شهد عالم الفكر والأدب كثيرًا من قصص الحب وعلاقات الصداقة الحميمة بين المشاهير، الأمر الذي أضاف إلى حياة هؤلاء طابعًا دراميًا، ورفد أعمالهم بمزيد من التشويق، لأن من يخوض غمار الحياة بكل ما فيها من الأمل واليأس والإحباط والإغراء، لا يتحمل الركون إلى مفاهيم تجريدية، ولا تأخذه الأفكار المُجردة بعيدًا عن متعة المغامرة بحثًا لدروب جديدة، وأنماط عيش مختلفة، هذا ما يعني أن الفكر يستمدُ من منابع الحياة عنفوانه، كما أن رهانات الحياة تخرج من مدارات مسدودة مع الفكر المنفتح، وتنهار المصداتُ بفعل إرادة فعالة.

هذه المُعادلة التي تجمعُ بين الفكر والحياة هي ما راهن عليها سارتر وسيمون دوبوفوار، إذ صرحتْ مؤلفة «الجنس الآخر» أمام الحضور في جامعة بريستون قائلة: «لم يعد هناك في فرنسا مبرر للكاتب أن يقف متفرجًا أو يعزل نفسه في البرج العاجي».

كان سارتر آنذاك مثالًا بارزًا للمثقف الذي اندمج بتيار عصره ولم يعجبه مفهوم النخبوية،وفتحَ صفحات مجلته (الأزمنة الحديثة) بوجه أشكال جديدة من الكتابات الفُكاهية والسير الذاتية للناس من جميع المراتب؛ وبهذا حطم ما سُمي بالأدب الجاد، وأصدر كتابًا عن بودلير فضلًا عن دراسته الكبيرة عن فلوبير.

يستحيل أيضًا تجاهل مواقفه حيال التطورات والتحولات السياسية التي حفل بها القرن المُنصرم بدءًا باحتلال ألمانيا لفرنسا، ومن ثُم احتضار المرحلة الاستعمارية وما دار في ظل أجواء الحرب الباردة من الصراعات المُحتدمة على مُختلف الأصعدة، مرورًا بثورة الطلاب في 1968 وانقلاب الجيل الجديد على كل المعتقدات والالتزامات الأيديولوجية، وصولًا إلى مُتابعة القضية الفلسطنية، ومساعي الجهات الدولية لإنهاء الحرب في المنطقة.

كل هذا يكشفُ أن صاحب «الوجود والعدم» قد انخرط مع عصره دون أن يفقد استقلاليته وما ضاع صوته في ضجيج خطابات أيديولوجية متورمة، هذا إلى جانب ما عاشه سارتر من حياة مثيرة على المستوى الشخصي، على رغم زحمة النساء في سجل صاحب «الغثيان» العاطفي ستظل سيمون دوبوفوار اسمًا مقترنًا باسم سارتر ويصعب تناول سيرة أحدهما بمعزل عن الآخر،لذلك قد جمعَتْ هازل رولي بين حياة شخصيتين في مؤلفها الموسوم بـ«وجهًا لوجه،الحياة والحب» الصادر من دار المدى 2017.

وترصد فيه الصحفية الفرنسية من خلال ما ألفه الاثنان من الأعمال الفكرية والروائية والسيرية إضافة إلى المقابلات الصحافية والرسائل المتبادلة بينهما تفاصيل حياة الفيلسوفين الوجوديين، وأركان الميثاق المنعقد بين دوبوفوار وسارتر.


عقل جبار

تولدت العلاقة الاستثنائية بين دوبوفوار وسارتر في مناخ فائض بالقلق والتطلع المعرفي، قبل معرفة دوبوفوار بصديقها الفيلسوف شغفت صاحبة «كل الرجال أموات» برينيه ماهو؛ إذ وجدت في الأخير صورة ابن عمها جاك الذي أغرمت به وهي مراهقة،بالمقابل فإن سارتر قد عانى من تجربة عاطفية مؤلمة. فبعدما فشل في نيل شهادة الأستاذية سنة 1928 فسخت عائلة جيرمن خطوبة ابنتها من سارتر، زِدْ على ذلك فإن زواج أمه آن ماري عقب وفاة الأب برجل يدعى جوزيف مانسي بمثابة ضربة موجعة لسارتر، وكان عليه القبول بهذا التحدي المتمثل بشخص دخيل.

