفي ظل استمرار نظام الفصل العنصري الصارم الذي تفرضه إسرائيل على المناطق الفلسطينية.

صفقة القرن

تتيح صفقة القرن ضم المستوطنات لإسرائيل وعبر إصدار قرار الضم بشكل أحادي دون التوافق مع الجانب الفلسطيني، ولذلك تسعى إسرائيل والولايات المتحدة للبدء فعليًا في استصدار قرار الضم تنفيذًا للصفقة قبل بداية شهر يوليو/تموز المقبل، للاستفادة من الوضع الحالي والموافقة الأمريكية، ولمنح ترامب دفعة قوية في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني القادم من جانب الناخبين المؤيدين لإسرائيل في مواجهة المرشح الديمقراطي جون بايدن الذي أعلن معارضته لخطوة الضم المتوقعة.

وكالعادة تسعى إسرائيل للاستفادة من حالة الانقسام الفلسطيني بين قيادات الضفة الغربية وقطاع غزة والتنافس بينهما على من له الحق في تمثيل الشعب الفلسطيني في ظل انهيار ما يسمى بعملية السلام، بسبب الادعاء الإسرائيلي بعدم وجود طرف فلسطيني يمكن التفاوض معه، رغم أنها لا تقدم أي طرح يمكن قبوله بعدما استولت فعليًا على الأراضي الفلسطينية، وتسعى الآن إلى ضمها تحت سيادتها بدعم وتأييد أمريكي.

كما تسعى إسرائيل إلى استثمار حالة التشرذم العربي والانكفاء على الذات سواء لمواجهة الصعوبات الاقتصادية أو الاحتجاجات الجماهيرية المتزايدة، فضلاً عن الصراعات العربية العربية، وكانت إسرائيل قد اختبرت طوال تاريخها العدواني أكثر من مرة ردود الفعل العربية التي لا تخرج عن الإدانة والشجب في العلن.

في غضون ذلك، تهرول الكثير من الدول العربية سرًا وعلانية نحو إقامة علاقات ودية وطبيعية مع إسرائيل، مثلما فعلت مع السودان والكثير من دول الخليج مثل البحرين والإمارات والكويت التي طلبت المساعدة الطبية الإسرائيلية بدعوى مواجهة فيروس كورونا مؤخرًا، في حين تتغاضى جامعة الدول العربية عن اتخاذ أية مواقف للضغط على إسرائيل لدفعها لاحترام الحقوق الفلسطينية والعربية، وتمتنع عن تفعيل مكتب مقاطعة إسرائيل الذي تأسس في عام 1957 لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، فيما تتزايد عالميًا حملات المقاطعة لإسرائيل وخاصة فيما يتعلق بتسويق منتجات المستوطنات المصدرة إلى الدول الأوروبية.

هكذا يمكننا أن نتوقع أن تصدر إسرائيل قرارًا بضم مستوطنات الضفة الغربية، الأمر الذي يفرض أمرًا واقعًا جديدًا على الشعب الفلسطيني يضاف لتاريخ الاضطهاد والقهر الذي تمارسه العنصرية الصهيوينة على مدار السنوات الماضية، ويفرض التفكير في أساليب جديدة للمقاومة وتقديم حلول لهذا الواقع المرير، بما فيها التفكير في حل الدولة الواحدة ثنائية القومية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.