يحيلُ مفهوم «ما بعد الثقافة» عند ذكره لأوّل مرة إلى عالم المفاهيم اللاحقة على الما بعد في السياق المعرفيّ الحديث، وهي المفاهيم التي بدأتْ في الظّهور على السّاحة المعرفيّة الغربيّة منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا. ففي خضم التطورات السريعة الجاريّة، على أكثر من مستوى آنذاك، كان لزاما على المُشتغلين بالحقل الفكريّ-المعرفي اجتراح أدواتٍ تحليليّة وتفسيريّة جديدة تُساعدهم في مواكبة التغيّرات الحاصلة بإرباكٍ شديد.

يُشكِّلُ مفهوم «ما بعد الثقافة» أحد نماذج استخدام الـ [مابعد] استخدامًا فكريًا جديدًا ظهر في كتابٍ صدر في العام 2014 عن المركز الثقافي العربيّ لمؤلفه ياسر حجازي. جاء الكتاب المذكور في حدود 256 صفحة من الحجم المُتوسط حاملا عنوان «ما بعد الثقافة – التدواليات اللانهائية» ليُشكلَّ إضافةً نوعية للسّاحة التأليفيّة العربيّة المُعاصرة.

يسعى الكتاب المذكور إلى مناقشة مسائل مُعيّنة تتعلّق بالتحوّل/التغيّر الثقافي بين الفرد والمُجتمع ومدى ارتباط ذلك بحالة «ما بعد الثقافة» التي يُركزّ المؤلف على توضيح تداولياتها ومُناقشة عددٍ من جوانبها.


معضلة ما بعد

يصرّح المؤلف أنّ لـ «ما بعد» علاقة بالتغيير الذي له بدوره علاقة بما بعد الثقافة. انطلاقًا من ذلك، فإنّ في كلِّ «ما بعد» رغبة في الانفصال عن الما قبل المتميز بأنه أصبحَ معلوما ومؤثرا. من هنا كانت مشكلته مشكلةُ هويّةٍ اسميّة أساسًا بالنظر لبُعد القلق الذي يحتوي عليه. فالما قبل، كما يُعرّفه المؤلف، هو معلومٌ في دلالته للقيم التي حملها والتجارب التي أنجزها. تأسيسًا على ذلك فإنّ الما بعد هو مآلٌ واحتمال يحتضن إمكانيّات أن يكون طورًا أو فكرًا أو منتجًا أو شيئًا حتّى، لذلك لا اسمَ له يقابل مفهومًا ما قبليًا هو علّته الأساسيّة الساعي إلى تجاوزها أو إصلاحها أو إلغائها.

إذا كانت البينيّة الفاصلة بين ما قبل وما بعد، أي الآن، غير موجودة فيزيائيًا وفقًا لقانون حركة الزمن، حيث إنّ كل نقطةٍ زمنية متحركة، إلاّ أنّ زمني التاريخ والفكر لا يسيران كما هو حال تاريخ الزمن، ذلك أنّ الانقطاعات هنا من فواصل وبيْنيّات وحدود هي مجبولة في حركة التاريخ الحدثي والفكري.

هنا يتساءل المؤلف: إلى أي مدى يمكن رصد حركة الزمن الثقافي بالمفهوم الذي لا يُنتج بينيّة، بل فكرا يعقبه آخر، وهكذا دواليك؟وظائف الـ «ما بعد» هذه، التي حُدّدت إمّا كبعدٍ تجاوزيّ أو إصلاحيّ أو إلغائيّ، هي في الوقت نفسه ضوابط مُحدّدة له. يتأكدّ ذلك خاصّة إذا ما كان ذلك الـ «ما بعدُ» هنا فكريًا أو تاريخيًا.

وإضافة الصيغة الفكريّة أو التاريخيّة على الما بعد يتطلّب ضوابط معينة هي التي تؤكد على الحالة؛ مثلاً، كما يُحدّد الكاتب: التغيير على دلالتيْ الإصلاح والاختلاف، وجود الحدّيْن أو الاتفاق على حد: فاصلة أو نقطة-انتهاء التشريعات المختلفة وتطوير المفاهيم.