قد يهون هذا الأمر إذا عرفتَ أن سارتر لم يتمتع بالوسامة بل غالبًا ما وُصِف بأنه قبيح الشكل، قصير القامة، ضعيف البصر إذ يفقد القدرة على الرؤية عندما يتقدم به السن، وأصبحت صديقة عمره عينًا له تقرأ له الصحف والكتب. عُرف سارتر وسط الطلبة بأنه سكير يرتاد الحانات.

وعندما زارت دوبوفوار برفقة ماهو، مكان إقامة سارتر في المدينة الجامعية بجنوب باريس؛ انزعجت الزائرة الجديدة بما يسود في غرفة صديقين نيزان وسارتر من الفوضى والقذارة، ولم يُلزمْ سارتر ولا صديقه بتغير الأسلوب في الحديث ومناقشة المواضيع المختلفة بطريقة أقل حدة وأخف صراحة، مراعاة لمن يكون حديث العهد بهم.

ولم يبدأ التقارب بين سارتر ودوبوفوار إلا في المدة التي سبقت الامتحانات المضنية لنيل شهادة الأستاذية، حيث نادرًا ما يفترق الاثنان قبل الأسبوعين عن موعد الامتحانات الشفهية، وعندما تكتشف سيمون دوبوفوار طاقات سارتر الفكرية تصفه بالعقل الجبار، يُذكر أن الأساتذة قد تجادلوا حول منح الجائزة الأولى لسارتر أو لدوبوفوار، فالأخيرة قد تحولت إلى ظاهرة ثقافية بوصفها أصغر طالبة قد أنهت دراسة المنهج الفلسفي في غضون ثلاث سنوات، بينما سارتر قد احتاج إلى سبع سنوات طوال إلى أن ينجح.

لن تكون علاقة الاثنين محدودة فقط بالطموحات والاشتغالات المعرفية، بل تنفتح على الجانب الحميمي والجسدي، وهذه التجربة ليست أولى بالنسبة لسارتر ولا دوبوفوار، غير أن ما يفرقها عن التجارب السابقة لدى كل واحد منهما هو التناغم القائم على المستوى الفكري الذي وفّر مقومات الاستمرارية لثنائية مميزة.

كان سارتر متمردًا على التقاليد البرجوازية كما شاءت الظروف أن تنقلب حياة أسرة دوبوفوار نتيجة لما مني به والدها من خسارات مالية عقب سقوط الدولة القصيرية بروسيا؛ فبالتالي احتمال زواج الابنتين دوبوفوار وأختها على الطريقة البرجوازية قد تلاشى.

وعندما يحين أوان اللقاء بينهما في قرية ليموزين ويمشي الاثنان مع بعضهما،تتوصل دوبوفوار إلى القناعة بأن علاقتهما ممتنعة ضد الضجر، ولو استمر الحديث بينهما إلى يوم القيامة فسيبدو الوقت قصيرًا جدًا. والأغرب فيما بين سارتر ودوبوفوار هو اتفاقهما على عدم الزواج ومعالجة مسألة الغيرة بينهما من خلال الشفافية والانفتاح على تجارب عاطفية أخرى، لذلك تمر عدة شخصيات من كلا الجنسين بحلقة دوبوفوار وسارتر.


تجربة واحدة لا تكفي

كان سارتر رافضًا لكل القوانين المقررة مسبقًا أن تؤطر حياته وتحد من خياراته، يمقت نظام الزواج والملكية، وانتقل بين الفنادق، ولم تعجبه نصائح الأطباء بضرورة الإقلاع عن التدخين والإفراط في الشراب، وما يصعب استيعابه في تجربة سارتر العاطفية هو تعدد علاقاته أكثر من ذلك، فهو تحمل نفقة معظم الفتيات اللائي اعتبرن من محظياته، ولم تتوج كل محاولاته في هذا المضمار بالنجاح، وكلما تعثر في إدراج إحدى الفتيات إلى حظيرته تفاقم لديه الشعور بالاكتئاب والتوتر.

