لقد قرأتُ بقلبٍ خافق، في سن الخامسةِ عشرة، كتبَ العدميةِ الأولى… (الغثيان) متماهيةً مع روكنتان الذي لفظَ العائلة، و(الغريب) متماهيةً مع ميرسو الذي تلقى موت أمه ببرود الجليد. قلتُ لنفسي: أجل، لا بدّ أن هذه هي الحرية، لا بدَّ أن هذه هي الحياةُ الإنسانيةُ الحقَّة، ولِتَسقط الروابط.





نانسي هيوستن.

بهذا بدأت الكاتبة الكندية الفرنسية «نانسي هيوستن» حِكايَتَها الصعبةِ مع الأدبِ العدميِّ وهي في سنِّ المراهقة، وإذ انتهى بها الحال بالابتعاد عن العائلة، والانخراط في سلسلة عِلاقاتٍ غراميةٍ انتهت بمبادرةٍ منها. وقد شَعرَت مبكراً في طفولتها أن وجودها أمراً مزعجاً، وأنها تُمَثِّلُ عبئاً وعائقاً لكل من حولها. وتُوِّجَ ذلك برحيل أُمِّها المفاجئ إلى قارَّة أخرى، فقررت هيوستن عِندئذٍ ألا حاجة لديها لأمها البيولوجية، ولا لأمٍّ ثانية، ولا بُدّ من الرحيل، كما رحلت أمها من قَبل.

فما الذي جعل الكاتبة -التي لا يخلو

كتابها «أساتذة اليأس»

من نفسٍ نسوي مقيت أحياناً- تُشهرُ قلمها كمبضع جراحي تمسكه يدُ طبيبٍ ماهرٍ لتشريح جسدِ العدمية الميت، دون خوف من أعلامه الأحياء قبل الأموات؟

هذا ما سنعرفه.

بذرةُ العدمية الأولى

تطوّر الفكرُ الأوروبي منذُ قَرنين من الزمان في اتجاهين متضادين ظاهرياً، مُتَفقَين في الجوهر: الطوباوية والعدمية، تيار (الخَيارُ هوَ) وتيار (ما مِن خَيار). تيّار يريدُ أن يُحدِث حراكاً ثورياً نحو الأفضل، وتيار سلبي انسحابي يُقِرُّ أن كلَّ أفعالِ الإنسانِ عبثيةٌ ومن الأجدرِ الانتحارُ على الفور، وإلا فاللجوء للكتابة. تيّارٌ ينادي بتكسيرِ البيضِ وصُنعِ العِّجة والآخر يُصرُّ ألا شيء يستحقُّ العناء، لا البيض ولا العجة، فلا أحد يشعرُ بالجوعِ أصلاً.

ولهذا الخوفِ والشعورِ بزوال سحرِ العالم، لحظةُ ميلادٍ معينة: القرن السابع عشر، بالانتقالِ من عالَمٍ يحكمه الإله وعدوِّ الإنسانِ فيه الشيطانُ، إلى عالمٍ يقودهُ الإنسانُ وعدوهُ ذاتَهُ الدُّونية التي سيرتقي بها تدريجياً حتى يصبح «الإنسان الخارق» كما ادعى نيتشه لاحقاً. وكل ذلك لاعتقادِ الإنسانِ أنَّ كوكبَ الأرضِ ليس أكثرَ من غبارٍ عائمٍ في كونٍ لا حدودَ له.

ثم جاء عصرُ «التنوير» كما يسمونه، وانقلَبت البُنى السياسيّة والدينية، وجسَّدتِ الثورةُ الفرنسيةُ الأملَ النهائي بإحلالِ الإنسانِ فوقَ كلِّ شيء، الإنسان الذي يتولى أمره بنفسه، مُتَسلِّحاً بقيمِ العِلم والعقلِ، والتقدمِ والديمقراطيةِ للقضاء على آلامِ البشر. فانتهى الأمرُ بالفوضى العارمة، وتحوَّلت الثورةُ الفرنسيةُ إلى «ثورةِ مقاصلٍ» كما يقول غوستاف لوبون، وحلَّ طغيانُ الإنسانِ على الآخر محلَّ قيمَ الديمقراطيةِ والإنسانَ الإله.