يجيب المؤلف، على نحوٍ ترجيحيّ داخل إطار الانتماء/الانفصال ذاك، بأنّ كل فكرٍ يتضمّن في داخله جدلا فوق ثنائي، بين التطرف والفساد والاعتدال. وهو كوحدةٍ فكريّة يصارع خارجيًا جدلًا ارتباطيًا وعلائقيًا، مع عدد من الجدليّات كنقضيه الفكريّ، والسلطة السياسية، والأعراف الاجتماعية الدينيّة وغير ذلك، يُضغط عليه باتجاه الحاجة إلى شبه المصطلح: ما بعد؛ وهو الذي تنتج عنه (ما بعد فكرية) هي بمثابة محاكمةٍ لتيارها الفكريّ أو هي النسخة المُعدّلة منه.

مُضيفاً في المقام نفسه أنّ الما بعديّة ليست مقصورةً على التاريخ أو الفكر فقط، نظرًا لكونها متعددّة الأنواع: ذلك أنها أحيانًا تاريخيّة-حدثية وفكرية-ثقافيّة، وأحياناً أخرى صناعية-إنتاجيّة وإبداعية فنيّة. فالما بعدُ هنا، كدلالةٍ إجرائيّة وصفيّة تقييميّة، يأخذ صيّغا عدّة في الاستخدام المعرفيّ الذي يُعالج مظاهر الواقع.

هو بذلك يعبّر عن نوعٍ من التعقابيّة الطبيعيّة أو المفصليّة أو المرحليّة وصولا للتطوريّة النقديّة كنوعٍ آخر من أنواع دلالتها. وسنجدُ هنا كيفَ أنّها قادرة على تأديّة كل تلك الوظائف المتعدّدة في صلبِ عمليّة التفكير والتحليل. ما يعني أنّها تلعبُ دورًا صميميًّا في الممارسة المعرفيّة التي تطمحُ غالبًا إلى تجاوز أسسٍ معيّنةً من أجل خلق أخرى جديدة.


ما هي الثقافة؟

أخذ مصطلح «ثقافة» منذ تداوله أوروبيًا في القرن السابع عشر يدخل في حالةٍ من التوسع التي تحتوي على عشرات التعاريف والتحديدات الفرديّة والأدبيّة والفنيّة والاجتماعية الشموليّة، حتّى استقرت حالته على ثلاثة استخداماتٍ جاءت من حصرة في:

1. فردية التنوير.

2. حقول الآداب والفنون.

3. المفهوم الشموليّ في الأنثروبولوجيا.

من هناك استحال وجود استخدامٍ نهائيّ يكون ضابطا للانفلات الذي غلب على استخدام المصطلح، ما أنتج نوعًا من اللاّمبالاة في قيمة الوظيفة، كما أن الابتعاد عن التخصيص المفاهيميّ أضفى جرأةً تجريبيّة عطّلت أسس التواصل والبناء المعرفيّ.

في تلك الحالة، يوافق المؤلف على ما ذهب إليه الإنثروبولوجي الأمريكيّ كليفورد غيرتز الذي سعى في كتابه «تأويل الثقافات» الجامعِ لعددٍ من المقالات الثقافية التي تحاول وضع تصور تخصصيّ ضيق للمفهوم، وهو القول بأنّ الآراء التي تضخم مفهوم الثقافة ليشمل كليات حياة الإنسان وصلت إلى مرحلةٍ تسبّبت في تعمية الأشياء بدلًا من توضيحها.

استنادا على تلك النقطة، ونظرا لحالة «اللامفهوم» تلك التي سيطرت كُليًا على مفهوم الثقافة بضمّه كل شيءٍ تحت لوائه، يقترح المؤلف العبور إلى منفذٍ مختلف تمامًا، يكون بمثابة استبدال لهذا المصطلح المهجور والمُتهالك بمصطلحٍ آخر يراه أكثر قيمة: الذكاء. ذلك أنّ الذكائيّة عند المؤلف، في بعدها الفرديّ، هي القادرة على إعادة الوظيفة الشاغرة والمُتمثلة في تحقيق تنويرٍ للذات بعيدًا عن انتقائيات البرمجة العقائدية والمدرسية المُسبقة في التفكير.