هذا ما وقع عندما أبتْ أولغا وهي فتاة من أب روسي وأم فرنسية أن تكون جزءًا من قائمة نساء سارتر، وما وجد تعويضًا لهذا الفشل إلا في واندا أخت أولغا، عندما وصل الفيلسوف الوجودي إلى أمريكا نشرت التايم صورة له مع تعليق عليها: (الفيلسوف سارتر. الضعيف أمام النساء)،كما تُقدمُ سالي سوينغ من جانبها صورة عن تعامل سارتر مع النساء مُعتقدةً أن مؤلف (الذباب) يتصرف مع النساء كخزانة بأدراج؛ أنتِ في الدرج الأعلى، وهي بالدرج الأسفل وهكذا.

قد يكون الأمر مستغربًا إذا أضفت إلى ما سلف ذكره أن سارتر قد ألف معظم أعماله المسرحية من أجل إيجاد فرصة التمثيل لبعض عشيقاته، حين ينكشف الغطاء عن هذا الجانب المثير يتساءل المرء، على ماذا عوَّل سارتر في إدارة هذه العلاقات المُتشعبة؟ بالمقابل قد أثارت سيمون دوبوفوار لغطًا بما أقامته من علاقات مع بنات جنسها، فأمرها في ظل سلطة الاحتلال النازي بالإحالة إلى المحاكم، واتهمت بالسحاقية، كما كان دور الرجال في حياتها لم يغبْ، وقصص غرامياتها الحميمة امتدت إلى شيكاغو.


المشاكسة

مع أن سارتر لم يكن منتميًا إلى أي كيان أو حزب سياسي، وظل بعيدًا عن مُماحكات عالم السياسة إلى أن حتمت عليه الظروف التي مرت بها فرنسا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية أن يحدد مواقفه، انضم إلى الجيش، وبعد سقوط باريس سُجن في المعتقلات النازية، هناك بدأ بقراءة (الزمن والوجود) لهاديغر،غيرت الحرب والتطورات المتلاحقة التي أعقبتها حياة سارتر عندما بدأت الحرب كان في الرابعة والثلاثين، وما انتهت إلى أن أصبح سارتر في الأربعين.

خلال هذه الفترة جرت مياه كثيرة تحت الجسر، إذن عالم ما بعد الحرب لم يعد كما كان عليه قبل تحول أوروبا إلى جبهات القتال، كما عكَّرت التجارب المريرة شخصية سارتر، فهو شرع بكتابة مشروعه الفكري (الوجود والعدم) وثلاثيته الروائية في ثكنات عسكرية، يشار إلى أن سارتر حقق نجاحا بإصدار روايته (الغثيان) وقصة (الجدار) بيد أنْ شهرته لم تبلغ إلى القمة إلا في مرحلة ما بعد الحرب، حيثْ اتخذ مواصفات المُثقف العالمي.

تسابقت العواصم لاستقبال سارتر ودوبوفوار، فالأخيرة من جانبها قد استقطبت اهتمام الأوساط الأكاديمية على نظاق واسع بفضل (الجنس الآخر) الذي هو جواب لسؤال طرحه عليها سارتر (ماذا يعنى لكِ كونكِ الأُنثى). وبقدر ما تصاعد نجم سارتر على المستوى العالمي كان يميلُ إلى المشاكسة أكثر، إذ ساند الثورة الجزائرية وعلى إثر هذا الموقف هاجمه اليمين الفرنسي، كما رفض قبول جائزة نوبل مبررًا رفضه بأنه (ينبغي على الكاتب أن يرفض ليتحول رفضه إلى عرف) وحمل مسئولية ما وقع في هنغاريا سنة 1956 على عاتق السوفيت وأمريكا في آن واحد.

لم يقبل سارتر أن يكون مدجنًا في أقفاص نُخْبوية، وأراد أن ينزل الفلسفة من عليائها لتنخرط في الواقع اليومي، توجَ رفض أنصاره استعداد الحكومة الفرنسية لتحمل نفقة تشييع جنازة سارتر مواقفه المُعارضة للسلطة، وبهذا يتحول موته أيضًا إلى فعل احتجاجي لمشاريع التدجين. تكتبُ صحيفة (الفيغارو) تعليقًا على موت سارتر: «أصبح العالم مكانًا أفقر مما كان بالأمس». هنا لا مهرب من سؤال: هل استغنى عصرنا عن مثقفين من هذا الطراز؟ أو أن غيابهم هو مايشكل جزءًا من أزمة العصر؟



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.