إن أكذوبة المُثل ظلّت إلى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع، وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوّهة ومزيفة حتى في غرائزها الأكثر عمقًا، تزييفًا بلغ حد تقديس القيم المعكوسة المناقضة لتلك التي كان بإمكانها أن تضمن النمو والمستقبل.





فريدريك نيتشه

يرجع مصطلح «الصوابية السياسية» إلى الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، حيث كان يصف المقولات والمصطلحات والأفكار التي تتوافق مع رؤية البلاشفة الحزبية التي يُسمح لأعضاء الحزب بتداولها، ولكن سرعان ما تغيّرت دلالات ذلك المصطلح في العقود الأخيرة التي هيمنت عليها الأيديولوجيات الليبرالية حتى أصبح شبح الصوابية السياسية يطارد كل من تسوّل له نفسه الحديث في أيٍ من الموضوعات التي تخص الحريات والحقوق والقواعد الأساسية كما حددتها الفلسفة الليبرالية، بحديث يختلف مع تلك الفلسفة، ليتم نعت كل من يخالف تلك الحدود بالرجعية والتعصُّب إلى آخره.

لقد كان ذلك المفهوم ابنًا لمشروع الحداثة الذي اختلف المؤرخون على تحديد نقطة انطلاقه بشكل دقيق؛ ذلك المشروع الذي كان يدعو إلى استبدال النظم القديمة التي تحدّ حرية الفرد في مقابل تغوّل سلطات الدولة المدعومة برجال الكنيسة أو ما يسمى بالثيوقراطية، بنظم جديدة تتيح المزيد من الحريات للأفراد. ولكن ما لبث هذا التغيُّر الكبير حتى ترك ندبة في هوية المجتمع الأوروبي الذي وجد نفسه أمام قيم جديدة تُنكر دور الشرائع الدينية في إدارة المجتمعات وتؤسَّس على فلسفات إنسانية وضعية.

من هنا جاءت مقولة نيتشه الشهيرة، وربما المقولة الأشهر في تاريخ الفلسفة: «لقد مات الإله، ونحن من قتلناه»، في إشارة إلى أفول عصر القيمة المتعالية المتمثلة في الإله، واستبدالها بقيم وضعية.


العدمية الارتكاسية

لقد كان مشروع نيتشه الأساسي والراديكالي هو مصارعة العدمية، ليس العدمية بمعناها السلبي فقط، بل العدمية بمعناها الواسع والمتمثلة في كل القيم الصنمية الجامدة التي تحد من قدرات الإنسان وتُلجِم أفكاره واختياراته وتضعه في قوالب محددة. ومن هنا، انطلق نيتشه في حربه الشعواء على كل القيم، القديم منها والحديث، رغبةً منه في تحطيم كافة أشكال الأصنام الفكرية التي تقيّد الإنسان وتسلب منه حيوية الإرادة وتعطل عمل العقل والشعور.

لم يكتفِ نيتشه بنقد مُعلّمه الأول شوبنهاور والتملُّص من تعاليمه واصفًا إياها بالعدمية لأنها لم تبتعد كثيرًا عن التعاليم المسيحية بحسب نيتشه التي جعلت من الإرادة إثمًا واحتقرت المشاعر والرغبات الإنسانية وقامت بنفي الحياة وكل ما يتعلّق بها نفيًا تامًا في سبيل يوتوبيا سماوية منتظرة.

بل تحرّكت مطرقة نيتشه الثقيلة لتدق أصنامًا كان يظن بعضهم أنها الأفق الجديد الذي سيؤسس عليه مستقبل الإنسانية الحديثة. لم تسلم القيم الليبرالية والديمقراطية التي تأسست إبّان عصر التنوير والنهضة من عاصفة نيتشه النقدية، فقد اعتبرها نيتشه رد فعل على القيم اللاهوتية القديمة التي كانت تقف عليها أوروبا؛ القيم التي أسقطت الأخلاق الدينية المفارقة من على العرش لتنُصّب ملكًا جديدًا يختلف ربما في المظهر ولكن الجوهر متطابق تمامًا بحسب نيتشه، وهو أخلاق عصر التنوير والنهضة المحايثة. فلم يرَ نيتشه فرقًا كبيرًا بين القيم التي كانت تدعو إليها الأخلاق المفارقة اللاهوتية وبديلتها المحايثة الوضعية، فكانت بالنسبة لنيتشه مجرد تغيير للأقنعة، ولكن ظلّ جوهر العدمية ثابتًا كما هو.