وبما أنه قد تمَّ التخلي عن فكرةِ الإله، فيمكن التخلي عن الُنظراءِ البشر، كالحاكم، والأب، وأيِّ سُلطةٍ عُليا حاكمة. فأصبحَ نموذجُ الكائنِ البشري: الإنسانُ المستوحد، العقلاني، المكتفي بذاته. ثم جاءت فلسفةُ شوبنهاور فاستقرَّت العدميةُ في موقعٍ لم تغادره أبداً.

تسارعَ زوالُ سحرِ العالمِ باكتشافاتِ العلومِ الحديثة من نظرية التطور، علم الجينوم، علم الاجتماع، والتحليل النفسي. فكشفت عن الدورِ الذي تلعبه قِوىً لا سيطرةَ للإنسان «الخارق» على ضبطِها. وقد كان تأثُّرُ النساءِ بذلك أقلَ دراماتيكية، كونُ جسدُ الأنثى يَفرِضُ عليها إيقاعاً زمنياً محدداً، سواء في الحمل والإنجاب، أو الأعمال المنزلية. أمّا الرَّجُل فهو الصَّياد، والنجار، والمفكر، والتاجر، والمحارب… فكانت صدمته أكبر عندما سُلِبت السُّلطة من يده وتزعزع يقينهُ الذكوري.

تقول هيوستن:

كانت الأخلاقُ الرسمية، منذ القدم، تتجسدُّ في الفضاء العام عبرَ الرجال وحدهم، مع أنَّ الوزنَ الأخلاقي للأم في البيت كان كبيراً ومهماً… وكان هذا التقسيم الطبيعي للأدوار أمراً بديهياً، لا قمعاً ولا مؤامرة من جنس ضد الآخر… فلم تكن البنات يَخرُجنَ للصيد، ولا الرجالَ يعتنون بالأطفال. كان لكلِّ جنسٍ وضعهُ، وصلاحياتُه، وواجباتُه.

انتهى الأمر بوصول النساءِ إلى التعليم العالي، ومن ثم تَمَكُّنُهنَّ من استخدامِ وسائل منع الحمل، والإجهاض المشروع، فبدأ التدفق بأعداد هائلة إلى مختلف المجالات. فأصبح الرجلُ محتاجاً لإثبات تفوقه بجهود مضاعفة عما كان يحتاجه من قبل، ونشأت مأساة الرجل المستمرة، وهذا ما سنراه في قصة شوبنهاور -مؤسس العدمية- في علاقته مع أمه.

جاءت صدمةُ الحربِ العالميةِ الثانيةِ فحسمت سيطرةَ التيارِ العدميِّ على الأدبِ الأوروبي، فقد أدّت المجازرُ وغرفُ الإعدامِ بالغاز، ومعسكراتُ الموتِ المُمَنهَج إلى فقدانِ أي إيمان بوجود قوّة عليا أو بشرية تحكمُ حياةَ الإنسان حَسبَ تعبيرهم.

كل ذلك مهَّد للعدمية ورسَّخها وفتح باباً لم يُغلق حتى اليوم لمجموعة بشر «لا ولودين» ومصابين برهاب «الإنجاب» (أن أكون قد ارتكبت كل الجرائم عدا أن أكون أباً) كما يقول «سيوران» بفخر: فهو مستعدٌ أن يقتل مثلاً، ويدعمَ النازية -وقد فعلها حقاً- ويسرق، أمّا أن يُنجب فذلك أكثرُ عملٍ أحمقٍ قد يرتكبه.

تقول هيوستن:

إنهم أشجارٌ غيرُ مثمرةٍ تزعمُ أنها تُثَقِّفُنا في مجالِ طبخِ الفاكهة وإعدادِ فطائرِ المربى. ويحسبونَ أنهم يتحدثون بلسانِ الإنسانيةِ وهم في الواقع لا يتحدثونَ سوى عن أنفسِهم. فأستاذَ اليأسِ يأسُهُ ميتافيزيقيّ الجوهر، أمّا عندَ النساء فهو ماديٌ وعنيفٌ وينتهي بالانتحارِ غالباً. فعلى الرغم من الميل العظيم الذي يبديه الرجال من عشاقِ السّواد لفكرة الانتحار فإنهم أقلُّ عرضةً من النساء للإقدام على تنفيذها.