ويحدثُ ذلك هنا كرجوعٍ لجذور وظيفة المصطلح التنويريّة المنزوية نحو الخفاء مع وفرة الاستخدام بصيغته الشموليّة التي يرى المؤلف أنها هرطقة استعماريّة، وهي وظيفة [الوظيفة التنويرية للثقافة] من غاياتها خلق النموذج الأوحد المتمثل بالثقافي الغربيّ، وقياس باقي ثقافات الأمم بمعياره. فأزمة مفهوم الثقافة في هذه الحالة هي حسب المؤلف كونه قام بالاتجاه صوب الإنسان بوصفه مجتمعًا لا بوصفه فردًا، وذلك هنا، حسب المؤلف، من أهم أسباب فقدانه لوظيفته التنويريّة على مستوى الفرديّة التي يقوم المجتمع بطمسها.

لكن وبما أنَّ استمرارية نمو المفاهيم تظل مُمكنةً وفقاً لطبيعة نمو الحياة، يتساءل المؤلف حينئذٍ: ثم إلى أين؟ إلى هذا الحدّ، وفي إطار دراسة مفهوم «موت الثقافة» من خلال ابتعادها أو مشاركتها في صناعة الرّاهن واستيعاب مجرياته وتحوّلاته، يقوم المؤلف بفسحِ المجال لأسئلةٍ ما بعد الثقافة لأجل تداولها والبحث عن ملامحها القلقة.


ما بعد الثقافة



وظائف الـ «ما بعد» هذه، التي حُدّدت إمّا كبعدٍ تجاوزيّ أو إصلاحيّ أو إلغائيّ، هي في الوقت نفسه ضوابط مُحدّدة له. يتأكدّ ذلك خاصّة إذا ما كان ذلك الـ «ما بعدُ» هنا فكريًا أو تاريخيًا.

لم تمت الثقافة، عندما تمّ التساؤل عن موتها، إذ هي في النهاية علّة ما بعدها (مضافٌ تابع) الذي هو هنا نسخة مطوّرة منها. لذلك ما بعد الثقافة هو حالة فكريّة متغيّرة لامنتميّةٍ ولامنفصلة، بمعنى أنها حالة من اللا-انتماء للثقافة واللاّ-انفصال عنها في آنٍ معا، كما يُوضّح المؤلف، وذلك لأنها تحمل مرجعها الأم معها وفق المتغيرات والمُلاءمة الحافِظة.

كما أنها على المستوى الفردي مرتبطة بممارسة الشّك والدخول في تنويرٍ ذاتيّ من أجل استرجاعٍ الوظيفة الغائبة التي هي الذكاء الفرديّ الساعي إلى تمحيص الكم الهائل من المعلومات المُبرمجة بشكلٍ مسبق في العقل وطريقة التفكير.



غالبًا ما كانت ما بعد الثقافة تعبّر عن نفسها من خلال أفرادٍ يقومون بالتشكيك في التأويليّة الخصوصيّة لثقافتهم التي يرفضون الانتماء إليها.

فغالبًا ما كانت ما بعد الثقافة تعبّر عن نفسها من خلال أفرادٍ يقومون بالتشكيك في التأويليّة الخصوصيّة لثقافتهم التي يرفضون الانتماء إليها. من هنا هي ليست حالةً آنيّة، لأنّها موجودة ومتواريّة في الوقت نفسه، وغالبًا ما تكون بجانب الثقافة تراقب ممارساتها وتأويلاتها.

والأفراد الما بعد ثقافيين لا يخرجون عن ثقافتهم بالتوقف عن الأفكار والأفعال شديدة التأثير، بل بالتمرد على معانيها التأويليّة، وذلك هنا عند الفرديّة الذكية في ما بعد الثقافة يكون سعياً إلى نزع عنصر التأويل من المعادلة ممّا سيكون له تأثير على الخصوصيّة، ويلغي تأثيرها الاشتراطيّ بخصوص رؤية الحياة والتعامل مع كل شيءٍ وفقا لها.