استبدلت القيم الحديثة استبداد رجل الدين للفرد ووصاية الكنيسة على المجتمع، باستبداد وضعي قام بتأسيسه الإنسان لنفسه ليقوم باستعباد نفسه إن جاز التعبير، وكأن الإنسان لم يستطع تقبُّل صدمة أفول الإله المفارق فقام بصُنع إله محايث ليضمن له استقرارًا على المستويين النفسي الفردي والسوسيولوجي الجماعي.


النبي الملحد

يدّعي بعض دارسي الفلسفة أن فريدريك نيتشه هو أول من استشعر الاضطرابات العظمى التي ستحدث في القرن العشرين، متمثلة في الحربين العالميتين. وقد أحذو حذوهم أنا أيضًا وأدّعي أن نيتشه هو أول من تنبأ بتفاقم قيم عصر التنوير لتتجلى في صورة دين جديد يحاسب الإنسان على أفعاله وكلماته وربما حتى أفكاره أيضًا.

فمن كان يتوقع أن القيم الحداثية التي أسسها الإنسان ليتحرر من أغلال القيم الدينية القديمة ستتحول هي نفسها لتصبح أغلالًا جديدة تحد من آفاق وتطلعات الإنسان وتقيّد عقله؟

يكفي الآن أن تتفوه على أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي وليكن فيسبوك بأي عبارة سلبية أو حتى كلمة ساخرة بحسن نية في حق أي جنس أو دين أو قومية ليقوم جحافل من المستخدمين بوصفك بالعنصرية والرجعية إلى آخره من التهم المُعلّبة الجاهزة التي يُتّهم بها كل من يعبر عن رأيه بصورة لا تتوافق مع ما تنص عليه «الصوابية السياسية». وربما قد يصل الأمر إلى الحظر من قِبل إدارة الفيسبوك لأيام أو لأسابيع أو حتى إلى حذف حسابك نهائيًا. ولا يقتصر الأمر على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، بل باتت الصحافة العالمية الآن تتربص بالشخصيات العامة وتتصيد لهم زلّات اللسان لتتهمهم باتهامات تتعلق بالعنصرية والرجعية.

ألا ينم هذا الوضع عن تضييق على الحريات باسم الحرية؟


الفن والإبداع

فريدريك نيتشه

لقد كان يُمثّل الفن أهمية عظمى لدى نيتشه، حتى أنه اعتبر أنه لا يمكن تقبُّل العالم والتعاطي معه إلا باعتباره ظاهرة فنية جمالية. لكنه لم يكن يعرف أن مشروعه سيكون متناغمًا إلى هذه الدرجة من خلال نقده لقيم عصر التنوير والتي تطورت إلى أن أصبحت تحد من أُفق الفن وتضيّق على مساحات الإبداع.

في العقود الأخيرة شهد العالم العديد من الأعمال الفنية، أو السينمائية تحديدًا، التي مُنع عرضها وتداولها باعتبارها تروّج أفكارًا عنصرية أو تجرح مشاعر إحدى القوميات أو تُسيء لجنس من الأجناس.


فعلى سبيل المثال

، فيلم ديزني الشهير «Song of the South» الصادر سنة 1946 والحائز على جائزة أوسكار، تم منع عرضه في أمريكا عام 1986 لاتهامه بالعنصرية ضد السود. والفيلم الشهير لآلباتشينو «Scarface» تم منعه في العديد من الولايات في أمريكا بدعوى تحريضه على العنف والجريمة. وأيضًا فيلم المخرج الشهير مارتن سكورسيزي «The Last Temptation of Christ» المأخوذ عن رواية نيكوس كازانتزاكيس، تم منعه في عدد من الولايات الأمريكية لأن أحداثه تختلف عن القصة الإنجيلية الرسمية.