مسلمات العدميين

يعتقد العدميين بـ:

1. النخبويَّة

أغلبُ البشرِ ليسوا أفراداً، بل كتلةٌ متجانسةٌ، محكومةٌ بغريزة القطيع، مبتذلةٌ وامتثاليةٌ وغبية. إنهم يتزوجون، وينجبون، ويتسلَّون بحماقة. أمّا أستاذُ اليأس فهو مختلف عن هذه الجموع، يحتمل عزلتَه ويدللها ويحميها. ولا يريدُ أن يكون مديناً لأحد بأي شيء. رغم أنه في غالب الأحيان يختارُ خليلةً تُعِدُّ له الطعام أثناء انشغاله بالكتابة -التي يهاجمُ بها النساء طبعاً- وتؤويه في منزلها وتتحمّل نوباتَ غضبه من حين لآخر ولا يحقُّ لها الحديث عن زواجٍ أو إنجابٍ مطلقاً.

2. الاشمئزازُ من الأنثوي

وذلكَ لأنه يمثلُ الوجودَ الإنساني الحِسيّ والجسدي، فالأمُّ هي التي تحملُ في أحشائها الطفل-الذي يكرهه أستاذنا العدمي- وتقذفُ به للعالم، فهي بذلك تُقيِّد حريةَ الرجل، وتستغلُّ جمالَها لاستدراجه وإجبارهِ على التناسل وتحمُّل مسئولية أطفاله، وهو أمر مقزز بالنسبة لأستاذِنا «العظيم» لأنه لا ينبعُ من إرادته الحرّة، بل من إرادةِ النوع كما يدّعي شوبنهاور.

3. احتقار الحياة الأرضية

كلُّ نشاطاتِ البشرِ غايتُها واحدةٌ: مواراةُ الحقيقةِ المرعبةِ للعُزلة والقابليةُ للفناء وتسربُّ الزمن وتحللُّ الجسد… إلخ. فَيَصِلُ أستاذُنا العدمي إلى نقطةٍ يختارُ عندها الانتحار، لكنَّه يخشى الموتَ ويطمعُ بالخلود، فيكتب، فيكتشفُ أنّه لا طائلَ من الكتابة، فيبحث عن أثرٍ روحي يقدِّمه للناس، فيتذكرُّ أنه ينعتُهم بالقطيع، فيتوقف عن الكتابة، فيُقبِلُ على الانتحار، فيخافُ الموت، فيعودُ للكتابةِ مجدداً… وهكذا دَوالَيك.

وبالنَّظر لحياةِ أساتذة اليأس الخاصة، نجدُهم مشتركين بعدةِ نقاطٍ مثيرةٍ للاهتمام:

  • احتقارُ الوطنِ واللغةِ الأم.
  • التعاسةُ العائليةُ سواء بسيطرة الأم، وضَعفِ الأب، أو العكس.
  • فشلٌّ مهني.
  • قراءاتٌ مكثفةٌ للكتاب العدميين (وأشهرهم شوبنهاور) تكشف معايشتهم -في سن المراهقة خاصة- لحربٍ ما، أو تعرضهم للاغتصاب أو التحرش كما عند غالبيةِ نساءِ الأدب العدمي.
  • هم في أغلب الأحيان أقلُّ كُرهاً للبشر بكثيرٍ في حياتهم مما هم عليه في كُتبِهم، بيكيت مثلاً كان يعشق التسكُّعَ ليلاً مع أصدقائه، مُنشداً الأشعار بخمسِ لغات، وكان يهتمُّ بالأطفالِ، فقد علَّم بنتَ أحدِ أصدقائه لعبةَ الشِطرَنج، وسيوران الكاره لرومانيا -مسقطُ رأسه- كان عند ابتهاجه يؤدي رقصاتٍ غجريةٍ رومانيّة.

آرثر شوبنهاور

وُلِدَ شوبنهاور لعائلةٍ ميسورةِ الحال، فوالده كان تاجرًا، وأمّه رفيعة النسب. تفرَّقت عائلته بعد انتحارِ والدِه. فعاشَ وحيداً جداً، وفي صدامٍ مستمرٍ مع والدته التي طردته من المنزل بعد شجارٍ طلبَ فيه ألّا تستقبلَ عُشَّاقها في منزلِ العائلة.