في هذه الحالة فإنّ الخروج من الثقافة (تغيير المعنى التأويليّ) يختلف عن مابعد الثقافة (نكرانها) التي تتميّز بتحوّلٍ جذريّ في نوعيّة التعامل مع الواقع. هكذا تُشكل ما بعد الثقافة هنا، من ناحيةٍ معيّنة، ما بعداً فكرياً غايته انفتاحٌ ينتقد البداهات، السدود، الأطر التنظيريّة الجامدة، مع إمكانيّة القول إنّ ذلك المابعد هو مجاز النسخة الثانية للتيار الفكريّ، أو النسخة المعدلة للقيمة. والتي تمتاز بأنها ذاتُ مفارقةٍ تضاديّة/بارادوكس تجعلُها مُنطويّة على بعدٍ جدليّ من حيث الانتماء والانفصال.

على أنَّ ما بعد الثقافة كفترةٍ هي في الوقت نفسه تشير، بحسب المؤلف، لملامح طورٍ رابع جديد في تاريخ البشريّة الذي سبق أنْ جرّب ثلاثة أطوار: ابتدأتْ بالأسطورة مرورا بالدين وصولا للعلم. وذلك استنادا على أنّ الطور هو نقلة إنسانيّة واعيّة المنزع والمقصد تساهم في تطوير وعي الإنسان وسلوكه. وتأتي الأطوار الإنسانيّة في إطار تقدّمٍ تدريجيّ نحو الأعلى، يمرُّ في تراتبيّته بفتراتٍ بينيّة تتسم بالصراع القلق. على ذلك الأساس يرى المؤلف، أنَّ ما بعد الثقافة علامة على طورٍ إنسانيّ رابع بدت علاماته أخلاقيا وفكريا منذ قنبلة هيروشيما ثم تباعًا خرائط الحمض النووي للإنسان، التي تشير إلى امتلاك الإنسان قدرات التدمير والتعمير.

فمنذ تلك اللّحظة كانت التحوّلات التي طرأت على الفرد والجمهور (جزء من الشعب) من جهة علاقتهما بالمجتمع (وسيط بين الفرد والكيان، أيا كان ذلك الكيان قبيلة أو دولة) قد تسبّبت في إعادة إنتاجٍ مستمرة للثقافة. وتبدو تلك الإعادة في الإنتاج جليّة عندما ننظر لها، على الصعيد الشخصيّ، في الواقع الفضائيّ الإلكترونيّ. فالمتلقي في تلك الحالة يُعيد ما يتلقّاه في صيغته الخاصة دون مُراعاةٍ لأيِّ حدودٍ أخلاقيّة وجماليّة معينة.

وهو ما ينتجُ عنه صيّغ متكاثرة داخل دوّامةٍ من التلقي الآخري المختلف الذي يقوم بإعادة الإنتاج وفقا لأسلوبه الخاصّ الذي وَجد فرصةً للتعبير عن نفسه من خلال حالة المشاعيّة في الواقع الفضائيّ المُتوفر على إمكانيّات اختلاقٍ وإعادة متعددة. هنا يبدو أنّ إسقاط «الهجين» على الواقع ليس سوى ملمحٍ أكيد على فترة ما بعد الثقافة التي يرى المؤلف أن ملامحها بدأت تطغى على حياتنا.

وتأتي تلك التحوّلات هنا كإرهاصات للتأكيد على حالة ما بعد الثقافة، التي تُشكل الهجنة جزءًا مُكوّناً فيها، مثل كل الملامح الأخرى. وهي ملامحٌ كلها تثبت حصول تحوّلٍ جذري على مستوى التعاطي مع العالم من حولنا، ولكن مع الحاجة للتساؤل بشكلٍ جديّ:

إلى أيّ حدٍّ يمكن اعتبار الرّاهن التاريخيّ اليوم، في ظل فترة ما بعد الثقافة، دليلا فعليا على طورٍ متقدّم في حياة الإنسان؟



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.