وفي إطار الصواب السياسي، نرى فيلمًا مثل «The Shape of Water» الصادر عام 2017 الذي حاز على عدد من جوائز الأوسكار والعديد من الجوائز الأخرى في مهرجانات مختلفة، لا يتضمن أي فكرة تذكر سوى أنه قام بتمثيل شخصية غريبة الأطوار وصديقتها سوداء البشرة وصديقهم مثلي الجنس في دور الضحية، في مواجهة الرجل الأبيض التقليدي المحافظ الذي كان يلعب دور الشرير بالطبع. مجرد مجموعة من الأفكار النمطية الخالية من أي قيمة جمالية، وكأن دور الفن أصبح هو تمثيل فئات المجتمع المستضعفة دون بذل أقل جهد من أجل وضع الفكرة في إطار فني جيد.

هكذا، أصبح الفن الذي كان يتوسّم فيه نيتشه المخرج والمنفذ من ضيق العالم إلى رحابة الخيال والتجربة البشرية الفردية، مقيدًا بأغلال خارجة عنه تحدّ من تطلعاته وتخنق آفاقه وتجعله مجرّد أداة تستخدم في البروباجندا السياسية.


أزمة الحداثة وما بعدها

إن العالم يمكن تبريره فقط من خلال اعتباره ظاهرة جمالية.

لقد تأسس مشروع الحداثة على إعلاء قيمة العقل والتفكير النقدي المنطقي في مواجهة التفكير الخرافي والأسطوري، وقد نجح مشروع الحداثة بالفعل في تحرير الإنسان من عبودية الخرافة، وأصبح للفرد مزيد من الحريات وتأسست دساتير تحترم الكل وتقف على مسافة واحدة من الجميع، حتى إن بعض الكتّاب ظن أن تلك هي نهاية التاريخ، ولا يمكن للبشرية التوصل إلى نظام اجتماعي أفضل من ذلك.

ولكن كما قال كارل ماركس عن النظام الرأسمالي، إنه يحمل في داخله التناقضات التي ستؤدي إلى انهياره، بدأت تظهر في متن مشروع الحداثة تناقضات تُبشّر بتغيُّرات تلوح في الأُفق. فمشروع الحداثة الذي كان يتغنّى بالدفاع عن حرية التعبير كقيمة أصيلة من حقوق الإنسان بدأ يضيق على تلك القيمة ويحدّ منها بدعوى الحفاظ عليها.

هنا تحديدًا تظهر أزمة جوهرية من أزمات الحداثة، وهي أزمة التأسيس العقلي للمشروع ككل: فكيف يمكن لمشروع يدافع عن حرية التعبير بشكل مطلق كأحد أعمدته الأساسية أن يقوم بحرمان بعض الناس من ذلك الحق عندما يقومون بالتعبير عن رأي يتنافى مع القيم التي يدعو لها المشروع؟

تلك الثنائية الجدلية التي يعاني منها مشروع الحداثة، وهي جدلية تجريم خطاب الكراهية والحفاظ على حرية التعبير في آنٍ واحد، وهي الجدلية التي انعكست بالطبع على الحياة في مجتمعات ما بعد الحداثة وكانت سببًا من أسباب صعود الحركات والأحزاب اليمينية والراديكالية الكافرة بقيم الحداثة، وهي التي أشعلت شرارة جديدة ربما تكون إرهاصًا لتغيُّر جذري في نمط حياة المجتمعات البشرية، تغيُّرًا لا يمكن التنبؤ بمعالمه الآن، ولكن كل ما يمكن أن نقوله بشأنه إنه آتٍ لا محالة. إن التناقضات تصنع التغيير، والتناقضات حاضرة، إذن التغيير هو محض مسألة وقت.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.