كانت قاعاتُ محاضراته مهجورةً، في حين قاعاتُ قرينه هيغل ممتلئة، ولم يكن يتصورُ العلاقة مع الآخرين إلا ضمن إطارين: القسوةُ كإثبات للذات أو الشفقة.

كان يعتقد أن العيشَ براحة يعني أن تعيشَ بلا عائلة، في استقلالٍ حقيقي، ومن دونِ عمل، وبالحفاظ على الثروةِ المكتسبةِ من العائلةِ التي كان قد أنكرَ أهميتَها. ومما زادَ من أزمته النفسيّة شُهرةُ والدتِه في مجال الكتابة بعد إصدار كتابها «زواج دون زوج»، وعلى إثر رواجه قَبِلت دُورُ النّشر كتاباتِه كونَهُ ابنَ كاتبةٍ مشهورة.

إذن نحنُ أمامَ شخصيةٍ مضطربةٍ نفسياً، اجتمعَ عليها فقدانُ الأبِ بانتحاره، وانطلاقُ الأم للحياة فورَ وفاةِ زوجِها كأنها في سجن، غيرةٌ من زميل عمل، شُهرةٌ بمعيّة أُمِه التي يزدريها، اعتزالُ العمل والاختلاطُ بالناس.

مع مرورِ الوقت تحولَّ طموحُ شوبنهاور العدمي إلى آلةَ شفطٍ ابتلعت العالمَ بأسره فهو من قال:

نهاية العالم، هذا هو الخلاص

صامويل بيكيت

أتذكر شعوري بأنني كنت محشوراً، حبيساً، وغير قادرٍ على الإفلات. كنت أبكي لكي يسمحوا لي بالخروج لكن أحداً لم يكن يسمعُني… أتذكرُّ أنني كنتُ أعاني دونَ أن يكون بوسعي التخفيفَ من تلك المعاناةِ بأيّ طريقة.

بعد قراءةِ النّص السابق أعتقدُ أننا سنفكِّرُ كما يفكرُ كلَّ إنسانٍ طبيعي، هذا كلامُ مُعتَقلِ رأي، أو سجينٌ يَنشُدُ حُريتَه من سجونِ الطواغيت، لكن للأسف هذا كلامُ صامويل بيكيت -الفيلسوف العدمي- وهو يحكي ذكرياتَهُ التي عاشها في رحمِ أمِه التي حملتُه تسعةَ شهور ويبدو غيرَ ممتن لذلك.

كانت ماي تحملُ لولدها مشاعرَ حبٍّ عنيفة، وكانت أماً متسلِّطة تنتقدُ أباه أمامه جِهاراً، وسَعَت جاهدةً كي تقتلعُ نموذجَ الأبِ بيل من رأس ابنها. وكان لبيكيت شهوة جنسانية شديدة جَعلتهُ يعيشُ في عُقدة ذنبٍ دائمةٍ لمخالفتِه تعليماتِ ماي الورعة.

كَبُرَ بيكيت وعاشَ حرباً سحقت كل شيء، تاركاً أمَّه وحيدةً لسنواتِ من دون أي تواصل. حيث قال:

إنني أفتش عن أمي لأقتلها. كان ينبغي التفكير في ذلك مبكراً أكثر: قبل أن أولد.

مع كل هذا العبث الفكري نالَ بيكيت جائزة نوبل، وعاشَ لما بعدَ الرابعةِ والثمانين بذاتِ الاكتئابِ والإحساسِ بالذنب والحقدِ على وجوده، دونَ إقبالٍ طبعاً على الانتحار.

إميل سيوران

وُلِدَ سيوران لقسيسٍ أرثوذكسي وامرأةٍ فاضلة، ولعلّه أكثر العدميين إثارةً للاستغراب، كان يقولُ إنَّ أشدَّ ما يزعجهُ «الحالةُ السويةُ المفرطةُ لعائلتي»، فهو منزعجٌ من أن يكونَ لديه أبوان يحبانه، طبيعيان ولائقان.

ابتعد سيوران عن عائلته في سن الحادية عشرة للدراسة في ألمانيا، وحين بلغ الخامسة عشرة بدأ يمارسُ هوايتين: القراءةَ والنساء. عاشَ في كرهٍ دائم لبلده رومانيا، التي لم يكن لها أيُّ ثقلٍ سياسيٍ أو اقتصادي آنذاك. أدى احتقارُ الأصل ذاك إلى فتنتهِ بالفاشيةِ الألمانيةِ فيقول:

لا يوجدُ رجلُ سياسةٍ في عالمِ اليوم يثيرُ إعجابي وتعاطفي أكثرَ من هِتلر، إذ إنَّ في خِطاباتهِ روحٌ نبوية.

وبعد أن دعا إلى الانتحارِ طيلةَ حياته، ماتَ إميل سيوران ميتةً طبيعيةً عن أربعةٍ وثمانين عاماً.

ميلان كونديرا

حين يولد الطفل يُخلِّي الحب مكانه للعائلة، للضجر والهدم والرتابة، وتُخلِّي الحبيبة مكانها للأم، بالنسبة إليّ، أنتِ لستِ أماً بل حبيبة، ولا أريد أن يشاركني بك أحد حتى لو كان طفلي.





ميلان كونديرا على لسان إحدى شخصياته الروائية.

وُلِدَ ميلان لعائلةٍ مثقفةٍ من الطبقة المتوسطة من تشيكوسلوفاكيا، والده عازفُ بيانو مشهور، أمَا أمَّه فلا يُعرَفُ عنها شيء، إذ لم يذكرْها بكلمةٍ قط رغمَ أن الأمهاتَ حاضرات بغزارةٍ في رواياته، وغالباً بصورةٍ قبيحةٍ مستفزة.

عاشَ الحربَ العالميةَ الثانية، ولقي أفرادُ عائلته حتفهم في معسكراتِ الاعتقال. كان شيوعياً ثم طُرِدَ من حزبه لسوداويته. فلا ينبغي أن تكون شيوعياً وسوداوياً في آن واحد.

سافر بعدها إلى فرنسا، وبدأ الكتابة باللغة الفرنسية، وتبرأ من كل أعماله السابقة وأعلن أن ولادته كانت حين أخذَ الجنسيةَ الفرنسية، ويُظهِرُ ذلك قطيعةً نهائيةً مع بلده ولغته الأم.

خاتمة

نرى مما تقدم أننا أمامَ نماذجَ بشرية تجعلُ من هدمِ الأسرةِ هدفاً أساسياً، ويا للعجب! تلقى أعمالُهم الذاخرة بعقوقِ الوالدين، واضطهادِ النساء، والتكبُّر على نعمة الطفل، والبذاءة أحياناً رواجاً واقتباساً من هنا وهناك، فنجدُ أنفسنا أمامَ تساؤلٍ مخيف: ما طبيعة البشر الذين نعيش بينهم؟

بالطبع ومع استمرارِ المذابحِ العالمية الفظيعة حتى يومنا هذا، فمن السهل أن نُبرِّر لأساتذة اليأس مواقفهم تلك، إمّا بدافعِ إحساسنا بالذنب أننا لم نفعل شيئاً لتجنب ذلك، أو الكسلِ بإقرار فظاعة الأمر ولكن ليس باليد حيلة. فذلك يُعفينا من إيجاد حلٍّ للفقر المتزايد، وتلوثِ موارد الكوكب، والحروبِ الاقتصادية. فنهزُّ أكتافنا ونقول: ليس من حقيقة إلا هذا… العدم ولا شيء غيره.

تقول «نانسي هيوستن» وهي تصف اللحظات الدافئة التي حررتها من شبح العدمية:

ببطء وبالتدريج، جعلَ أطفالي المحافظةَ على الموقف العدمي أمراً مستحيلاً. لأنني عشتُ إلى جانبهم، ورأيت التطورَ البطيء للغةِ والشخصيةِ، والبناءِ المذهلِ لكائنٍ جديد، طريقته في تشرُّبِ العالم، في تملُّكه، وفي بناء علاقة معه. رأيت دورة الحياة، راقبتُها بكلِّ شغف. وإنني أعلن أن الحياةَ تستحقُ الاهتمام ولن يجعلني أيُّ عدمي، بعدَ اليوم، أُحيدُ عن رأيي هذا.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.